إغلاق
 

Bookmark and Share

الجهاد المدني.. الطريق إلى فعل مختلف ::

الكاتب: د.أحمد محمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/03/2002

"ماذا نفعل؟" سؤال الوقت الذي يتكرر مع كل أزمة تشتد وتتعرض لها الأمة؛ حيث يعم الشعور بأننا أسرى خيارين لا ثالث لهما؛ فإما القيام بفعل مسلح والاشتباك بالقوة مع مصدر التهديد، أو القعود والاستسلام فريسة لليأس.

لقد حاولنا أن نثبت أن بين الخيارين مساحات من المشاركة والفعل، وذلك عبر تجارب مختلفة في مهام لدعم الانتفاضة، وكان كاتب هذه السطور قد بلور مبادرة في مواجهة أحداث 11 سبتمبر، كما بدت الانتفاضة العالمية ضد الحرب على العراق فرصة أكبر وأبلغ دلالة على ما حاولنا إثباته بما يدفع الآن لضرورة إطلاق مبادرة مبدئية - نسعى لإدارة حوار ونقاش مفتوح حولها- تبلور الخبرات المترامية، وتواجه دورات الإحباط المتكررة عند الأفراد حتى تصبح المقاومة فعلا يومية.

وعليه فإن الأفكار والسطور التالية تنطلق من اقتراح مبدئي لا بد من القبول به لتصبح التصورات المطروحة هنا ذات معنى وجدوى. وهذا الاقتراح يقول بأن الفرد المدني العادي الذي لا يحمل بندقية أو قنبلة يمكن أن يكون شريكاً أساسياً هو وأسرته ومن هم مثله في فريضة الجهاد ضد الهيمنة - أو بالأحرى محاولات الهيمنة- الأمريكية، وإذا كانت شعوب الأمة قد تفانت طوال تاريخها في تنظيم بذل حياتهم استشهاداً وفداء لمعتقداتهم وأوطانهم؛ فإنه قد حان الوقت ليتعلموا كيف ينظمون مفردات عيشهم وحركتهم اليومية في سبيل رفعة هذه الأديان والأوطان.

الجهاد المدني.. تشريح المفهوم
الجهاد المدني هو مفهوم مركب مستمد من عدة روافد قديمة وحديثة، ويسهم في تفسيره وتسييره عدة مكونات، وأعتقد أن استعادة هذه الروافد متضافرة، وفهم آليات هذه المكونات قد بات ضرورة حياة بالنسبة لأمتنا. ومن هذه الروافد والمكونات:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أ-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو قطب محوري حاكم في التصور الإسلامي، بل وكل فكرة دينية أو إنسانية ذات طابع اجتماعي، ولا أقصد في هذه العجالة فتح نقاش -أراه لازماً- حول الالتباسات والعقبات التي أحاطت بالمفهوم، ولم تزل تعطله أحياناً، أو تفتعل فيه ما ليس منه أحياناً أخرى، ولكنني أقول بوضوح: إن استدعاءه هنا يأتي بوصفه شيئاً مختلفاً عن مجرد فعل الخير البسيط -على أهميته-، وهو مختلف عن الوعظ والإرشاد، وعن المعارضة السياسية أو غيرها من وجوه تم صرف المفهوم إليها. ولسنا هنا بصدد نقاش صحة كل فهم من هذه الأفهام أو دلالته، ولكننا فقط نقصد التوضيح بأننا نصرفه إلى أفق أوسع، وتطبيقات أكثر تركيباً وعمقا. ونرى لذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بأنشطة تضم آحاد الناس، وتدربهم على إدارة شئون أنفسهم في مجال من مجالات الحياة: تعليم وصحة... إلخ، على نحو يقيم المعروف بمعناه الواسع، ويحارب المنكر بصوره المتعددة ومستوياته المختلفة، وهذا -في فهمنا- هو معنى تغيير المنكر باليد الذي هو أعلى مراتب هذه الفريضة المظلومة.

ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد وظيفة يحتكرها "أولو الأمر"، أو تبتذلها مجموعات من المتحمسين؛ فتضرب سكيراً أو تحرق نادياً للفيديو إلخ، بل هي جهود تتصدى للغيبوبة بالوعي والتوعية، وتسعى مثلاً لإنتاج إعلام وترفيه نافع وممتع بدلاً من أن تكتفي بخلع شعرة من جسد الإعلام الضال المضلل، ولا ينحصر دور آحاد الناس -في تصورنا- على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان والقلب والوعظ والتنبيه، إنما يتعدى الأمر إلى إقامة بنيان الخير ومقاطعة روافد الشر، ودعوة الناس إلى هذا وذاك، وتدريبهم على المهارات اللازمة للنهوض به، والتماس التمويل اللازم له من القادرين بوصفه ركناً من أركان الدين لا يقوم إلا به، وبوصفه فريضة واجبة على كل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، ويدرك أن الله سيسأله يوم القيامة عن الدور الذي قام به فيها أو تخاذل عنه!!

اللاعنف.. الكل يمكنه الفعل:
ب- اللاعنف وهو من مناهج التفكير والفعل التي تتسق مع الدعوة للجهاد المدني؛ إذ يقوم على استخدام أساليب في التواصل والتعبير والتعبئة والتأثير تبتعد تماماً عن العنف بدرجاته وأنواعه، بل وتحاربه بوسائل شتى.

والعنف هنا يأتي بمعنى واسع يمتد إلى المستوى اللفظي وغيره من مستويات العمل والتفاعل مع الأحداث والأشخاص في الدوائر المختلفة، بدءا من الأسرة وانتهاء بالمجتمع الدولي، ومن أنواع العنف التي يغفل عنها الناس مثلاً ما يمكن تسميته لعنف بالترك"، وهو الإهمال بصوره، والفساد بأنواعه.

وهناك علاقة وطيدة بين العنف والقوة؛ فالاعتماد على فكرة القوة بأنواعها كمدخل للتغيير أنتج تركيزاً للفاعلية -على المستوى النظري- في مساحات بعينها، حتى ارتبط التغيير في أذهان الناس بالحاجة إلى قوة إيجابية مادية مسلحة أو غير مسلحة لإنفاذه، وأنتج هذا صراعاً مضاعفاً على السلطة؛ حيث لا فعل خارج دائرتها طبقاً لهذا الفهم، وبالتالي أصبح الفعل محصوراً في نخبة معينة هي التي تمتلك القوة لتفعل!!

واللاعنف منهج يرى أن الكل يمكن أن يفعل، وأن عدم امتلاك القوة المادية ليس ضعفاً بل هو نوع آخر من أنواع الفاعلية يمكن تسميته بقوة الضعيف التي تربك القوي الذي لم يتدرب إلا على مواجهة العنف بالعنف، والقوة المادية بالقوة المادية.

وفي التاريخ أمثلة متعددة على منهج اللاعنف في العمل، وهو على درجات، منها ما يسمى بالمقاومة "غير العنيفة" مثل حالة: غاندي في الهند ضد الإنجليز، ومنها صور العصيان المدني، وحتى الثورات البيضاء مثل الثورة الإيرانية، واعتماد منهاج اللاعنف -في تصورنا- مثله مثل توسيع مفهوم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يقتضي تفعيل عمليات تنمية المهارات والقدرات والإمكانات الفردية والجماعية لإنجاز آلاف المبادرات التي لا تحتاج إلى قوة مادية لإنفاذها.

من الكفاف إلى الكفاية:
ج- العمل الاجتماعي: هناك مفهوم شائع للعمل الاجتماعي، وهو العمل الخيري التقليدي المرتبط بمؤسسات أو تجمعات دينية أو جهوية أو فئوية، ويستهدف في الأغلب تقديم خدمات إنسانية أو مساعدات مالية أو عينية بما يقترب من المفهوم الإغاثي (أي حل مشكلات الناس الحياتية العاجلة)، ولأسباب متعددة فإن النتيجة النهائية لأنشطة هذا العمل تدور في مستوى تحقيق الكفاف، وليس الكفاية والتطوير، وفى أغلب الأحيان فإن الكوادر والعقليات التي تقوم على إدارة هذا العمل تتصف بالروتينية والتقليدية، ورغم وجود نسبة لا بأس بها من التطوع.. فإن الروح السائدة غالباً ما تكون هي الروح السلبية المسيطرة في مؤسسات الدولة.. لاحظ أن أغلبية القيادات تكون من الموظفين السابقين أو الحاليين محدودي القدرات والمهارات.

وبالمقابل فإن المستفيدين من خدمات هذا العمل ينظرون إليه، وينتظرونه بوصفه منحة محدودة ومؤقتة، وليس مدخلاً للإنتاج والاستغناء عنها في المستقبل.
ولا ينفى هذا أن قطاع العمل الاجتماعي يقوم بدور كبير في تقديم الخدمات الأساسية للقاعدة العريضة من الناس: صحة، تعليم، تكافل اجتماعيإلخ.

أما العمل الاجتماعي من الزاوية التي نريد التركيز عليها هنا فيعني الانتقال من إغاثة الناس، وتقديم خدمات إعانتهم على مواجهة الصعوبات المختلفة إلى بناء قدراتهم، وتطوير مهاراتهم، ورفع كفاءتهم على تنظيم جهودهم، وحل مشكلاتهم، وإدارة شئونهم بأنفسهم. وبذلك ينتقل العمل الاجتماعي من مستوى الإغاثة إلى التنمية، ولا تتم هذه النقلة إلا بشروط عدة، منها: رفع كفاءة القائمين على هذا العمل، ونقل الكثير من الخبرات الناجحة والمتطورة منهم وإليهم. وقد تقتضي هذه النقلة التبشير بثقافة التطوع وسط الأجيال الجديدة؛ مما يدفع بدماء شابة في شرايين العمل الاجتماعي المتصلبة، ويعيد رسم خريطة الأدوار، وتبادل الخبرات بين الأجيال.

ومن الجدير بالذكر هنا أن تفعيل أصول فكرة التطوع في ثقافتنا يبدو شرطاً لازماً لكفالة هذه النقلة استثماراً لزخم موجة الاهتمام والالتزام بتعاليم الدين؛ مما يستلزم خطاباً إسلامياً جديداً يسلط الضوء على الأصول والنصوص التي تربط بين فعل الخير ونفع الناس.

المجتمع المدني.. من أين نبدأ؟:
لمجتمع المدني العالمي فرصة تلوح و تستحق التواصل معها
د- ومن العمل الاجتماعي إلى دائرة أوسع حيث دور المجتمع المدني الذي تتمثل أنشطته في العديد من المؤسسات الجديدة نسبياً، التي يعمل أغلبها في مجالات التنمية والدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل.

ومع بزوغ هذه الظاهرة -على الصعيد العربي- في أوائل الثمانينيات غلب على تمويلها المصادر الأجنبية بالأساس، وبدت منعزلة عن القواعد الشعبية، وربما كانت هذه العزلة بسبب قائمة أولوياتها التي تبدو غريبة عند كثير من الناس، وتعيش هذه المؤسسات "محنةالمثقف" بكل أبعادها؛ حيث يبدو مغترباً منفصلاً عن واقعه، منطلقاً من مرجعيات وقضايا ليست هي الأهم بالنسبة للأوضاع المحلية، ويبدو عاجزاً بالتالي عن بلورة خطاب يتلاقى مع هموم مواطنيه، ويتفاعل مع اهتماماتهم.

بينما تفترض المنظومة الفكرية الأصلية للمجتمع المدني أن المواطن والجماعة فاعلة مباشرة بوسائل البحث والتدخل والضغط المدني على السلطة أحياناً والتفاوض أو الدعم أحيانا أخرى، وتعتمد الهيئات غير الحكومية على قوة الاتصالات والمعلومات وتوعية الرأي العام وضغوطه، مستهدفة الفعل بذاتها، ومتجاوزة مجرد انتقاد السلبيات كما في أسلوب المعارضة السياسية.

وعمل المجتمع المدني أصلاً يختلف عن العمل السياسي في عدة نقاط غير الأسلوب المستخدم والهدف المنشود؛ ففي فلسفته الأصلية يرى نفسه شريكاً مباشراً في التسيير والعمل الوطني بالشراكة أو المشاركة مع أجهزة الدولة، ومع بقية الفاعلين من برلمانيين وإعلاميين وقيادات شعبية ورجال أعمال، ولا غضاضة عنده في أن يكون وسطاً للتفاعل بين الأجيال المختلفة، أو الاتجاهات الأيدلوجية المتنوعة، أو بين الجهود المحلية أو الدولية حول قضايا بعينها، وهو في هذا يتجاوز الفكر السياسي التقليدي؛ حيث لا يكون الفعل إلا عبر السلطة بالوصول إليها أو بالاندماج فيها أو معارضتها.

والأصل أن يبدأ من طاقات محلية حية وموجودة، وقضايا حقيقية معتمداً على التمويل المحلى، وموظفاً لهذا كله في خدمة جزئيات بعينها، ومتواصلاً مع الأطراف الدولية المناسبة، مستهدفاً إحداث تغيير اجتماعي وثقافي يكون أساساً لتفكير وممارسة سياسية أكثر رشداً وفاعلية لمن يريد ممارسة السياسة، وبحيث يكون المجتمع المدني هو الفضاء المفتوح لاستيعاب الجهود المجتمعية وتفعيلها وتطويرها، وتلاقيها مع الجهود الرسمية والدولية دعماً للأداء في القطاعات المختلفة.

العالم.. إعادة اكتشاف:
هـ- البعد العالمي: ويبدو أن جانبا كبيرا من إدراكنا لأهمية تطوير تجربة المجتمع المدني في عالمنا العربي ترتبط بالعالم الذي بدأنا نكتشفه أخيراً.. عالماً جديداً ضخماً لم نكن ندركه أو نراه من قبل، وهو المجتمع المدني العالمي، رغم أنه كان موجوداً زاخراً ومتفاعلاً منذ وقت بعيد. فالمظاهرات المليونية التي تتحرك في عواصم أركان المعمورة الأربعة ليست مجرد تجمعات من عابري السبيل أو الشباب المتحمس أو الموظفين الحكوميين.. بل هي نتيجة لتنسيق بين آلاف التجمعات المدنية التي تعمل في ميادين شتى وتتواصل عبر شبكة الإنترنت وغيرها، وتبني تحالفاتها حول قضايا بعينها، منها العنوان العريض: "مناهضة العولمة"، وقضية الساعة الراهنة "مناهضة الحرب على العراق".

وفى هذا المحيط الهائل تدور أفكار وبرامج وخبرات وتجارب وطاقات وموارد يمكن التواصل معها، والاستفادة منها في دعم وتخصيب الأفكار والجهود والتجارب المحلية، وسواءً كان الاحتكاك مباشراً عبر المشاركة في المؤتمرات والتجمعات، أو كان غير مباشر بالاتصال عبر شبكة الإنترنت؛ فإننا نراه ضرورياً للاطلاع على ما يدور في هذا العالم، "والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها".

وفضلاً عن الدعم المعنوي والخبراتي الذي يمكن أن يوفره التواصل مع هذا المحيط؛ فإن فهم الكثير من القضايا المحلية لا يمكن أن يتم إلا عبر رؤيتها في إطار مجمل الصورة العالمية، ولكن هذا التواصل لا يمكن أن يتم إلا بتكوين رؤى وكوادر قادرة على الاشتباك مع قائمة الموضوعات المطروحة، ولا تكفي هنا مجرد الرغبة الجامحة أو النوايا الحسنة.
وبالتدريج سنكتشف أن العلاقة بين الاجتماعي المحلي والدولي العولمي أكبر مما نتصور، ومن الجدير بالذكر أن تواجد العرب والمسلمين ما زال ضعيفاً في هذه المنتديات والتجمعات والتحركات.. فهل نبادر وننتهز الفرصة؟!

الإطار وكسر الاحتكار:
و- الإطار العملي: الحركة الواسعة الدائبة التي نحرص على بعثها تحتاج إلى إطار للحركة والتسيير، وفي خبراتنا المعاصرة تعودنا أن تتجسد الأفكار والبرامج في أشخاص وهياكل تكون هي عنصر التحريك والتطوير، وتخلق من حولها دوائر من المتحمسين للفكرة بدرجات متفاوتة، وبالرغم من تعدد الأشكال واللافتات التنظيمية ما بين أحزاب وجمعيات وجماعات متنوعة الأحجام والأهداف.. فإن عيوباً مزمنة ظلت قاسماً مشتركاً بين كل هذه الهياكل، ومنها الصراعات الداخلية والتآكل التدريجي، وعدم القدرة على مسايرة التغيرات ومقاومة الضغوطات.

وما تطرحه فكرة الجهاد المدني أنها ليست محدودة بهيكل أو متحيزة محتكرة في إطار.. بل هي متحررة من هذا وذاك، تفعل عبر الأفراد، بل عبر استعادة الوحدات التقليدية التي اندثرت كفاعل نشيط مثل الأسرة والعائلة وجماعة الجيران وشلة الأصحاب، وتستفيد من الأشكال الاتصالية الجديدة مثل مجموعات الإنترنت، ورغم أن هذا التحرر من الأشكال التنظيمية الشائعة يفقد الفكرة إيجابيات الإطار التقليدي؛ فإنه بالوقت ذاته يخلصها من أعباء وقيود التراتبية الهرمية، واحتكار القرار والمبادرة، وضمور الإبداع، والملاحقات وأنواعها؛ فهو يجعل كل هذه المهام مرهونة بقدرات الفاعلين المباشرين وإمكاناتهم بحسب موقعهم ومحيط حركتهم.

ولا ينفي ما تقدم أهمية الجماعية، وإنما يحاول أن يقترح أشكالاً جديدة لتبادل الخبرات والتجارب، وإدارة الطاقات والقدرات، وتطوير المهارات والفعاليات الفردية والتواصل بينها، والجديد الذي نحاول إضافته هنا أن تتم كل هذه التفاعلات داخل إطار ونسيج المجتمع مباشرة، وليس داخل الهيئة أو المؤسسة أو الحزب أو الجماعة ثم تنتقل للمجتمع كما هو حاصل، وفي هذا الصدد لا يمكن إغفال تجارب حركة مثل حركات مناهضة العولمة في مرونتها وتنوعها وبساطتها وسرعة انتشارها وتأثيرها، ومن أهم الدروس التي يمكن أن نتعلمها هنا من هذه الحركة فكرة التعاون والتفاعل حول قضية محددة بغض النظر عن الاختلاف الذي يمكن أن يكون موجوداً في القضايا الأخرى.

الجهاد.. ماذا يبقى من المفهوم؟
المقاطعة نموذج للجهاد المدني يبحث عن تطوير
"الجهاد" وهو رافد أساسي؛ حيث يتطلب تأسيس تجربة الجهاد المدني النقاش حول تجلي مفهومه عموما- في أذهاننا، وحول ما يبقى منه بعد استعراضنا لروافد ومكونات مختلفة دون تعرض مباشر له؛ إذ يبرز الفهم السائد للجهاد على أنه الفعل القتالي المباشر بسلاح مادي مع عدو ظاهر متحيز في شيء أو مكان أو أشخاص، رغم أن هذه هي لحظة التركيز والاحتشاد النهائي لعمليات متنوعة سابقة على هذه اللحظة، وهذه العمليات هي أصل الجهاد والقوة في الحقيقة سواء دارت هذه العمليات داخل النفس أو المجتمع.

إن تغيير ما بالنفس هو أوسع بكثير من مجرد التزكية الأخلاقية أو التخلص من المعاصي بالمفهوم الشائع، إن تغيير النفس يعنى إكسابها القدرة على الفعل البسيط المتراكم الذي يحدث تغييرا في الذات وفي المحيط الأقرب للإنسان. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

والاقتصار على الظن بأن القوة في الحرب هي السلاح، وأن الجهاد هو لحظة القتال، وأن الفريضة الغائبة تتطلب نفيراً في اتجاه الالتحام المادي مع قوات العدو فحسب دون أنواع النفير الأخرى الغائبة.. هذا الفهم ساهم في تعطيل بقية العمليات الجهادية المطلوبة بشكل يومي على كل المستويات.

إن عمليات مثل: جهاد النفس، ومدافعة التخلف في السلوك الفردي والعام، ومواجهة الاستبداد في المجتمع والحكم، وغيرها من المظاهر السلبية التي نعيشها تحتاج إلى إعادة اعتبار ونظر؛ بوصفها جهاداً مفروضاً على الجميع. ولقد أثبتت الأحداث أن الإعداد النفسي للقتال، والاستعداد للتضحية، والتعبئة للمعركة النهائية ليست معضلة ولا صعبة المنال، على خلاف بقية العمليات الأخرى المشار إليها، ونرى أن غياب الإعداد والجهاد بمعانيه الواسعة قد أدى إلي نتائج شديدة السلبية علي المستوى الفردي والجماعي، كما نرى أن قصر مفهوم الجهاد على معنى القتال المباشر قد أصاب بقية المعاني والنواحي والمستويات بعطب شديد، وأصاب نفوس الناس بإحباط عميق؛ لأن الظروف المادية والموضوعية المتاحة تمنع من القتال المباشر منذ عقود، وإلى أن يشاء الله غير ذلك.

نماذج واقعية.. احتضان البدايات
التظاهر و استثمار الغضب
نماذج واقعية للمفهوم: الروافد والمكونات التي عرضناها لمفهوم "الجهاد المدني" لا تعني الغياب التام لنماذج وتجارب تعد تطبيقا فعليا للمفهوم، ونسعى هنا لإلقاء الضوء على بعضها:

حركة المقاطعة:
ونعني بها الحركة الشعبية الواسعة التي بدأت مع اندلاع انتفاضة الأقصى - وقد تم تقديم متابعة إخبارية وتحليلية لها على الموقع- بتطبيق النقاط السابقة سنجد أن هذه الحركة المباركة يمكن أن تكون مثالاً ومادة خاما تصلح للتطوير في اتجاهات متعددة، وآفاق متطورة لتصبح من أهم معالم وأدوات "الجهاد المدني" الذي نتحدث عنه، ويمكن الحديث عن بعض اتجاهات وآفاق التطوير في اتجاه دعم الاقتصاد الوطني للأقطار العربية والإسلامية، وكذلك تشجيع الادخار ومحاربة الإسراف والترف، والتأسيس لثقافة مقاومة تنتقي أو تقاطع من المنتجات الثقافية والغنية بناءً على تصورها لما هو صواب ومناسب لهويتنا، وما هو خطأ أو غير لائق بنا.

وتحتاج حركة المقاطعة إلى جهود كثيرة في البحث عن المعلومات الموثقة، وفي التبشير بأفكارها، وتبسيط أطروحتها، ونشر برامجها بين الناس.. فهل من متطوعين؟!

الدبلوماسية الشعبية عبر الإنترنت:
ونعني بها الحركة الواسعة التي نشطت -وما زالت- للاتصال بين الفاعلين من الأفراد والتجمعات متنوعي الاتجاهات والخلفيات في البلدان العربية والإسلامية ونظرائهم في بقية أقطار العالم، التي طرحت كمبادرة مبدئية يمكن أيضاً الحديث عن تطوير هذه الحركة لتحتل مكاناً متميزاً في تيار "الجهاد المدني".

وبخاصة أن حركة أو حركات مناهضة الحرب قد أصبحت ظاهرة كونية هائلة تحتاج إلى تواصل أكبر منا بوصفنا أصحاب القضية، ولم يعد مقبولا أن تقتصر جهودنا في هذا الصدد على مجرد المتابعة، وتداول المعلومات والصور، إنما ينبغي أن نتدرب على الدخول كأطراف أصيلة في هذه التحركات محليا ودوليا، والمسألة مفتوحة للمقترحات والإسهامات.. فهل من مستجيب؟!

مراقبة الإعلام التقليدي:
وليس لدينا من معلومات هنا سوى مثال أو مثالين على بدايات يمكن تطويرها لتصبح فعلاً منتظماً في تحسين أداء الإعلام التقليدي بوسائله المتاحة من صحافة وقنوات فضائية ومحلية ووكالات أنباء إلخ، سواء على مستوى احترام الثقافة المحلية أو نشر المعلومات الصحيحة أو تطوير الرسالة التي يبثها شكلاً ومضموناً.

ودور الإعلام يبدو الأشد خطورة مع بدء اندلاع الهجمات، والإدارة الأمريكية ستكون حريصة على رسم صورة معينة لما يحدث، وفي غياب وعينا أو قلة معلوماتنا، وضعف إمكانات إعلامنا، أو غياب فلسفة محددة له يمكن أن تحدث بلبلة واسعة أو موجة جديدة من الصراخ والولولة تساهم في تكريس الشعور بالعجز بدلا من الاقتراحات بالأفعال الممكنة والمتاحة والمؤثرة.

ومراقبة الإعلام المحلي والدولي ستكون مهمة كبيرة تحتاج إلى أن نقوم نحن المشاهدين- بدور فاعل في تحسين أداء إعلامنا من ناحية، والضغط على الإعلام الأمريكي -أو الموالي لأمريكا حيثما كان- ليعطي صورة أقرب للواقع.

فهم وتفعيل آلية التظاهر:
آن الآوان لنقوم بتطوير الهامش المتاح والفعل المتكرر بالتظاهر؛ ليكون أكثر تعبيرا وتأثيرا مما هو عليه الآن، إن المظاهرة ليست مجرد مجموعة أفراد يجتمعون ثم ينفضون، وليست مجرد شعارات أو صيحات تنطلق للتنفيس.

المظاهرة آلية مهمة لحشد الجهود من خلفيات فكرية وعملية مختلفة، وهي تعبير عن الاستعداد والنظام والجهازية، وهي نموذج للتعاون والمشاركة بين الشعوب والأنظمة، والأمر يحتاج إلى مزيد من الاهتمام والنقاش.

جسور و شبكات:
وتحتاج كل هذه التحركات والأفكار إلى أن تنتقل من الإنترنت إلى المجتمع، ومن النخب إلى الناس، ويقتضي هذا نوعا من التبسيط في لهجة الخطاب وأدواته، وربما يحتاج إلى نوع من الإعلام الاجتماعي الموازي للإعلام التقليدي الموجود بالفعل، ولن يتم هذا إلا بإبداع في الوسائل البسيطة التي تنفذ وتنتشر أوسع وأسرع، وحركة التبسيط أو الإعلام الموازي هذه تحتاج إلى طاقات وجهود كثيرة وأفكار ومقترحات من الجميع.. فهل من متفاعلين؟!

تحتاج كل هذه البدايات إلى احتضان وتفعيل وتشبيك ودعم يساهم في استثمار الطاقات وتوسيعها، وتشجيع المبادرات، وتنمية مهارات العاملين والفاعلين فيها.
هذه هي الأفكار التي وددت أن أطرحها في تلك اللحظة الدقيقة من حياة أمتنا، لحظة تحتاج منا إلى التركيز والتفكير، والعمل المنظم، والحوار الهادئ، وسننجح بمقدار ما نحتفظ بعقول تعمل، وجهود تتشابك تدفعها مشاعر تفيض في قلوبنا جميعا.

إن
معركتنا مع الظلم والباطل والشر طويلة ومريرة، ولو استطعنا تنظيم أنفسنا، وإنتاج ردود أفعال مؤثرة؛ فإن هذا سيكون نجاحا يقلل من تضحياتنا، ويخفف من شعورنا بالخسارة في هذه الجولة.

وسأكون ممتناً لكل من يتفاعل مع هذه الأفكار فينقلها إلى غيره، ويتحاور حولها مع من يعرف، أو يعمل بها في المحيط الذي يتحرك فيه، وسيسعدني أن يصلني رد مشجع أو إضافة موحية أو معلومة نافعة أو نقد يساهم في تطوير هذه الأفكار والبرامج؛ فالنص الذي أمامكم مفتوح للإسهام والتفاعل والتطوير، وقد خصصت بريدا إلكترونيا خاصا لهذا الغرض:
Act4justice@yahoo.co.uk

والله الموفق.

مثال أو مثالين :
نجح نشطاء إنترنت مصريون في وقف إعلان تلفزيوني مثير للجدل بعدما شنوا حملة رسائل بريدية لمسئولي الشركة صاحبة المنتج المعلن عنه، يهددونهم فيها بمقاطعة جميع منتجاتها إذا لم يتم وقف الإعلان.

فقد فوجئ مشاهدو التلفزيون المصري في رمضان الحالي بكم كبير من الإعلانات المستفزة التي تروج لسلع غذائية ومشروبات بصورة تخدش الحياء حيث يظهر بهذه الإعلانات فتيات شقراوات يرتدين ملابس خليعة وتصدر عنهن إيماءات وإيحاءات جنسية فاضحة بالشفاه والحركات؛ مما أثار حملة انتقادات في الصحف حتى وصفها البعض بأنها "انفجار إعلاني جنسي".

وكان أكثر هذه الإعلانات استفزازا إعلان لنوع من العصائر يطلق عليه اسم "إيزي موزو" يتكرر عقب الإفطار مباشرة حوالي ست مرات تظهر فيه ثلاث فتيات يتراقصن وينطقن باسم المُنتج بشكل خليع، والكاميرا تركز على شفاههن في لقطة كبرى، وواحدة منهن تأتي بحركات غير لائقة، وإعلان آخر لنفس الشركة عن منتج آخر يتضمن كذلك فتيات وفتية ينظرون للكاميرا بشكل مثير وينطقون اسم المنتج "ياهوو" بشكل أكثر إثارة. وقد دفع هذا بعض نشطاء الإنترنت لمراسلة أصحاب هذه الشركات وتوجيه النصح لهم بوقف هذه الإعلانات التي تخدش حياء الأسرة، مع التهديد بمقاطعة منتجات هذه الشركات ووضعها في قائمة واحدة مع الشركات الإسرائيلية والأمريكية.

وجاءت النتيجة الأولى للحملة إيجابية، حيث قرر رئيس شركة "فرج الله" للعصائر المسئولة عن إعلان إيزي موزو وقف الإعلان فورا والاعتذار لنشطاء الإنترنت الذين راسلوه على بريده الإلكتروني أو تحدثوا معه هاتفيا، والتأكيد على أن شركته مصرية 100% وتحترم مشاعر المشاهدين؛ ما دفع نشطاء الإنترنت للاستمرار في حملتهم على منتجات شركات أخرى وعلى مطربين ينتجون شرائط فيديو كليب خليعة تتضمن حشدًا من الفتيات شبه العاريات يرقصن بأشكال مثيرة.

وكانت الحملة قد بدأت بواسطة إحدى ناشطات الإنترنت، حيث أرسلت "إيمان بدوي" رسالة وزعتها المجموعة البريدية النشطة (arabian2000)- إلى محمد فرج عامر رئيس شركة فرج الله المصرية لإنتاج العصائر ومصنعات اللحوم على بريده الإلكتروني تقول له فيها: "أنا أعرف أن رجال الأعمال مشغولون دائما ولكن لا يشغلك عملك عن الله وتحري الحلال والحرام في عملك؛ فكلنا عابر سبيل في هذه الحياة فلا تجعل متاعك الذي تحمله معك للآخرة يقربك من النار. سيدي العزيز لقد رأينا الإعلانات التي تظهر في التليفزيون وهي تسيء إليكم أيما إساءة ولا عذر لك أنك غير مسؤول عنها فإنها تحمل اسمك ومنتجاتك...".

وتضيف: "فيا أستاذي، إن هذا الإعلان يصلح لأن يكون إعلانا عن فيلم للجنس وليس إعلانا عن مشروب، ما هذه الخلاعة والابتذال؟ هل تظن أن هذا سيجعل الناس يشترونه؟ أعوذ بالله من الربح الذي سيأتي إليك من ورائه. لقد منعت أبنائي من شرائه ونفكر بالامتناع عن شراء أي منتج لكم حتى تراعوا الله في أنفسكم وفينا... فهل يصح أن نضع المنتجات المصرية لمثلكم في قوائم البدائل للمنتجات الأمريكية ثم تفعلون أنتم ذلك؟ ثم ما هذا الاسم إيزي موزو؟ لماذا لا تحسنون اختيار الأسماء؟.

سيدي: إن اسمك يحتوي على كبيرين، فبه لفظ الجلالة الله، ثم محمد، فأرجو أن يكون اسمك ومنتجاتك وسمعتك جديرين بهذا الاسم. وأنتهز هذه الفرصة لأعترض أيضا على الإعلانات الأخرى لعصير "ياهوو". لماذا الإصرار على استخدام النساء في إعلاناتكم؟ ألا يمكن استخدام الأطفال أو الرسوم المتحركة؟".

وتختم صاحبة الرسالة بالقول: "أحب أن أخبرك أنى أقاطع السلع الأمريكية وقد أضفت لقائمة المقاطعة كل سلعكم حتى تنتهي هذه المسخرة المسماة بإعلانات إيزي موزو وياهوو، وأنه تم إرسال نسخة من هذه الرسالة لجميع الأصدقاء والمنتديات لكي يشاركني الجميع في هذه الرسالة، فأرجو من جميع الإخوة إرسال هذه الرسالة لكل من يعرفون، وإلى السيد محمد فرج الله عامر هداه الله ولكم جزيل الشكر".

وقد تلقت شركة فرج الله كماً كبيراً من الرسائل الاحتجاجية على هذا الإعلان، منها احتجاجات لتجار يعلنون فيها أنهم سيقاطعون بيع هذا المنتج بسبب هذا الإعلان؛ ما دعا رئيس الشركة للرد على نشطاء الإنترنت -عبر مديرة مكتبه- حيث أرسل رسالة إلى الناشطة التي أثارت الأمر من البداية يقول فيها: "تلقيت ببالغ الاهتمام رسالتكم بخصوص الإعلانات الخاصة بنا، ونحيط سيادتكم علما أنه قد تم اتخاذ اللازم". وأعقب هذا اتصال تليفوني معها من المهندس محمد فرج عامر الذي أبدى أسفه؛ لأنه لم يشاهد الإعلان إلا قريبا -كما تقول الناشطة إيمان بدوي- وكان له فعلا ملاحظات عليه وتم وقف الإعلان.

حملة شرسة
وقد عادت هذه الناشطة -عبر المجموعة البريدية "arabian2000"- بعد تحقيق هذا النصر لدعوة زملائها عبر الشبكة أيضا لبدء ما وصفته بـ "حملة شرسة على نوعيات الإعلانات والأغاني المسفّة"، منها "حرب" وفق تعبيرها- على إعلانات مشروب "فيروز" الذي لا يقل خلاعة عن إعلان إيزي موزو، بل يزيد عليه، داعية لإرسال رسائل لهذه الشركات، "محذرين بمقاطعة منتجاتهم حتى يعودوا لرشدهم"، وقالت بأنها اتصلت بهم بالفعل ووعدوا بتوصيل الأمر للمسئولين.
ومعروف أن الإعلان عن مشروب فيروز (شعير بطعم الفواكه) كان بدوره محل نقد في الصحف المصرية بسبب اعتماده على عنصر الفتيات اللائي يتحدثن بإثارة عن المنتج ويستخدمن عبارات غير لائقة.

الفيديو كليب
من ناحية أخري بدأ النشطاء حملة على المطربين وأغاني الفيديو كليب التي أصبحت تُعرض في التلفزيون بغزارة، وبنمط واحد عبارة عن مجموعة فتيات يلبسن ملابس ساخنة ويرقصن بشكل خليع وراء المطرب، وبدؤوا في توزيع البريد الإلكتروني لبعض هؤلاء المطربين، مثل راغب علامة، على بقية زملائهم لمراسلته ونصحه "بالتي هي أحسن"، وفق تعبيرهم تحت شعار الحديث الشريف: "من رأى منكم منكرا فليغيره...".

وجاء في الرسالة الخاصة بهذه الدعوة عبر الإنترنت: "فلنبدأ الكلام بصوت عال ولنعترض ولنقل رأينا بشجاعة ولا نتوقف، ابحث عن عنوانهم وحدثهم وقل رأيك ولا تسكت.. فكفانا سكوتا، فكلما سكتنا تمادوا هم في ضلالهم وإضلال أبنائنا".

يذكر أن حسن حامد رئيس التلفزيون المصري أصدر قرارا في الأول من رمضان بمنع عرض أغاني الفيديو كليب في رمضان بالتلفزيون المصري احتراما لقدسية الشهر الكريم بسبب ما تتضمنه هذه العروض من مشاهد مثيرة لفتيات راقصات.

الكاتب:
الدكتور أحمد عبد الله






الكاتب: د.أحمد محمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/03/2002