إغلاق
 

Bookmark and Share

اضطراب العناد الشارد ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/10/2004


اضطراب العناد الشارد Oppositional defiant disorder:
طفل في العاشرة من عمره أحضرته أمه للعيادة وهي تشكو منه بمرارة لأنه كثير الجدال في كل شيء لا يترك كلمة إلا ويعلق عليها بشكل عكسي، وهو مستفز بشكل دائم، ولديه رغبة في مخالفة كل النصائح والتعليمات التي يتلقاها من الأب أو الأم فمثلاً حين ينزلون إلى الشارع ويمشون على الرصيف يصمم هو أن يمشي في نهر الطريق ويصبح معرضاً لأن تضربه السيارات المسرعة ومع هذا لا يستجيب لاستغاثات أبويه فهو دائماً في حالة تحدي وخروج عن الطاعة وعن الخط العام للأسرة. أما في المدرسة فقد اشتكى منه كل المدرسون فهو يصر أن يجلس على كرسيه في وضع معكوس بحيث يعطي ظهره للمدرس، ويرفض الإجابة على الأسئلة رغم أنه شديد الذكاء ويرفض عمل الواجبات المدرسية. وهو فوق ذلك كثير اللوم لمن حوله ويحملهم مسئولية مشاكله ويصفهم بأوصاف رديئة ولديه الكثير من مشاعر الغضب والكره والجحود لمن حوله.

هذا مثال لحالة تسمى اضطراب العناد الشارد وهو نمط ثابت من السلبية والعدائية والسلوك الشارد ولكن دون انتهاكات خطيرة لحقوق الآخرين أو للقيم الاجتماعية وهذا ما يفرقه عن اضطراب السلوك.

معدل انتشاره:
إن درجات خفيفة من العناد والسلبية يمكن قبولها في مراحل النمو المبكرة لدى الأطفال عموماً، فالطفل يريد أن يشعر أنه شخص له كيان وذات مستقلة عن الكبار، وإرادة مستقلة غير إرادة الكبار، وهذا يكسبه صفات التفرد والشجاعة والاستقلال. وبمرور الوقت وبالتعامل الحكيم من الكبار يصبح الطفل أكثر اطمئناناً على ذاته وعلى استقلاله وعلى إرادته، ويتعلم أن العناد ليس هو الأسلوب الأمثل للتعايش مع الكبار، وأن التعاون والأخذ والعطاء يجعله في وضع أفضل في الحياة.

وتوضح الدراسات الانتشارية أن سمات العناد والسلبية بدرجاتها المختلفة تبلغ 16-22% في أطفال المدارس. وعلى الرغم من أن هذا السلوك يمكن ان يبدأ مبكراً في سن الثالثة من العمر إلا أنه غالباً ما يتضح في سن الثامنة. ويكثر هذا الاضطراب في الذكور أكثر من الإناث قبل البلوغ أما بعد البلوغ فيتساوى الجنسين.

بعض السمات الشائعة في أسرة الطفل العنيد:
لقد وجد أن آباء هؤلاء الأطفال( كلهم تقريباً ) يعطون اهتماماً زائداً بالسلطة والسيطرة والذاتية. وبعض الأسر يوجد بها أكثر من طفل عنيد وكأن هناك ظروفاً مشتركة تنتج هذا السلوك في الأسرة.

وتتسم الأمهات بأنهن مكتئبات مرهقات لا يملكن القدرة على الحوار الهادئ ويردن أن تنفذ أوامرهن دون نقاش، أما الآباء فلديهم سمات العدوان السلبي والمكايده فهم يجعلون من يتعامل معهم في حالة غيظ وغضب على الرغم من هدوئهم الظاهر.

الأسباب:

هناك مرحلتان من مراحل النمو يظهر فيهما سلوك العناد والمخالفة كعلامات للنمو الطبيعي حين تكون في حدودها المعقولة، المرحلة الأولى هي سن 18-24 شهراً حين يبدأ الصراع بين الطفل والأم حول عملية ضبط التبرز بالإضافة لبداية محاولات الطفل الاعتماد على نفسه في تناول الطعام أو اللعب، أما المرحلة الثانية فهي فترة المراهقة حين يبدأ المراهق في تأكيد ذاته واستقلاله عن الأسرة وتظهر خياراته المختلفة عن خيارات الوالدين. فإذا كانت استجابات الوالدين لهذه المرحلة التطورية هادئة ومتفهمة فإن الأمور تسير بسلام وتخف حدة السلوك العنيد شيئاً فشيئاً مع الوقت، أما إذا كانت الاستجابة غاضبة وعنيفة ومبالغ فيها هنا فقط تظهر الدرجات المرضية من العناد والمشاكسة.

وفيما يلي بعض العوامل التي تساعد على ظهور هذا السلوك واستمراره:

1- بعض الأطفال يكونون بحكم تركيبهم الفسيولوجي والنفسي أكثر ميلاً نحو الإرادة القوية، وتأكيد الذات والتصميم على الخيارات الشخصية. فإذا كان الأبوان يصران على السلطة والسيطرة وخاصة إذا كان ذلك يخدم احتياجات ذاتية لديهما فهنا يحدث الصراع بين إرادة الطفل وإرادة الوالدين وينشأ السلوك العنيد.
2- إذا تعرض الطفل في طفولته المتأخرة لصدمات من البيئة التي يعيش فيها أو مرض أو إعاقة مزمنة فإن ذلك يمكن أن يشكل بداية للسلوك العنيد كنوع من الدفاع ضد قلة الحيلة والقلق وفقد تقدير الذات.
3- وتعزو المدرسة التحليلية السلوك العنيد إلى صراعات لم تحل في المرحلة الشرجية للنمو النفسي.
4- أما المدرسة السلوكية فتعتقد أن السلوك العنيد هو سلوك مكتسب يتعلمه الطفل أثناء تعامله مع الآخرين ويتم تعزيزه مع الوقت، ومن خلال هذا السلوك يسيطر الطفل على رموز السلطة في حياته وذلك بإظهار حالات غضب وهياج كلما طلبوا منه عمل شيء، وبذلك يتجنب الوالدين طلب أي شيء منه خوفاً من تفجر ثورته، وبالتالي يعرف الطفل أنه حقق مكسباً من هذا السلوك فيتمادى فيه. يضاف إلى ذلك أن سلوك العناد يجعل الطفل العنيد محل اهتمام وحيرة الوالدين وهذا ما يريده أي طفل.
5- أو يكون الطفل غير مرغوب فيه كأن يأتي بعد أطفال كثيرين قبله، أو تأتي بنت بعد بنات قبلها في حين كان الوالدان يرغبان في مولود ذكر... وهكذا، فيشعر الطفل أنه منبوذ أو على الأقل غير مستحب فيحاول إثبات وجوده بالعناد والمخالفة وفي نفس الوقت يعاقب والديه اللذان يرفضان وجوده (ولو على مستوى اللاشعور).
6- اضطراب المزاج لدى الطفل.
7- ويمكن أن يكون العناد دفاعاً ضد الاعتمادية الزائدة على الأم وخاصة في الطفل المدلل أو الوحيد، حيث يريد من خلال عناده أن يقول" أنا هنا " ، " أنا كيان مستقل" ،" أنا رجل" .

الخصائص التشخيصية ( كما وردت في دليل التشخيص والإحصاء الرابع DSMIV ):
نمط من السلبية والعدوانية والسلوك الشارد لمدة لا تقل عن 6 شهور يوجد أثناءها أربعة أو أكثر من الخصائص التالية:
1- غالباً يفقد مزاجه ( ينفجر غاضباً).
2- غالباً يجادل مع الكبار.
3- يتحدى ويرفض أوامر الآخرين بشكل دائم.
4- يغلب في تصرفاته تعمد فعل الأشياء التي تضايق الآخرين.
5- غالباً يلوم الآخرين على أخطائه هو.
6- غالباً يستفز الآخرين ويضايقهم.
7- كثيراً ما يغضب ويعاند.
8- غالباً حقود ومحب للانتقام.
9- كثيراً ما يحلف أو يستخدم ألفاظاً سوقية.

0 وهذا الاضطراب يسبب خللاً إكلينيكياً واضحاً في النواحي الاجتماعية أو الدراسية أو الوظيفية.
0 لا يحدث الاضطراب خلال مسار اضطراب ذهاني أو اضطراب وجداني.
0 لا تتفق هذه الخصائص مع خصائص اضطراب السلوك ، وإذا بلغ الشخص الثامنة عشرة من عمره فإن هذه الخصائص لا تتفق مع اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع.
0 ويتميز العناد الشارد حسب شدته إلى:

1- خفيف: حيث تكون الأعراض قليلة تفي بالتشخيص والإعاقة الناشئة عن الاضطراب قليلة.
2- متوسط: وهو الوسط بين الشديد والخفيف من حيث درجة الاضطراب فالإعاقة.
3- شديد: حيث توجد أعراض عديدة والإعاقة مشوهة لأدائه الاجتماعي والمدرسي مع الرفاق والكبار.

التشخيص الفارق:
يجب تفرقة اضطراب العناد الشارد من الحالات التالية:-
1- العناد والسلبية في مراحل النمو مثل بداية المراهقة وهي صفات تكون في حدود معقولة وتزول أو تخف حدتها مع الوقت.
2- العناد الذي يحدث في فترات الضغوط النفسية كجزء من اضطراب التوافق.
3- اضطراب السلوك، ويميزه وجود انتهاك لحقوق الآخرين أو للقيم الاجتماعية.
4- الاضطرابات الذهانية مثل الفصام.
5- الاضطرابات الوجدانية.

المسار والمآل:
يعتمد المسار والمآل في هذا الاضطراب على عوامل كثيرة منها شدة الاضطراب وثباته مع الوقت ووجود اضطرابات نفسية أخرى مثل اضطراب السلوك أو الصعوبات التعليمية أو اضطرابات المزاج أو تعاطي العقاقير، كما يعتمد أيضاً على ثبات الأسرة وتكيفها. وعموماً فإن25%من هؤلاء المرضى يتحسنون بعد عدة سنوات، أما الباقين (75%) فإن بعضهم يبقى على عناده كما هو وبعضهم يتحول إلى اضطراب السلوك. ومما يعزز المآل المتدهور وجود اضطرابات نفسية في الوالدين مثل اضطراب الشخصية أو سوء استعمال العقاقيرأو اضطراب الجو الأسري.

العلاج:
غالباً ما يأتي الوالدين بالطفل أو المراهق يطلبون علاجه من العناد بمعني تليين رأسه الحديديه وترويضه حتى ينصاع لأوامرهما. هذا هو هدف الوالدين من العلاج سواء أعلنوه أو لم يعلنوه، ولو حدث أن سار المعالج في نفس الطريق فسيجد نفسه قد وصل بعد قليل إلى نقطة مسدودة حيث سيتحول هو الآخر إلى سلطة قاهرة وغير منطقية في نظر الطفل أو المراهق وبذلك تزداد دفاعات الأخير ويتمسك بعناده الذي يحميه - في نظره - من محاولات الإلغاء والاختراق بواسطة الكبار المستبدين. وعلى الجانب الآخر يمكن أن يتعاطف المعالج مع الطفل العنيد ضد تسلط الوالدين أو عدوانهما السلبي فيصبح عدوانياً هو الآخر تجاه الوالدين فيصل إلى طريق مسدود معهما ويتوقف العلاج.

إذن فالمعالج في مثل هذه المواقف يحتاج إلى حكمة بالغة وإلى مراعاة التوازن والموضوعية دون اتهام أحد الطرفين بالتقصير أو العدوان فكلاهما (الطفل والوالدين) يحتاج للمساعدة. ومن الخطأ أن يعمل المعالج مع الطفل فقط ويستبعد الوالدين من العملية العلاجية أو العكس بل الوضع الصحيح هو العمل معهم جميعاً بالتوازي في المراحل الأولى ثم العمل معهم بالتلاقي( جلسات علاج الأسري) في المراحل التالية. وفيما يلي نورد الوسائل والاتجاهات العلاجية المستخدمة في مثل هذه الحالات:-

(1) العلاج النفسي الفردي:

غالباً ما تكون العلاقة بين الطفل ووالديه أو مدرسيه قد وصلت إلى طريق مسدود لذلك يصبح من المفيد دخول طرف آخر محايد وموضوعي ومنطقي ومتفهم ومتقبل. وهذا هو دور المعالج النفسي الذي يعقد مع الطفل عدة جلسات نفسية فردية ولا يسمح للوالدين بتوجيه هذه الجلسات حسب ما يرون أو التحكم فيها لأن هذا لو حدث فإن المعالج سيصبح في نظر الطفل العنيد عميلاً لوالديه ولن يستطيع أن يثق به ويتعاون معه.

إذن فأهم خطوة في العلاج أن يكسب المعالج ثقة الطفل ويعطيه الأمان الحقيقي على ذاته وعلى إرادته وعلى أسراره، وأن يسمعه طويلاً ويحترم وجهة نظره وخياراته حتى لو لم يتفق معه فيها. والمعالج في علاقته بالطفل يعطي نموذجاً لشخص من الكبار ولكنه مختلف من حيث أنه متقبل للطفل ومتسامح معه ومحب له ويرغب في مساعدته ولا يهمه التحكم في آرائه وخياراته ولا يسعى لإلغاء إرادته.

في هذا الجو يشعر الطفل بالأمان على ذاته وعلى خياراته ويكتشف أن هناك كباراً يمكن الوثوق بهم والتعاون معهم، وهو لن يصل إلى ذلك بسهولة ولكن بعد محاولات عديدة لاختبار صدق وصبر وسماح ومرونة المعالج، وحين يصل إلى درجة الاطمئنان له يصبح المعالج صورة جديرة بالتقمص والتقليد بوعي أو بدون وعي من الطفل. وفي هذا الوضع الجديد يكتشف الطفل أن صلابة الرأي بالحق أو الباطل ليست فضيلة في كل الأحوال وأن المرونة تعطي فرصة للأخذ والعطاء وأن التفكير المنطقي قبل الرفض أو القبول يجعل الحياة مع الآخرين أسهل وأفضل. ومن علامات نجاح العلاج النفسي الفردي أن يبدأ الطفل في التعلق بالمعالج فهو ينتظر موعد الجلسة ويذكر والديه بها بعد أن كان يرفض الحضور في البداية. والمعالج هنا ذو نفس طويل لا يسعى إلى تحقيق تغيرات سطحية سريعة في الطفل وإنما يسعى الى تعليمه مهارات جيدة في التفكير والتواصل والتعامل تنمو مع الطفل طوال عمره. والمعالج ليس عميلاً للوالدين وليس عدواً لهما في ذات الوقت.

(2) العلاج السلوكي:
كما أسلفنا من قبل فإن العناد سلوك مكتسب قد تم تدعيمه وترسيخه دون وعي من الأسرة أو من البيئة المحيطة بالطفل. لذلك فالعلاج في نظر أصحاب المدرسة السلوكية هو إعادة عملية التربية للطفل في ظروف مختلفة طبقاً لمبدأ الثواب والعقاب بحيث يدرب الأبوين على تشجيع وتدعيم الاستجابات الجيدة من الطفل وإهمال الاستجابات السيئة وتوقيع العقاب عند حدوثها، وبذلك تحدث ارتباطات شرطية جديدة تعطي فرصة لنمو السلوكيات المرغوبة  وهذا العلاج يحتاج لتدريب خاص للوالدين وربما يحتاج لأن يقضي الطفل بعض الوقت في وسط علاجي مناسب بعيداً عن بيئته الأسرية لكي يتعلم أنماطا سلوكية جديدة في ظروف أفضل.

(3)
الإرشاد الأسري:

وهو نوع من التعليم والتوجيه للوالدين فيما يخص أسباب العناد عند الطفل وطرق التعامل الصحيحة وهو يفيد إذا كان الوالدان مثقفان ولديهما المرونة الكافية لتقبل فكرة أن هناك خطأ ما قد حدث في تربية الطفل وهذا الخطأ يمكن تصحيحه ببعض التعديلات في العلاقات داخل الأسرة. وعلى المعالج أن يكون حكيماً بالقدر الكافي فلا يوجه اللوم إلى الوالدين أو يتهمهما بالجهل أو بالتقصير (سواء بشكل مباشر أو بغير مباشر) حتى لا يستثير دفاعاتهما حيث أننا كبشر يصعب علينا تقبل أننا مخطئين وأننا آباء أو أمهات سيئين أو فاشلين، وإنما يمكن أن نتقبل أن شيئاً ما - غالباً غير مقصود - قد حدث وأدى إلى انحراف في السلوك وهذا الشيء يمكن تداركه.

(4) العلاج الأسري:
وهو وسيلة أعمق من الإرشاد الأسري، ويلجأ إليه المعالج حين يلاحظ أن أحد الوالدين أو كليهما على درجة شديدة من الصلابة في الرأي ولديه ميول نحو التسلط والتحكم في الآخرين(بما فيهم المعالج نفسه) ولديه مقاومة شديدة للتغيير ولديه مساحة هائلة من الإنكار والعمى النفسي (حيث يرى أن المشكلة كلها في الطفل وعلى المعالج أن يروضه ويعلمه الانصياع لأوامر الكبار الذين يعرفون كل شيء)، وهذان الوالدان(أو أحدهما) ربما يحاولان استخدام المعالج بطريقتهما حيث يطلبان منه أن يقول للطفل كذا وكذا، أو أن يأمره أن يشرب كوب اللبن في الصباح وأن يلبس الحذاء الأسود حين يذهب إلى المدرسة وأن ينام الساعة العاشرة، وسوف يلاحظ المعالج أنه يجد صعوبة في إحداث تغيير في هذين الوالدين ففي رأيهما أنه لا توجد لديهما مشكلة على الإطلاق وإنما المشكلة تكمن بالكامل في هذا الطفل المشاكس العنيد وأن المعالج عليه أن يبذل كل جهده مع الطفل (فقط) لتليين رأسه.

هذان الوالدان لن يقبلا فكرة الخضوع للعلاج على أنهما يحتاجان لذلك العلاج، وإنما يمكن أن يفكرا في ذلك على أنه جزء من حل مشكلة العناد لدى الطفل، وعلى المعالج أن يتجنب الاصطدام بدفاعاتهما وأن يتجنب الهجوم عليهما والانتقاص من كفاءتهما كأبوين، وإنما يبدأ في الاقتراب الهادئ منهما ومن طرق التعامل بينهما وبين الطفل طارحاً خيارات أخرى أمامهما ويعطيهما الفرصة للقبول أو الرفض حيث أن ما يطرحه مجرد اقتراحات وليست أوامر. وفي نفس الوقت يشجع وينمي أي بادرة إيجابية تظهر منهما نحو الطفل ويربط بينها وبين التغير الحادث في سلوك الطفل مما يعطيهما إحساساً بالفخر على أنهما يلعبان دوراً مهماً في التغيير. وربما يحتاج أحد الوالدين جلسات منفردة لإعطائه فرصة للتعبير عن نفسه وعن صعوباته بعيداً عن تأثير الطرف الآخر. وشيئاً فشيئاً يحدث التغيير العلاجي المطلوب ويكون مواكباً للتغيير الحادث للطفل نتيجة العلاج النفسي الفردي للطفل وحينئذ يمكن عمل جلسات أسرية تضم الوالدين والطفل معاً بعد التغيير لكي يمارس الجميع أساليب جديدة في التواصل والتعامل، ولكي يرى المعالج المشكلات التي مازالت قائمة في العلاقات البينية.

وسيعرف الوالدان ويقتنعان مع الوقت أن إرغام الطفل على الطاعة ليس فضيلة، بل إن المرونة والسماح التقبل والأخذ والعطاء والتربية الاستقلالية في جو يسوده الحب والدفء العاطفي يحول بين الأطفال والعناد المرضي.. أما العناد البسيط فيجب أن نغض الطرف عنه ونستجيب فيه لرغبات الطفل مادام هذا لن يضره وكانت رغباته في حدود المعقول. وهذا الموقف الأخير ربما يعطي للطفل نموذجاً للمرونة في التعامل. فالإنسان ليس قطارا مندفعا في اتجاه واحد أو قطعة من الحديد مثبتة في أرض وإنما هو كائن مفكر ومرن يتقدم حين يكون التقدم مطلوباً ويتراجع حين يكون التراجع أفضل، وهذه هي الخلاصة التي يصل إليها الجميع من خلال التفاعل في الجلسات النفسية، وبذلك يتخلى الطفل ووالديه عن صراع الرؤوس الحديدية.

(4) العلاج بالعقاقير:
هل هناك عقاقير يمكن أن تلين الرؤوس الصلبة العنيدة للأطفال المشاكسين؟..
بالطبع هناك الكثير من الآباء والأمهات يتمنون وجود هذه العقاقير السحرية التي تجعل من أبنائهم أطفالاً طيبين مطيعين للأوامر.. ولكن من حسن الحظ أن هذه العقاقير غير موجودة وإلا لتوقفت الحضارة الإنسانية وأصبح الأبناء صوراً طبق الأصل من الآباء وأصبحت الأجيال نماذج مكررة.

ولكن هناك في الواقع عقاقير تلطف من حدة المشاعر العدوانية مثل الهالوبيريدول والريسبيريدون وهناك عقاقير تخفف من حدة التقلبات المزاجية مثل الليثيوم والكاربامازيبين والصوديوم فالبروات وهناك عقاقير تخفف من القلق والاكتئاب مثل مضادات الاكتئاب ومضادات القلق. وحين نكتشف أن الطفل العنيد لديه مشاعر عدوانية أو تقلبات مزاجية أو اكتئاب أو قلق (وكثيراً ما توجد هذه الأشياء فعلاً في الطفل العنيد) فإن إعطاء الدواء المناسب يساعد في تخفيف العناد بدرجة ملحوظة تساعد على استكمال العلاج النفسي المطلوب.

(6) العلاج الديني:
حين ينشأ الطفل على فكرة وجود إله خالق ورازق ومحب وودود، وأن هذا الإله العظيم يستحق الطاعة لأوامره وأن هذه الطاعة ترفع من قدر الإنسان، حينئذ يتعلم درساً مهماً في الطاعة الإيجابية لمن يستحقها ويساعده ذلك على الامتثال لأشياء ربما تكون مصدر صراع بينه وبين والديه كأداء الصلاة مثلاً، فحين يعلم أنه يؤدي الصلاة طاعة لله الذي يحبه ربما تخف حدة هذا الصراع أما إذا نظر إلى الأمر على أنه تحكم من والديه فربما يرفض أداء الصلاة ليس كرهاً لها وإنما كرهاً لأوامر والديه.

وإذا تعلم الطفل أن والديه يطيعان الله ويمتثلان لإرادته ومشيئته فهذا يعلمه أن الطاعه والامتثال حين يكونان في محلهما فهما فضائل عظيمة. واذا تعلم أن هناك إطاراً مرجعياً (النصوص الدينية وتفسيراتها) يرجع إليه الجميع (بما فيهم هو وأبويه) فإن ذلك يخفف من حدة الصراع الشخصي ويعيد الأمر إلى جذوره الموضوعية المحايدة.

وعلى الجانب الآخر نجد بعض الآباء والأمهات يسيئون استخدام الجانب الديني في التربية فيعطيان صورة مخيفة للإله على أنه قاهر وجبار ويعذب بالنار على أي خطأ (اللي يكذب هايروح النار واللي يغلط هايروح النار واللي ميسمعش كلام أبوه أو أمه هايروح النار واللي يشتم هايروح النار واللي يضرب أخوه هايروح النار ....... وهكذا) وبذلك تتكون في نفس الطفل صورة مخيفة لهذا الإله ويبدأ في التمرد والعصيان فنجده يتهرب من الصلاة ومن أداء العبادات بصورة عامة وينفر من كل الرموز الدينية. وتتعمق هذه الصورة السلبية حين يريد الأب أن يتسلط على ابنه أو يقهره باسم الدين فيجعل الابن في صراع مع الأب وصراع مع الدين، وهذا وضع شديد التعقيد يستلزم جهوداً كبيرة من المعالج لفك هذا الاشتباك المعقد المرتبط بمعتقدات راسخة لدى الوالدين تحتاج لتصحيح أو تعديل.

فالطفل في النهاية يطيع من يحب فإذا أحب الأب أحب من خلاله الرب وإذا تعلم طاعة الرب فإنه يتقبل عن طواعية طاعة الأب، ولكي يحدث هذا يجب ان تصل إليه صورة الإله صحيحة ومنطقية ومحبوبة وأن يرى في أبيه سنموذجاً لهذه الصفات المحبوبة يقربه من نموذج الإله الأعظم.

 



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/10/2004