إغلاق
 

Bookmark and Share

إبحار الأجيال وتعاقب الأمواج البناءة ::

الكاتب: د.أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/11/2003

 

نحن وأنتم : تحالف الأجيال


أنا مدين بالكثير للسينما الجيدة في تطوير أفكاري، وفتح آفاق المعرفة بالعالم وبنفسي على مصراعيها، ويتأكد لي هذا يوما بعد يوم، وبخاصة في أعقاب مهرجان القاهرة ا لسينمائي الدولي الذي أحضر عروضه بانتظام - على قدر وقتي - عبر أكثر من عشر سنوات، وفي دورة مهرجان هذا العام 2003 انبثقت في ذهني بلورة لفكرة كانت تتسكع في رأسي غير ناضجة ولا واضحة لفترة سابقة، وعندما تحدثت عنها مع أخي الدكتور وائل أبو هندي قال لي ولما لا تكتبها في مقال؟

جيلنا الصامت زهدا

كتبت مقالا من جزأين - أحاول البحث عنه هذه الأياموكنت قد نشرته في جريدة شبابية صدرت تحت اسم(الجيل) من سنوات، وفي المقال تحليل أزعم أنه غير شائع عن جيلنا، وعن الدور الذي يمكن أن يقوم به، وعن قصته من نشأته وصباه، وحتى كهولته الحالية، والكهولة لمن يجهلها هي السن حول الأربعينات، وجيلنا هو الجيل الذي قضى دراسته الجامعية أو شطرا منها على الأقل في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وهو جيل يتصف بصفات ويتميز بمميزات، منها تعرضه لخبرات متوالية وكثيفة على المستوى العام من تحولات سياسية وحضارية كبرى سواء على المستوي المحلي المصري، أو الإقليمي العربي، أو الدولي العالمي، وهذه الخبرات صقلته، وأعطته معرفة وحكمة يستطيع معها النظر بتوازن- غائب عن الآخرين- إلى الأحداث والأشخاص ولأوضاع في الماضي والحاضر.

وشرحت في مقالي ذاك بإسهاب ما أراه أسبابا لصمت جيلنا، رغم أن لديه الكثير مما يفيد في إجابة الأسئلة التي تحيرنا حاليا، وضغط الأحوال التي تواجهنا جميعا، وبين الإقصاء الذي تتعرض له أجيالنا كلها - تحت الستين - والانشغال بالمعايش وتدبيرها، وضخامة التحديات، وصخب الضجيج الصادر عن كل من هب ودب يفتي في الشأن العام، وهو أجهل من دابة عمياء لا ترى طعامها، ولا حدود مربضها!!! ففي هذا السياق وتلك البيئة يكون الصمت خيارا مرشحا، والزهد في المشاركة حلا لتسكين الأوضاع على جبهة العلاقة بين الشأن الفردي الخاص، والشأن الجماعي العام، لدى الأغلبية الساحقة لأبناء جيلنا.

0وهكذا يبقى جيلنا شاكيا أو مجتهدا في خاصة أموره دون رغبة أو إرادة أو فرصة للاشتباك مع هموم أمته، فيغيب ولا يستدعيه أحد، ويسكت فلم يستنطقه أحد، وينعزل ويتآكل عطاؤه لأنه لم يجد من يطلبه أو يطالبه أو حتى يحتاج إليه !!!

وإضافة إلى مشكلاته الاقتصادية والأسرية والاجتماعية فإن الفرد من جيلنا يعيش أزمة عمرية حقيقية يستسلم البعض فيها لطقوس الشيخوخة رغم أنها ما تزال بعيدة بينما يحاول آخرون الإمساك بتلابيب الصبا والتصابي رغم أن أوانها قد فات، وتردده في البحث عن هوية عمرية ينعكس في المزيد من التخبط في البحث عن دور، رغم النجاح الساحق الذي حققه البعض في المستويات والمساحات الشخصية والمهنية ... ولكن يبقى الطموح إلى دور عام غائبا بحكم العزوف، أو مجهضا بحكم الظروف .

جيل التيك أواي

وفي أمتنا جيل آخر لا يقل أهمية عن جيلنا،.... هو جيل السرعة في كل شيء: إيقاع التفكير والسلوك .... نمط الغناء والترفيه ....شكل العلاقات والخلافات، جيل متمرد على تقاليد البطء والركود، وأصنام الفشل والتخلف، وقيود العادات القديمة البالية، والتصورات السقيمة المزعجة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من مهانة وفوضى ودمار.

هذا الجيل رافض للواقع بكل سلبياته، ويبذل جهدا لا بأس به في أن يصنع لنفسه مسارا خاصا، ولونا جديدا، ومنهجا في الحياة يتناسب مع مستجداتها، وهو لا يريد الخروج عن الملة، ولا الكفر بالأمة، ولا الهجرة بلا عودة، ولكنه أيضا يريد أن يتنفس ويبدع ويعيش بحرية، والحرية هي مطلبه الأول، ولا يرى فيها تعارضا حتميا مع ما يؤمن به من ثوابت وهو جيل يسمع لاذع النقد بأذنيه، وبرى محاولات التضييق عليه وتحويل مساره، ويحاول أن يتقدم نحو الحرية خطوة في حدود الممكن فيصرخ به الصارخون من شتى الاتجاهات والأجيال: هذا خطأ .. الأخلاق ... الأصول، ولا يقدم له أحدا بديلا ولا سبيلا يعيش به فطرته الإنسانية، وحريته الشخصية، وقناعته الدينية دون تضارب أو تشويش وهذا الجيل الجديد لديه من الحماس أضعاف ما لديه من الخبرة أو الحكمة، وهذا مفهوم بحكم السن، ولديه من الطموحات أكثر مما لديه من المهارات والكفاءات، وهذا أيضا مفهوم، ولكن العصر يعطيه إمكانيات هائلة لو أحسن استثمارها لاخترق حواجزَ كثيرةً، ولتغلب على ثغرات وفجوات وإعاقات كثيرة تقلل من فاعليته، وتجعل من الرعونة صفة غالبة على حركته.

وطاقة هذا الجيل يمكن أن تنحرف فتضره أو تزيد أحوال أمته سوءا، ولكن الأخطر -من وجهة نظري- أن تتبدد هذه الطاقة، وهي مرشحة لذلك بامتياز في مناخ خانق للفرص، مضاد للإنضاج، كابت للتعبير الحر عن الآراء والاختيارات، وفي ظل مناخ كهذا سيكون مفهوما أن ترتفع معدلات الهيام بالغرب ونموذجه الحضاري والثقافي والمعرفي لأنه يظل النموذج الذي يتيح حرية وتحررا في مقابل لاشيء غير القيود والأثقال، وحكايات الجدات، والمواعظ التي ملتها حتى أخشاب المنابر التي تحمل أصحابها !! ومثل جيلنا فإن كفاءة أفراد هذا الجيل الشاب يمكن أن تنقذهم من الفشل الشخصي، وتحملهم إلى شاطئ الاستقرار والنجاح فرادى كما حملت غيرهم .

الانعتاق ممكن

ليس التخلف الذي نعيشه قدرا محتوما، ولكنه وضع تحالفت في إنتاجه ومراكمة نتائجه أسباب وظروف متعددة، والخروج من هذا المأزق الممتد ممكن، ولكنه مثل التحرر من أي فخ يحتاج إلى تفكير وتخطيط وعمل. ويجب أولا الإيمان بالإمكانية وإلا أصبح السعي للإصلاح مغامرة طائشة أو خاسرة، ويلزم ثانيا - إدراك أن جيلا بعينه مهما أوتي من قدرات سيظل أصغر وأضعف من حجم الكارثة، غير قادر على تحقيق الاتفاق المنشود أو الانطلاق المنتظر. ومن بين الأجيال التي تعيش في أمتنا يبرز هذان الجيلان: جيلنا نحن الذين على أعتاب الأربعينات أو من تخطاها منا بقليل، وجيلكم أنتم على أعتاب العشرينات أو من تخطاها منكم بقليل.

إن تحالفا يمكن أن ينشأ بين هذين الجيلين، وأعني بالتحالف هنا أن يحصل الاتصال المستمر الذي تتدفق عبره الحماسة والطلب والأسئلة من الجيل الأصغر إلى الجيل الأكبر . بينما تنساب الخبرة والإجابة والدعم من الجيل الأكبر إلى الأصغر. هذا تحالف يحتاج إلى ثقة في النفس، وفي المستقبل  وفي الجدوى من فعل أشياء تبدو بسيطة ثم ما تلبث أن تتجمع وتتراكم، وتؤدي إلى تغيرات أهم، وهو تحالف يحتاج إلى تفهم وتفاهم من الطرفين ... وإنصات وتواصل وتفاعل متبادل دون أن يظن أحدهما أنه يمكن أن يعمل منفردا أو يستغني بما لديه .

هذا التحالف له أمثلة وسوابق قريبة، وان كانت غير متبلورة بالشكل الكافي، وما يلاقيه داعية مثل"عمرو خالد" وهو من جيلنا من نجاح وسط الجيل الأصغر الذي وصفته ...إنما يبدو لي نموذجا قابلا للتكرار، والطموح أن يصبح هذا موجودا بشكل جماعي ومستمر ومركب،  والإنترنت فرصة ذهبية لتحقيق هذا التواصل، والتغلب على كل معوقات الاتصال الحي من انشغالات الجيل الأكبر، وصعوبة الحصول على أماكن تتسع للقاءات المطلوبة .... الخ العقبات المعروفة في عالمنا العربي من ناحية الالتقاء بالشباب، أو حتى التواصل بين الأجيال بصفة عامة .

وربما تتاح فرص أوسع للقاء الحي أحيانا لا، ولكن الإصرار على تحقيقه في الفضاء الإليكتروني أولا يبدو الحد الأدنى الذي لا ينبغي أن نتنازل عنه، وأعتقد أن نجاح تجربة مثل صفحة مشاكل وحلول الشباب على موقع إسلام أون لاين، هو الذي أغرى بتفعيل موقع مجانين وصفحة استشارات مجانين، ولا ينبغي أن نغفل عن أن غالبية الجمهور من جيل العشرينات، بينما أغلبية المستشارين والخبراء هم من الجيل الأكبر الذي أنتمي إليه.

وفي السينما أيضا شاهدت في دورة المهرجان لهذا العام عدة أفلام تتناول موضوعات شتى ولكن قاسما مشتركا يجمعها، وهو الحضور الظاهر لهذين الجيلين معا في مواجهة خطر أو تحدي ما

0 فيلم شرخ في الجدار وهو سويدي إنتاج عام 2002 يروي قصة مدرس يقطع مساره الأكاديمي في دراسته العليا ليعمل بالتدريس، وهناك يجد ما يخرجه من حالة الاكتئاب المزمنة التي يعاني منها، ويكاد في نوبة من نوباتها الشديدة أن يقضي على حياته، وفي المدرسة يكتشف المدرس تلميذا عبقريا في الرياضيات، ويكرر مساعدة هذا الطالب بشكل تطوعي ليعده لدراسته الجامعية، ويصبح هذا الهدف هو الشغل الشاغل للمدرس قبل الطالب، وفي نفس الفيلم نرى أن الجيل الذي ينتمي إليه المعلم يعاني من إحباطات متعددة وكثيفة، ولا يخفي السيناريو هذه  المشكلات بل يحرص على إبرازها بالشكل الذي يجعل من مساعدة الطالب خشبة إنقاذ أخيرة - فيما يبدو - للمدرس، ونرى قاسما مشتركا بين المدرس، والفتاة صديقة تلميذه فكلاهما ضد الاستغلال، وظلم العمال في المصنع الكبير بالبلدة، وتتشابك الأحداث حتى نرى في مشهد النهاية مظاهرة ضد الإدارة الجديدة للمصنع وتذهب الفتاة لتتظاهر، ويهجم عليها الحراس فيضربونها، ولا ينقذها غير المدرس الذي يتلقى عنها الضربات بجسده .

0 أما فيلم الذي تبحث عنه وهو إيطالي إنتاج 2002 فيروي قصة مخبر خاص في مطلع الأربعينات من عمره يعاني من الاكتئاب والملل من وظيفته وحياته، ولكن رتابة العيش تنتهي تماما حين يقبل بمهمة جديدة تتمثل في حماية أب أحد أصدقائه- في مطلع العشرينات من العمر - ويكتشف تدريجيا أن الابن متمرد ورافض مثل الآلاف من أصدقائه، ولكل واحد منهم مشكلة، ويتورط الابن مع مجموعة من أصدقائه في جريمة قتل، وهنا يتدخل المخبر الخاص ليساعد الابن على الهرب، وعبر الصراع بين الطرفين - المخبر والشاب - تنشأ علاقة وثيقة بينهما حتى تصل الأحداث إلى ذروتها في النهاية.

0ولا يبتعد فيلم قبلات القط - وهو أسباني إنتاج عام 2002 - كثيرا عن نفس العلاقة المحورية بين الجيلين، ولكن هذه المرة نرى المحامي الناجح يعود إلى بيته متأخرا فيجد أن ابنته ذات السبعة عشر عاما لم تعد إلى المنزل، فيقرر البحث عنها في شوارع مدريد، وعالمها الليلي، وعندما يعثر عليها يجدها تبحث عن صديقها الصبي المتمرد، فيستكمل جولته الليلية المزعجة برفقتها بحثا عن الصديق، وخلال هذه المرحلة المدهشة يتكاشف الطرفان حول علاقتهما ببعضهما وبالعالم، ويكتشفان حاجتهما لبعضهما البعض، ولكن الأوان يكون قد فات فيما يبدو.

0فيلم السيرك الخفي - هو أمريكي إنتاج عام2001 يعود إلى منتصف السبعينات لنكتشف أن هذا التحالف أو التقارب أو الاحتياج بين هذين الجيلين يبدو قديما ....نرى الفتاه الصغيرة التي لم تتجاوز العشرين تطير من أمريكا إلى أوربا مقتفية آثار أختها التي ماتت قبل عشر سنوات أثناء رحلة طويلة إلى أوروبا، وتلتقي الفتاه في فرنسا بصديق أختها السابق، وتبدأ في اكتشاف فصول رحلة أختها، وبالتدريج يكشف لها صديق أختها - وهو في الثلاثينات من عمره - كيف كانت ثورتهما على الأوضاع العامة في بداية رحلتهما إبان ثورة الطلاب في باريس عام عام 1968، وتطورات أحداث حرب فيتنام، والحركة الواسعة المناهضة لما في أمريكا وخارجها، ويناقش الفيلم رفض الشباب لواقعه ومحاولاتهم لتغييره، وأساليب الرفض المسلح التي كانت من أبرز الخيارات المطروحة في ذاك الوقت، وبخاصة مع تصاعد الأفكار الاشتراكية في مواجهة الأوضاع المضطربة اجتماعيا واقتصاديا في أوربا وأمريكا نهايات الستينات، ومطلع السبعينات، وعبر العلاقة التي تنشأ بين صديق الأخت، والفتاه تستمر الرحلة حتى نهايتها لنصل إلى ذروة انكشاف الحقيقة المأساوية، وكأن الوصول لم يكن ممكنا إلا عبر الجهد المشترك بينهما.

ويمكن أن أستطرد لأروي كيف بدا هذا الخط الدرامي - الفكري متكررا بشكل غير واعي ربما - عند من يصنعون هذا الفيلم أو ذاك، وعدم الوعي هذا هو ما اكتشفته مثلا أثناء نقاش طويل مع مخرج الفيلم السويدي- شرخ في الجدار- حيث لفت نظره هذا التحليل الجيلي، وأكد لي أنه هام رغم أنه لم يكن مقصودا منه على الإطلاق، وفي الواقع كما على الشاشة يبدو هذا التواصل والتعاون والتحالف طبيعيا تمليه الحاجة، وتدفع إليه الظروف، ومؤهلا للنجاح، ولكنه يحتاج إلى جهد من الطرفين: الجيل الأكبر ليتخلى عن صمته وعزوفه ويأسه من الجدوى والمعنى لمواصلة جهود الإصلاح، والجيل الأصغر ليتنازل عن وهم التضخيم من قدراته وإمكاناته الشخصية أو الظرفية المتعلقة بالعصر، وللحديث بقية.



الكاتب: د.أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/11/2003