إغلاق
 

Bookmark and Share

المصريون وبانوراما النفس والجسد(2) ::

الكاتب: د.خليل فاضل
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/01/2005

المصريون وبانوراما النفس والجسد(2)
الصحة ليست الخلو من الأمراض

المصريون يحتاجون إلى معلمين لفن الحياة أكثر منهم إلى أطباء...
المصريون مشغولون جداً بأمورهم الصحية، ليس من باب السعي إلى اللياقة البدنية والنفسية لكن من باب العلاج والتشافي، مهمومون للغاية وموسوسون كثيراً بالطب والتطبيب والدواء، لكن في خضم كل هذا يفوتهم سؤال بسيط: ترى ما هو التعريف الفعلي للصحة؟ هل هو الخلو من الأمراض؟ أم أنها ـ الصحة ـ ذلك التناغم الحقيقي بين كل أعضاء الجسم وأجهزته، أم أن الأمر أعمق وأبعد من ذلك؟

التعريف الأول(الخلو من الأمراض) يعرف حالة أولية من خلال ما يليها بمعنى أن الصحة هي أمر أولي وأساسي. لا يمكن وصفه بما يليه(المرض) يعني لا يصح القول(الصحة) هي الخلو من(المرض)، وهنا يأتي القول الفصل: هل الخلو من المرض أياً كان يعني أننا أصحاء؟!

لنأخذ مثلاً لامرأة من المجتمع المخملي تستعرض جواهرها في النادي لكل من هب ودب وتبدو محمرة الوجه ممتلئة القوام تفح بالصحة ولا تشكو من مرض؟ لكن ترى هل تستمتع بالصحة؟ ورجل بدين، يلمع جلده، وقفاه عديد الثنايا يذهب كل يوم إلى عمله دون أن يعمل، يشخط وينطر أو يموت من الزهق ويلعب (سوليتير)على الكومبيوتر، في البيت(زيّ قِلته لا بيهش ولا بينش)، يعامل زوجته دون احترام. ليس لديه أي مرض. لكن هل هو صحيح النفس والبدن؟! الصحة كلمة محيّرة ومعظم من يعتبرون أنفسهم أصحاء ليسوا بذلك وبعض من يعانون من أمراض معروفة يعدون أصحاء نسبياً، إذن فالصحة ليست الخلو من المرض أو أنها تلك الأعضاء السليمة أو الأفكار المعقولة لكنها مصطلح شامل وكامل، يتعلق بالإنسان ككل:

الصحة تعني صحة النفس والجسد والوجدان، صحة الجسد تعني تواجد أعضائه بشكل طبيعي وخلوها من المرض وعملها بشكل صحي وتناغمها مع بعضها البعض ومحافظتها على وجودها وكيانها تحت الضغوط التي تواجهها، لكن لماذا نعتبر أن عدم السقوط عليلاً لا يصطلح عليه بالصحة، إذا انتابتك نوبة برد مثلاً أو ارتفعت درجة حرارة جسمك، وهذا يحدث بين الحين والحين وذلك سوف يقوي جهازك المناعي، هنا يجيء دور الصحة النفسية ألا وهي القدرة على الإدراك، الفهم، التفكير والتذكر باستخدام كل الطاقات الذهنية، أما الصحة الوجدانية فهي ذلك التوازن بين المخ، النفس والروح، تلك القدرة على كبح جماح الغضب، القدرة على الحب، القدرة على التعبير الأمثل في مواقف معينة، تؤثر في كل ذلك العوامل الوراثية ضعفاً أو قوة، نمو الحياة والعوامل الاجتماعية، عوامل بيئية، وكذلك عوامل تتعلق بالغذاء وتناول الأدوية والتعرض للخطر.

الأطباء المصريون في مختلف تخصصاتهم يعدّون من أمهر الأطباء في العالم ومشهود لهم بالبراعة والإبداع لكنهم يقعون أسرى النظرة المحدودة للمرض والعرض، الحل والعلاج دون شمولية أوسع تأخذ في رحابها رؤية المريض في إطاره المجتمعي، النفسي والحياتي ولهذا ـ فإننا نتصور أن المصريين يحتاجون الآن أكثر من أي وقت مضى إلى علماء في فن الحياة وفن الصحة وفن الغذاء أكثر من معالجين يداوون الرأس بعد وقوع الفأس فيها. بمعنى أننا نحتاج إلى أن ننتج ونبدع نظاماً صحياً أفضل، بمعنى البحث المضني دون كلل، وبتخطيط وترتيب دقيق سعياً وراء تحقيق (اللياقة البدنية والنفسية والروحية)، بمعنى تحقيق الصحة والعافية، ليس إتقاءاً لشرور الأمراض فحسب، لكن سعياً وراء الاستمتاع بحياة أفضل من كل الأوجه. هنا تتدخل كل العوامل البيئية، الاجتماعية، السياسية الاقتصادية والحضارية، فمن حق المصري الماء النقي، الهواء النقي، اللقمة النظيفة، والغذاء الصحي، ومن حقه أيضاً أن يبتعد هو وأولاده عن السموم المنتشرة بدءاً من السحابة السوداء مروراً بملوثات ومضيفات الطعام وانتهاءاً بالمخدرات بكافة أنواعها، وأن يكون الطريق العام آمناً من مجانين السرعة ومجرمي الذوق العام، لكن وللأسف أن ضاقت كل السبل واختنقت في أنبوب ضيق جداً ألاّ وهو: المرض ـ العلاج، الذي صار هماً يشغل الناس منذ الولادة وحتى الممات.

وللمرض والعلاج في مصر مؤسسة ضخمة جداً، مكتظة، ومليئة بالتناقضات يشكو الكثير من المصريين من عدم وجود مكان لهم في المستشفيات العامة في حين أن الأرقام تخبرنا بأن نسبة الإشغال في الأقسام الداخلية لا تزيد على خمسين بالمائة، ونسبة الأطباء لكل ألف من السكان تصل إلى نحو عشرة أطباء (دراسة د. سمير فياض ـ رئيس المؤسسة العلاجية السابق ـ 2003). كما أن شريحة الدخل الدنيا لا تحصل إلا على (16%) من الإنفاق الصحي في حين تحصل الشريحة العليا (20%) من السكان على (24%) من الإنفاق الصحي، إضافة لنصيب كبير من الإنفاق الصحي الخاص، ووزير الصحة (تاج الدين) يقدم مشروعاً لـ (صحة الغلابة) وكثير من المستشفيات والوحدات الصحية لا تقدم دائماً ما يريده الناس.

إذن فالقضية أكبر وأهم، تتشابك وتتفاعل وتتشاغل دوائرها ما بين التعليم، المال، الثقافة، الديمقراطية، الصناعة، الوعي العام، البطالة، انتشار الفقر والثروة ولنا أن يرى نسبة البطالة (2002) (11.3%) وخمس سكان مصر (عام95) يقتصر دخل الفرد على جنيه واحد يومياً و(56%) من السكان يدخلون في شريحة الإنفاق العائلي الأقل من ستة آلاف جنيه في السنة أي مائة جنيه يومياً نصيب الفرد من الإنفاق شهرياً.

وكما أن هناك أمراضاً للفقر مثل الازدحام، التكدس السكاني، العادات الصحية غير النظيفة، الجهل فهناك أمراض للأغنياء لكن يرى البعض أن الفقر أحياناً يحمي من بعض الاضطرابات النفسية من باب (الرضا بالمقسوم) لكنه أيضاً يؤدي إلى مشاكل صحية عامة ونفسية تتعلق مثلاً بعمالة الأطفال، فمازالت في الريف والأحياء الشعبية حميمية وتكافل وتماسك عكس المدينة التي تفككت فيها الأسر واضطرب فيها الناس. لكنه الفقر أيضاً يظل ممثلاً في الحرمان والإحباط والعجز ويؤدي إلى اضطرابات نفسية مباشرة مثل الشعور باليأس والقنوط والإحساس العام بالإرهاق والملل واللامبالاة وعدم القدرة على الاستمتاع مما يصطلح عليه بـ (الاكتئاب المقنع، المستتر أو الخفيّ) هنا لا يكون (الرضا بالمقسوم) حلاّ لكنه يكون إرهاقاً وتعباً ومسئولية، في دراسة مهمة للغاية لرئيس المؤسسة العلاجية ومستشار وزير الصحة السابق تبين أن التقزم عند الأطفال تبلغ نسبته في مصر (25%) وهو أمر مرتبط بالتغذية وعوامل الوراثة، كما أن الأطفال الذين يولدون ناقص الوزن تبلغ نسبتهم (10%). ومن ثم تبلغ نسبة (56%) ممن تزيد أعمارهم على ال (25 سنة) يعانون من ارتفاع ضغط الدم وتزيد النسبة في الحضر وفي المتقدمين في السن.

غير أن ارتباط الصحة والمرض بالحالة الاجتماعية ليس منتظماً ولا يحمل دلالات أو مؤشرات تنبئ أو تدعونا للتكهن حيث أن هناك ما يمكن الاصطلاح عليه باضطرابات (الحياة الرخوة) فذلك المدير أو صاحب العمل الجالس في غرفة مغلقة مكيفة يتربع على كرسي عال ستصيبه أمراض كثيرة أهمها (ألم أسفل الظهر المزمن) الذي يعاني منه الكثير من المصريين. ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أنه من الصعب علاجه بعد فترة لأن الأمر يتطلب تغييراً جذرياً في نمط الحياة، كما يستدعي علاجاً طبيعياً قاسياً بعض الشئ.

كذلك فكلما زادت (ليونة الحياة وميوعتها) زادت نسبة البدانة والإصابة بمرض السكر، ولقد بلغت نسبة مرض السكر للبالغين من ذوي المستوى الاجتماعي المرتفع بالحضر عشرين بالمائة. (وتهبط تلك النسبة إلأى أقل من خمسة بالمائة في الريف).

نستطيع الاستنتاج المتابعة والملاحظة أن المصريين في العشرين سنة الماضية تقريباً ظهرت عليهم أعراض(سلوك المرض غير الطبيعي Abnormal Illness Behaviour).

بمعنى أن المريض المصري أصبح يظهر أعراضاً وأمراضاً (غريبة) غالباً ما يصعب تشخيصها، فهو يسلك سلوكاً ويشكوا أعراضاً كما لو كان بالفعل (مريضاً عضوياً)، وهو في هذه الحالة يتلقى اهتماماً من أسرته، عمله (أحياناً) وربما أعفي من مسئوليات كثيرة، ومن الممكن إذا تعقد الأمر جداً ويصاب المريض (وهن عصبي) أو (شلل هستيري)، ويصير مقعداً على كرسي متحرك (ولو لفترة لحين مرور أزمة دفع فلوس الجمعية أو مسئوليات تزويج البنات أو بناء الدور الأخير في العمارة أو متطلبات الزوجة للسفر إلى الخارج أو شراء لبس المدارس وأحذية الأولاد)، وهي مجموعة عوامل حياتية متناقضة متفاوتة حسب الطبقة الاجتماعية  والشخص المصاب وعائلته المحيطة به.

فإذا أخذنا حالة شاب قاهري يبلغ من العمر (28 عاماً) ينحدر من أسرة ثرية أرسلته للدراسة في أوروبا لكنها أيضاً لم ترضعه الحنان فأدخلته منذ الصغر (مدرسة داخلية فخمة؟!)، أكل فيها وشرب، تعلم وتدرب، فجأة وهو في أوروبا تعرف على فتاة أوروبية لم يتمكن من الزواج بها لرفض لها داخلياً (موروثاُ وثقافة وديناً)، فارتبط بأخرى مصرية مسلمة لكنه بعد فترة وجد نفسه يغضب بسرعة وينفعل لتوافه الأمور، اضطرب نومه، طلق زوجته ثم ردّها، دائماً ما يتوقع أسوأ السيناريوهات لحياته، متشائم وأكثر أعراضه كان الإحساس بالإرهاق الدائم، الشعور بالإنهاك عدم القدرة على الاستمتاع، عانى من انخفاض في رغبته الجنسية ومن ألم شديد مستمر في أسفل الظهر. تخرج من أكبر جامعات أوروبا. دعاه أبوه وضغط عليه بشدة للعودة إلى مصر، والبدء في إدارة مجموعة شركاته. لكنه لم يتمكن. وجد نفسه غير قادر على المواجهة. وغير متمكن من تحمل المسئولية. خائف. مرتبك غير مقبل على هذا المستقبل المفروش بالورد. المرتب. الجاهز. السلطة والنفوذ. أصابته غمة وبدأ رحلة العلاج التحليلي النفسي بحثاً عن ذاته التي تاهت ما بين المدرسة الداخلية وفقدان (جو البيت وحنان الوالدين) وما بين رحلة الغربة والهجرة في بلاد غريبة لا تطلع فيها الشمس والناس يتعاملون مع بعضهم البعض بشكل ميكانيكي بحت. تفتقد المشاعر وتتبخر الحميمية فيكون الحل السهل (السلوك المرضي) (أنا تعبان)،

تدور الدائرة المفرغة ويدور صاحبها فيها كما الثور المعصوب العينين والحل نزع العصابة. نفض الماضي تأمل الحاضر. والتطلع إلى المستقبل دون الدخول في عباءة أحد، لكن بالاستفادة المحسوبة من الإمكانيات المتاحة مع الحفاظ على الشخصية والهوية أي أن يرسم الإنسان ملامح وجدانه العام (النفسي والجسدي).

اقرأ أيضاً على صفحتنا مقالات متنوعة:
المصريون وبانوراما النفس والجسد  / المصريون والتعليم  / 
المصريون والاكتئاب



الكاتب: د.خليل فاضل
نشرت على الموقع بتاريخ: 01/01/2005