إغلاق
 

Bookmark and Share

سيكولوجية الاستبداد (الأخير) ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/01/2005

0 أكذوبة المستبد العادل:
شاع مفهوم المستبد العادل فى المجتمعات الإسلامية وذلك نظراً لافتقادهم حتى مجرد الحلم بالشورى أو الديموقراطية فرضوا بالاستبداد ولكن تمنوا أن يكون المستبد عادلاً, وراحوا يستدعون نماذج تاريخية يؤيدون بها هذه الفكرة وصورت لهم عقولهم أن عمر بن الخطاب أو غيره من خلفاء المسلمين أقرب ما يكون إلى هذا النموذج, فهو يمارس حكماً فردياً ولكنه منضبط بضوابط العدل والشرع.

ويؤيد هذا المفهوم أكثر بعض التيارات الإسلامية التى تتشكك فى الديموقراطية ونسبها وأصلها وجدواها وتعتبرها من ممارسات الكفار, وتقف من الشورى موقفاً خاصاً إذ تعتبرها معلمة لا ملزمة بمعنى أن الحاكم يستشير من حوله ليعلم آراءهم فقط ثم يقرر ما يريد هو.

ونحن هنا لسنا فى مجال تفنيد هذه الآراء أو محاكمتها أو تقييمها من الناحية التاريخية أو الدينية وإن كانت فعلاً تحتاج لكل هذا, ولكننا سنلتزم بمناقشة مفهوم «المستبد العادل» من الناحية النفسية فنجد أن هذا المفهوم خاطئ من بدايته فبمجرد أن أصبح الإنسان مستبداً انتفت عنه صفة العدل فوراً, لأن استبداده يعنى انفراده وتعاليه واستئثاره بالرأي, ويعنى احتقاره للآخرين واستخفافه بهم واعتباره أنهم غير جديرين بالاستشارة فضلاً عن المشاركة وهم لا يصلحون فى نظره إلا للتبعية والتلقى والطاعة العمياء لما رآه فهو يقول لهم كما قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى, فأي عدل يكون بعد ذلك لدى هذا المستبد. وهذا المستبد يتنكر لما لدى الآخرين من عقل وحكمة ومهارة وكفاءة فيهدر كل هذا لحساب عقله هو وحده, فأي جريمة يرتكبها حينئذ.

ولذلك نربأ بعمر بن الخطاب رضى الله عنه عن هذه الصفة, فقد كان حازماً قوياً فى الحق ولم يكن أبداً مستبداً, ويكفى أن نستدل على ذلك بالبيان الأول الذى شرح فيه منهجه للحكم حين قال:[ أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومني فقال له رجل «والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فقال عمر: «الحمد لله الذى جعل فى المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه»], وهو الذي عارضته امرأة فى مسألة تحديد المهور فقال: «أصابت امرأة وأخطأ عمر». ولم يشأ عمر -وهو على فراش موته أن يفرض على المسلمين خليفة بعينه وإنما وضع آلية للاختيار وترك للناس اختيار من يرونه صالحا. وكان دائم الاستشارة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا برأيهم.
فالاستبداد ينفى العدل تماماً, فهما ضدان لا يجتمعان فى شخص أو فى مجتمع.

العلاج:
إن علاج أى مرض يبدأ بالتشخيص الصحيح المبنى على أحدث ما وصل إليه العلم فى هذه المرحلة, ويلي ذلك مصارحة المريض بمرضه حتى يتعاون فى مراحل العلاج المختلفة, وفى حالة رفض المريض للعلاج فهنا أحد احتمالين: إما أنه يريد أن يزيد عليه المرض حتى يموت أى أن لديه ميول انتحارية خفية, أو أن هذا المريض فاقد للقدرة على الاستبصار بمرضه وهنا يتدخل العقلاء المحيطون به لعلاجه رغماً عنه حتى لا يكون بؤرة مرضية ينشر المرض في المجتمع الإنساني.
 
والعلاج لمرض خطير مثل الاستبداد لا يكون بالبخور والتمائم والشعوذة والزار ولا يكون علاجاً شعبياً غامضاً, وإنما يكون علاجاً على أسس علمية يسير على محاور أربعة:
1- إعلاء قيمة الحرية فى النفوس:- خاصة وأن موضوع الحرية لم يأخذ مكانه اللائق به فى الفكر العربى والإسلامي, ويبدو أن العلماء قد عزفوا عنه خوفا من بطش الحكام في المراحل المختلفة من التاريخ الإسلامي وانصرفوا إلى مناقشة مسائل فقهية وخلافات مذهبية لا ترقى إلى مستوى قيمة الحرية, أو أن التهديد الخارجي المتتابع(الصليبي والتترى والإنجليزي والفرنسي والإيطالي والإسرائيلي والأمريكي) قد أدى إلى تأجيل النظر في موضوع الحرية لحساب الحشد فى مواجهة الأخطار الخارجية, وربما يكون المستبدون الداخليون قد استفادوا من هذه الظروف لتبرير استمرار استبدادهم. على أية حال فقد وجب إعادة موضوع الحرية إلى أعلى مستوى من الوعي العربي والإسلامي وعدم الإلتفات إلى أي مبررات للتأجيل أو التهميش.

ونحن نقصد أن تنتشر ثقافة الحرية على كل المستويات كما ذكرنا من قبل حتى لا يختزل الأمر إلى المستوى السياسي فقط كما يحدث دائماً.

2- إعلاء قيمة المساواة (المواطنة): فالكل شركاء فى الوطن(بحق وحقيق), ولهم الحق قي التفكير والتخطيط والتنفيذ لصالح هذا الوطن, ونقصد هنا بالكل, كل الناس على إختلاف ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم وهذا هو اصل مبدأ التعددية الذى هو الضمان الوحيد لأمن وسلامة المجتمع, حيث أن التمييز العنصري واستبعاد أو تهميش أو إلغاء أي طائفة أو مجموعة يؤدى بالضرورة إلى نمو تيارات عدائية تحتية تهدد أمن واستقرار الوطن بأكمله.

فالديموقراطيات الحديثة أعطت فرصة التمثيل والعمل حتى للتيارات المتطرفة. وهذا فى حد ذاته صمام أمان حتى لا تعمل هذه التيارات سراً, بالإضافة إلى أن العمل العلني يرشد ويحد من التطرف. والمساواة تتضمن فى طياتها قيمة العدل فما دام الناس متساوون إذن فلهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

ومبدأ المساواة يتضمن حقيقة أنه لا توجد فئة مميزة تملك وتحكم طول الوقت وتستبعد وتعزل باقي الفئات وتصمها بالانحراف أو الخيانة للوطن, فالمجتمع الدولي والإنساني لم يعد يحتمل هذا التمييز العنصري في القرن الواحد والعشرين, ومن يصر على التشبث بهذه الأفكار العنصرية المتحجرة فسوف يدهسه قطار التاريخ وسوف ينظر إليه على أنه بؤرة صديدية تستحق الإجتثاث, والوقت لم يعد يحتمل المناورات أو الالتفافات فالأوطان ملك لأبنائها جميعاً, ولم يعط أحد الحق لفئة معينة لتكون وصية على باقي أبناء وطنها تمنح من تشاء وتمنع عمن تشاء وتصف من تشاء بالمروق.
 
3- وجود آلية مناسبة للتطبيق: ويجدر هنا أن نشير إلى الديموقراطية كنظام وآلية لتحقيق المساواة, حيث ثبت من تطبيقها فى المجتمعات الأخرى قدرتها (النسبية) على تحقيق الكثير من قيم الحرية والمساواة. والديموقراطية ليست هي النظام الأمثل لتحقيق الحرية ولكنها هي أفضل مال وصل إليه الفكر السياسي البشرى لتحقيق مبادئ الحرية وهى بالتالي قابلة للتطوير والتغيير مع استمرار نضج العقل البشرى, فهي في النهاية ليست نصوصا مقدسة.


وربما يعلن البعض أن الديموقراطية نظام غربي ولا يصلح لنا, والرد على ذلك هو أن الديموقراطية ما هى إلا آلية لتحقيق الهدف مثل التليفون الذي يتيح لك الاتصال ومثل السيارة التى تتيح لك السفر, فالآليات تستخدمها لتحقيق أهدافك وليس لها دخل فى عقيدتك وأخلاقك وعباداتك, ومع هذا إذا تطورت مجتمعاتنا وأصبحت قادرة على صنع آلية افضل للشورى فلا بأس فى ذلك فنحن أشبه بمريض يحتاج للعلاج فوراً والعلاج هنا ليس له جنسية المهم أنه يؤدى للشفاء طالما أنه ليس محرماً, ولو أصبح لدينا مصانع محلية للدواء تنتج دواءاً أفضل من المستورد لوجب علينا إستخدام دواءنا. وعدم وجود آلية كان هو السبب الرئيس في أننا ندور حول أنفسنا منذ مئات السنين فنحن نتشدق بالحرية وبالمساواة وكتبنا الدينية وغير الدينية مليئة بالمبادئ العظيمة, لكننا نتوقف عند الأفكار والوجدانيات ولا نحولها إلى مشروعات سلوكية ولا نبحث لها عن آليات تطبيق ووسائل تقييم.

ولقد وردت آيات الشورى في القرآن مجملة وترك الله لنا كبشر إيجاد الآليات المناسبة لتحقيقها بما يتناسب مع تطور المجتمعات البشرية, ولو كانت قد وضعت آلية محددة وثابتة لما ناسبت المجتمعات المختلفة في المراحل التاريخية المتعاقبة. ولذلك وجدنا آليات متباينة مثل رأى أهل الحل والعقد, والبيعة وغيرها, وترك الأمر لمزيد من الإجتهادات. ولم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمى خليفته من بعده صراحة وإنما ترك اختياره للناس وقد تم ذلك بالبيعة, وكان اختيار كل خليفة بعد ذلك بآلية ناسبت الظروف التي أحاطت بتوليه وفى هذا إشارة إلى ترك الآلية للاجتهاد البشرى بما يلائم ظروف الزمان والمكان.

ومن خلال خبرات التاريخ المتعاقبة ونمو الفكر البشرى الاجتماعي والسياسي وجد الناس ضرورة أن يكون هناك نظاما ثابتا ينظم ويكفل تطبيق مبادئ الحرية والعدل والمساواة ويحول في ذات الوقت دون انقضاض أي مستبد مغامر على هذه القيم الأساسية في حياة البشر, وكان هذا النظام هو الديموقراطية .وربما يجد البعض حساسية خاصة في تطبيق نظام غربي في المجتمعات الإسلامية خاصة أن مرجعية الديموقراطية هي الشعب ومرجعية المجتمعات الإسلامية هي الكتاب والسنة, وهذه إشكالية يجب مناقشتها بصدر رحب وإيجاد الحلول المناسبة لها مع الحذر من الإنقاص من قيمة الحرية تحت دعاوى الخصوصية الثقافية(راجع مناقشة هذه الإشكالية وغيرها فرى كتاب "حوار لا مواجهة للدكتور/أحمد كمال أبو المجد, إصدار الهيئة العامة للكتاب, مكتبة الأسرة 2000, وكتاب فتاوى معاصرة للدكتور/يوسف القرضاوى, إصدار دا ر الوفاء للطباعة وا لنشر بالمنصورة).
 
4- وسائل تقييم الإصلاح: عندما نعالج أى مرض فلابد لنا من علامات ومحكات ومقاييس توضح لنا مدى التحسن أو عدم التحسن بعد استخدام العلاج. وهذه أيضاً آلية نفتقدها فنحن لا نهتم أبدا بالرؤية المرتجعة أو التقيم المرتجع Feed back لأي نشاط قمنا به, وهذا التقييم المرتجع هو سر كبير من أسرار الحضارة لأنه يتيح الفرصة للمراجعة والتطوير والتحسين على أسس علمية.

5- الإيمان بروح الفريق ومنظومات العمل: فقد عشنا دهراً نطرب للبطولات الفردية ونصفق لها ونصنع لها الملاحم(عنترة بن شداد, أبو زيد الهلالي, سيف بن يزن, أدهم الشرقاوى) ومازلنا نعمل بشكل فردى ونفتقد روح الفريق ولمنظومات العمل, وقد أصبح واضحاً أن العمل كفريق والعمل من خلال منظومة(System) يعتبر سراً من أسرار التقدم والحضارة, وأن الإنجازات الفردية مهما عظمت فلن تصنع أمه أو حضارة وإنما تصنع مجداً شخصياً لصاحبها وربما بالإضافة لذلك أصابته بالنرجسية وصنعت منه مستبدا.

اقرء أيصاً على صفحتنا مقالات متنوعه :
سيكولوجية الاستبداد (1)  /  سيكولوجية الاستبداد(2)  /  سيكولوجية الاستبداد (3)
سيكولوجية التعذيب



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/01/2005