إغلاق
 

Bookmark and Share

أسباب الأمراض النفسية ::

الكاتب: د.وائل أبو هندى
نشرت على الموقع بتاريخ: 18/09/2003

 

أصبح الكلامُ عنْ أسباب المرض في الطب النفسي مختلفًا بشكْلٍ ملفتٍ في السنوات الأخيرة، فبعد أن كانَ الأمرُ متعلقًا بالتفسيرات التي تقدمها مدارس علم النفس المختلفة، أصبحَت التفسيراتُ المعاصرةُ متعلقةً بالتغيرات الكيميائية وربما التركيبية في المخ، ولعل لذلك العديدُ من الأسباب من أهمها:

(1) تطور تقنيات تصوير المخ تركيبياً بالأشعة المقطعية بالكومبيوتر Computed Tomography Scan وبالرنين المغناطيسي Magnetic Resonance Imaging "ووظيفيا"باستخدام النظائر المشعة المختلفة Isotope Scanning ومن خلال المسح الطبوجرافي للمخ Brain Mapping الذي يبينُ النشاط الكهربي للمخ والتصوير الطبقي بقذفِ البوزيترون Psotiron Emession Tomography وكذلك التنظير الطيفي باستخدام الرنين المغناطيسي Magnetic Resonance Spectroscopy "،بحيثُ أصبح من الممكن معرفة اختلافات التركيب والحجم في بعض أجزاء المخ ومقارنتها ما بين المرضى وبين الأصحاء وكذلك معرفة التغيرات الوظيفية في هذه المناطق من المخ، بل وأمكن التعرف على تأثير استخدام الأدوية النفسية على الوظيفة وعلى التركيب أيضًا.

(2) اكتشاف العديد من العقاقير الدوائية وتطور علم الأدوية الذي يشرحُ كيفية عمل الدواء وكيفية توزيعه في الجسم البشري؛ مما مكن الأطباء النفسيين من اكتشاف التغيرات الكيميائية التي تحدثُ في الوصلات العصبية في المخ البشري عند استخدام العقاقير النفسية بشكل منتظم والتي تصاحبُ التحسن في حالة المريض النفسية ومكنهم بالتالي من استنتاجِ التغيرات الكيميائية التي تحدثُ عند المرضى أثناء وجود الأعراض النفسية على طريقة أنه إذا كان الدواءُ الذي يزيدُ من تركيز المادة مثلا "أ" في الوصلات العصبية المخية يؤدي إلى تحسن المريض بالوسواس القهري مثلاً إذن فسبب الوسواس القهري هو نقص المادة "أ"في بعض مناطق المخ.

(3) طبيعة العقاقير الدوائية الحديثة التي تتناغم مع متطلبات البحث العلمي المادي في العصر الحديث والتي تختلف عن طبيعة الطرق العلاجية النفسية القائمة على طرق التحليل النفسي وما شابه فقد أدى تراكم المعلومات الطبية والدراسات العلمية التي وجدت في استخدام الدواء بجرعة محددة وملاحظة نتيجته "بطريقة ملاحظة علمية وبصورة قابلة للقياس وشكلٍ يسمحُ بتكرار التجربة" ما يجعلُ البحثَ العلميَّ باستخدام الأدوية ممكنًا لكل الأطباء النفسيين وهذا ما لم تستطع أيُّ طريقة من طرق العلاج النفسي تحقيقه اللهم إلا العلاج السلوكي المعرفي، وحتى هذا النوع من العلاج أصبح يفسر الآن بصورة مادية فيفسرون التغير الذي يحدث للمريض أثناء العلاج السلوكي بأنه ناتج عن تغيير الكيمياء في المخ بالضبط كما يُفسر عمل الدواء، حتى أنه ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات تثبتُ أن العلاج السلوكيَّ يحدثُ في المخ نفس ما يحدثه العقار الدوائيُّ فيه وبالتالي أصبحَ الكلام عن ما يقاسُ وما هو قابل للتكرار إذا توفرت نفس الظروف للتجربة هوَ الكلام العلمي وما غير ذلك لم يعد يحظى باهتمام الباحثين.

0 نتج عن ما سبق أن أصبح الكلام عن أسباب المرض في الطب النفسي يستدلُّ بالأدوية وبطريقة عملها بشكل يجعلُ المرضَ النفسي نتيجةً لخلل كيميائي في المخ وإصلاح ذلك الخلل هو العلاج؛ وبالرغم من تحفظ العديدين من الأطباء النفسيين تجاه ذلك وتجاه القبول بتغليب المادة على المحسوس في الإنسان لما يؤدي إليه ذلك من تحول السلوك الإنساني إلى سلوك مادي خالص في نهاية الأمر، بالرغم من ذلك كله إلا أن انتصارات الأدوية المتتالية وتراكم الأبحاث المتلاحقة التي تثبتُ وتعيدُ إثبات أن الخلل الكيميائي موجود في مرض معين وأن الدواء المعين يصلح ذلك الخلل فيحسن حالة المريض النفسية، كل ذلك يجعل صوت الدواء هو الغالب وسنقوم فيما يلي بشرح ما نعرفه حاليا عن تركيب المخ البشري، ثم نقدم نبذةً عن الناقلات العصبية وعن السيروتونين:

* يتكونُ المخُّ البشَرِيُّ من آلافِ الملايينِ من الخلايا العصبيةِ وَهناكَ مراكِزُ في المخِّ لكافةِ الوظائِفِ النفسيةِ والبيولوجيةِ للإنسان فهناك مركزُ الحركة ومراكزُ للتحكم في ضغط الدم ودقَّـاتِ القلبِ والتنفس وكذلك هناك مراكزُ للذاكرَةِ والسلوكِ والمِزاجِ والوِجْدان وَيرتبطُ المخ بالحبل الشوكيِّ الذي يقعُ داخلَ العمودِ الفَقَرِيِّ وهو يحتوي على عدد ضخمٍ من الخلايا العصبية وبذلك يتمكنُ من نقلِ كل أنواعِ المعلوماتِ منْ وإلى المخ من خلال الإشاراتِ العصبية، وتتصل الخلايا العصبية التي يتكون منها الجهاز العصبي بعضها ببعضٍ بواسطةِ "مشابكَ" نقط الاشتباكِ العصبي Synapses حيثُ يقَعُ كلُّ مشبكٍ بينَ الخليَّـةِ المُرْسِلَةِ والخلية المستقبِلَةِ للإشارَةِ العصبية، وهذه المشابكُ أو المسافاتِ الرقيقةِ بالرغمِ من أنها تفصل ما بينَ الخليتينِ إلا أنها في الواقعِ تربطُ ما بينهما كيميائيًا حيثُ أنَّ الرسائلَ" الإشاراتِ العصبية" تنتقل خلال المشبك بينَ الخليَّـتيْـنِ بواسِطَـةِ مواد كيميائية تُسَمَّى الناقلاتِ العصبية"ومن أمثلتها السيروتونين، الدوبامين، الأدرينالين، النور أدرينالين والأستيل كولين..إلخ ... وَزيادة أو نقص هذه الناقلات العصبية في المخ يؤدي إلى اضطراب الوظائفِ النفسية للإنسان في حين أنَّ إعادَةَ ضبط تركيزها وإيجاد التوازنِ المناسب فيما بينها يعيد الإنسان إلى اتزانه في سلوكه وسعادته في حياته!

وإذا أردنا أن نأخذَ تصورًا لشكل الخلية العصبية الواحدة فإنها خليةٌ تختلف عن بقية خلايا الجسم بكثرةِ ما لها من زوائد معظمها صغيرٌ أو قصيرٌ ويسمَّى بالزوائد أو التفريعات الشجريةِDendrites وواحدٌ منها طويلٌ يسمى بالمحور العصبي Neuronal Axon، وتعتبر الخلية العصبية من أكثر الخلايا نشاطًا في اتصالها بالخلايا الأخرى فإذا اعتبرنا اعتبارًا تقديريًّا أن عدد الخلايا العصبية الموجودةُ في المخ البشري يصل إلى مائة بليون خلية عصبيةٍ وإذا تخيلنا أن كل خلية عصبية يمكنُ أن تكونُ لها مشابكُ عصبية Synapses مع ما قد يصل إلى ألف خليةٍ عصبية أخرى فإن عددا مثل مائة تريليون مشبك عصبي في المخ قد يكونُ أقل من الحقيقة بكثير!!؛ وإذا أضفنا إلى ذلك أن الخلية العصبية الواحدةَ يمكنُ أن تفرزَ أكثرَ من نوعٍ واحدٍ من الناقلات العصبية في المشبك العصبي ولكلٍّ من هذه الناقلات العصبية وظيفةٌ مختلفةٌ على الخلية المستقبلة للإشارة العصبية فإننا نستطيع تخيل مدى التعقيد الذي تتميزُ به طريقةُ عمل المخ البشري.

* أما عن الطريقة التي يتم بها انتقال الإشارة العصبية من خلية عصبيةٍ إلى أخرى فهيَ بصورةٍ مبسطةٍ مرور الإشارة العصبية في شكل تغيرات متتابعة في فرق الجهد الكهربي من الخلية العصبية الأولي أي الخلية القبل مشبكية (أو القبمشبكية كما سنسميها فيما بعد) Presynaptic Neuronعبر محورها العصبي إلى أن يصل إلى آخر هذا المحور حيثُ تتجمعُ بعض الحويصلات المشبكية Synaptic Vesicles والتي تحتوي على الناقل العصبي المعين الذي تفرزه هذه الخلية العصبية وعندما تصل الإشارة العصبية إلى هذا المكان يتم إفراز هذه الناقلات العصبية في الفلج المشبكي Synaptic Cleft حيثُ تبدأُ عملها وذلك من خلال تأثيرها على المستقبلات المتخصصةSpecific Receptors الموجودة على جدار الخلية العصبية البعد مشبكية(أو البعمشبكية)Postsynaptic Neuron فتسبب تغيرًا في فرق الجهد الكهربي من خلال عملها على غشاء هذه الخلية مما يتسبب في مرور الإشارة العصبية من جسم الخلية البعمشبكية عبر محورها العصبي إلى خلية أخرى ويبينُ السهم الأسود في الشكل اتجاه مرور الإشارة العصبية كما يبينُ بعض الخلايا التي تحتضنُ الأعصاب وتحيطُ بها وتنسِّقُ أداءها بشكلٍ يحثُّ كل مسلمٍ على أن يقولَ سبحانَ من أبدع!

وبعد أن يتمُّ نقلُ الإشارة العصبية عبر الفلج المشبكي كيميائيا من خلال الناقلات العصبية يصبحُ على الجهاز العصبي التخلص من هذه الناقلات العصبية التي أدت عملها ويتم ذلك من خلال طريقتين أما الأولى فهيَ أن الخلية القبمشبكية تقوم باسترجاع ما أفرزتهُ من ناقلات عصبية ليتم تخزينهُ في الحويصلات المشبكية Synaptic Vesicles مرةً أخرى وليستخدمَ بعد ذلك في نقل إشارات عصبية أخرى؛

وأما الطريقةُ الثانيةُ فهيَ أن تقوم إنزيماتُ معينةٌ بتكسير الناقل العصبي في مكانه في الفلج المشبكي Synaptic Cleft ومن هذا الإنزيم أمثلةٌ عديدةٌ ولكنَّ أهمها هو الإنزيم المؤكسد لواحدات الأمين Monoamine Oxidase ، وبالتالي يصبحُ على الطبيب النفسي إذا أراد أن يزيد من تركيز ناقلٍ عصبي معين في الفلج المشبكي أن يسير في أحد طريقين الأول هو أن يستخدم عقارًا يثبطُ استرجاع الناقلات العصبية من الفلج المشبكي إلى الخلية القبمشبكية أي واحدٌ من العقاقير التي تسمى مثبطات استرجاع الأمينات الواحدية ومن هذه كل مضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقة والكثيرُ من مضادات الاكتئاب الحديثة ، وأما الطريق الثاني فهو أن يستخدم عقَّاراً من مثبطات الإنزيم المؤكسد لأحاديات الأمينMAOI Inhibitor Monoamine Oxidase فيمنعُ أو يقلل بالتالي من تكسير الناقلات العصبية والتي تبقى كنتيجةٍ لذلك لفترةٍ أطول في الفلج المشبكي.

ويبينُ الشكل السابق رسمًا مبسطًا يكادُ يكونُ قريبًا من الواقع يظهرُ فيه جسمُ الخلية العصبية (اليعصوب) وما يحيط به من تفريعات شجيرية متعددة ومن محور عصبي غالبًا ما يكونُ واحدًا كما يتضح في الشكل ذلك العدد الكبير من الكعبرات المشبكية Synaptic Knobs الموجودة على غشاء جسم اليعصوب وغشاء الزوائد الشجرية وكل واحدة من هذه الكعبرات المشبكية في الواقع تمثلُ مشبكًا عصبيا Neuronal Synapse وبعضُ هذه المشابك تكونُ الخلية العصبية فيها مستقبلة للإشارة العصبية القادمة من خلية عصبية أخرى عبر تفريعاتها الشجرية أو محورها العصبي وبعضها تكون الخلية الموضحة في الشكل هي التي ترسل إشاراتها العصبية من خلاله.

وأما الجزء الأسفل من الرسم في الشكل السابق فيبين رسمًا توضيحيا لتشريح واحدةٍ من الكعبرات المشبكية Synaptic Knobs حيثُ تظهرُ نهايةُ المحور العصبي للخلية القبمشبكية Presynaptic Neuron، والذي يحتوي على العـديد من الحويصلات المشبكية Synaptic Vesicles والتي تحتوي على الناقلات العصبية التي يتم إفرازها عند وصول الإشارة العصبيةNerve Impulse ويظهر الفلج المشبكي Synaptic Cleft الذي تخرجُ إليه الناقلات العصبية لتعمل على مستقبلات متخصصةٍ Specific Receptors موجودةٍ على غشاء الخلية البعمشبكية Postsynaptic Neuron كما يظهرُ في الرسم وجودُ العديد من الحبيبات الخيطية Mitochondria والتي تعتبرُ بيتَ الطاقة للخلية الحية؛ كما تظهر النواتئُ الدبقية Glial Proceses والتي تحتضنُ نهايةَ المحور العصبي وتحيط به في منطقة المشبك العصبي، وهناكَ نوعٌ من المشابك العصبية يوجدُ على نهاية المحور العصبي ويختصُ بتثبيط كمية الناقل العصبي المفرز والحد بالتالي من الاستثارة العصبية للمشبك العصبي الذي يليه كما يتضحُ من الشكل التالي.

السيروتونين "وما أدراكَ ما السيروتونين!"
أما الناقل العصبيُّ السيروتونين فرغم أنه يستحقُّ من أي كتابٍ عن اضطراب الوسواس القهري أن يفردَ لهُ فصلاً خاصًا به إلا أنني سأكتفي بإعطاء مختصرٍ عن أماكن وجوده في الجسم البشري وعن أماكن إفرازه في الدماغ وعن المستقبلات الخاصة به والتي تتطور معرفتنا بها يومًا بعد يوم ولعل ذلك هو السبب في أنني سأكتفي بمختصرٍ لآخرَ ما وصلنا إليه من معلومات لأنها عند طبع الكتاب قد تكونُ بالفعل تغيرت وظهرت أشياءٌ جديدةٌ متعلقةٌ بمستقبلات السيروتونين والعقاقير التي تعملُ عليها:

0 يوجد السيروتونين في جسم الإنسان في دمه في الصفائح الدموية وفي جهازه الهضمي حيثُ ينظمُ حركة الألياف العضلية، كما يوجدُ في الجهاز العصبي وتمثلُ نسبةُ السيروتونين الموجودة داخل الجهاز العصبي من 1% إلى2 % من الكمية الموجودة في الجسم البشري (Bradley , 1989) وهذه النسبةُ الضئيلةُ الموجودةُ في الجهاز العصبي تصنعُ داخل الجهاز العصبي أي داخل الخلية العصبية نفسها وذلك لأن مادة السيروتونين نفسها لا تستطيع عبور الحائـل الدمَـوي الدماغيBlood Brain Barrier أي أن السيروتونين الموجود في الدم لا يعبرُ من الدم إلى داخل الجهاز العصبي، كما أظهرت دراساتٌ عديدةٌ (Fuxe , 1968) أن المصدر الرئيسي للسيروتونين في المخ هو النوى الرفائية Raphe Nuclei وبصورةٍ خاصة النواة الرفائية الظهرية Dorsal Raphe Nucleus والرفائية الوسطى Median Raphe Nucleus وتوجد النوى الرفائية في ساق الدماغ (Brain Stem Okasha , 1994)، ومن هذه المصادر تتفرع عدةُ طرقٍ عبر المحاور العصبية المختلفة إلى المهاد Thalamus وما تحت المهاد (أو الوطاء) Hypothalamus وإلى النوى القاعدية Basal Ganglia والنواة اللوزية Amygdaloid Nucleus والقشرةُ الكُمـثريةPiriform Cortex ومناطقُ أخرى من القشرة المخية Cerebral Cortex كما أن هناك محاور عصبية أخرى تحمل السيروتونين إلى النوى الموجودةُ في النخاع الشوكي Spinal Cord حيثُ تتحكمُ في الشعور بالألم.

ويعتقدُ أن للسيروتونين الموجود في الجهاز العصبي دورٌ في الحالة المزاجية للإنسان وفي كيفية إحساسه وإدراكه للألم، وله كذلك علاقة بالساعة البيولوجية الموجودة داخل كل إنسان منا أو ما يُسَمَّى بالنـظْم اليومي Circadian Rhythm وكذلك دورةُ النوم والاستيقاظ Sleep Wake Cycle والتحكم في الأكل والشهية وكذلك درجة حرارة الجسم البشري ونشاطهُ الحركي.

ويحتوي كل جرام من الجسم الصنوبري Pineal Body على كمية من السيروتونين تعادلُ خمسينَ مرةٍ تقريبًا ما يحتويه باقي المخ البشري كما يحتوي الجسمُ الصنوبري على كل الإنزيمات المطلوبة لتخليق السيروتونين والسيروتونين يستخدمه الجسم الصنوبري في تصنيع مادة الميلاتونين التي يختص الجسم الصنوبري بإفرازها ويتعرض كلٌّ من السيروتونين والميلاتونين بالطبع لتغيرات في مستويات تركيزهما حسب النظم اليومي Circadian Rhythm بحيثُ يكونُ نشاط السيروتونين أعلى ما يكونُ خلال فترات الصحو النشيط والانتباه وأقلَّ ما يكونُ خلال فترات الصحو الهادئ ويكادُ ينعدمُ خلال فترات نوم حركة العين السريعة Rapid Eye Movement Sleep.

وأما مستقبلاتُ السيروتونين والتي توجد على جدار الخلية العصبية التي تستقبل الإشارة العصبية بعد مرورها عبر المحور العصبي فيمسكُ بها السيروتونين المفرز في الفلج المشبكي ويبدأُ تأثيره عليها وعلى الخلية التي توجد هذه المستقبلات على جدارها فيسبب تغيرًا في وظيفة الخلية المستقبلة تلك، هذه المستقبلاتُ السيروتونينية متعددةُ الأنواع ومن كل نوع منها عدةُ أصناف ولكل منهم وظيفةٌ خاصةٌ به لكنهُ يشتركُ مع الكل في أنهُ واحدٌ من مستقبلات السيروتونين وربما تعتمدُ نوعيةُ الوظيفة الخاصة تلك على مكان وجود المستقبلة نفسها فمثلاً إذا كانت على جدار الخلية العصبية القبمشبكية تكونُ لهُ وظيفةٌ مثبطةٌ لإفراز السيروتونين من الخلية القبمشبكية التي تفرزهُ وإذا كانت على جدار الخلية العصبية البعمشبكية فإنها تفتحُ كلها أحضانها للسيروتونين وتستثيرُ في الخلية البعمشبكية أشياءً متشابهةً ثم تفعلُ أيضًا ما يميزُ كل صنفٍ منها عن غيره،

 وقد اكتشفت حتى الآن سبع عائلات من مستقبلات السيروتونين ومن كل منها خمسة أصنافٍ على الأقل معظمها على الخلية البعمشبكية وبعضها على الخلية القبمشبكية(Fuller,1990)و (Foye etal,1995)و (Watling, 1998) وهذه العائلات حسب التسمية الإنجليزية هيَ:"5-HT1,5-HT2,5-HT3,5-HT4,5-HT5.5-HT6 .5-HT7" اختصارًا للاسم الكيميائي للسيروتونين وهوَ5–هيدروكسي تريبتامين5- hydroxy tryptamine وأستطيعُ أن أنحتَ اختصارًا عربيا أيضًا هو "5 –هت1و5 –هت2 و5–هت3 ..

وأما الأصنافُ من كل عائلة فيكونُ اختصارها " 5–هت1أ و5 –هت1ب ، وهكذا "وكل هذه العائلات تعمل من خلال تأثيرها على بروتين في الخلية يسمى بروتين جي G Protein فيما ماعدا عائلةٌ واحدةٌ من هذه العائلات هي"5 –هت3 "والتي تعمل من خلال ارتباطها بالأيونات Ligand Gated Ion Channel، ولا أريدُ الخوضَ في تفاصيل قد لا تهم القارئَ العربي الآن لكنَّ المؤكدَ أن العديدَ من مستقبلات السيروتونين سيكتشفُ في الأعوام القليلة القادمة إضافةً إلى اكتشاف طرقٍ جديدةٍ لعملها وكيفية إحداثها للتأثير داخل الخلية خاصةً وأن كل ما حدثَ من تقدم حتى الآن في علم الأدوية النفسية لم يتعدَّ حدودَ المشابك العصبية وجدران الخلايا العصبية بينما عالمٌ من الممكنات والاحتمالات البيولوجية يوجدُ داخل الخلية العصبية ما يزالُ العلمُ على أبوابه (Hyman & Nestler , 1993).

00 وهكذا نكونُ قد شرحنا هذا الأمر بشكلِ مبسط قدر الإمكان، وشرحهُ مهمٌ لأن التفكيرَ في المرض النفسي مختلفٌ عن التفكير في معظم أنواع الأمراض الطبية الأخرى فنحن ُ مقارنةً بالعلوم الطبية الأخرى يتأثرُ تفكيرنا إلى حد بعيدٍ بفهم كيفَ يعملُ الدواء النفسي؟ وبما أن الأدويةُ تعملُ أكثرَ عملها حسبَ فهمنا العلمي المعاصر من خلال ما تحدثهُ من تأثيرات في البيئة الكيميائية للمخ البشري ينتجُ عنهُ تحسنٌ لا جدالَ فيه في حالة المريض فإن الأمرَ كانَ لابد أن يستدعي مني محاولة الخوض في كتابة ما يشبهُ علم الفسلجة النفسية Psychophysiology

*وعلم الفسلجة النفسية Psychophysiology هذا بقدر ما هوَ علم أعظمُ من أن ينتقد بقدر ما يحتاجُ الإنسانُ المسلم إلى التعامل معه بشكلٍ يختلف عن تعامل الآخرين، لأن نهاية هذا الطريق وطريقٌُ آخرَ متصلٌ به هو طريقُ علم الأدوية النفسية أو السيكوفاماكولوجي Psychopharmacology الغربي هيَ أن النفسَ لا وجودَ لها وأن العقلَ لا وجودَ لهُ إلا باعتبارهما تعبيرًا عن كيمياء المخ ؛ وليسَ من الممكن أن نقبلَ تفسيرًا كيميائيًا لكل أشكال وأنواع السلوك البشري بما فيها من انحرافات، لأن هذه المقولةُ الغربيةُ بدأتْ بأن الإنسانَ هوَ سيدُ الكون أي سيد الطبيعة ثم انتقلت إلى أن الإنسانَ جزءٌ من الطبيعة غيرُ منفصلٍ عنها! وتسري عليه بالتالي نفس القوانين التي تسري على الطبيعة /المادة فيصبحُ الإنسانُ هوَ الإنسانُ الطبيعيُّ المادي الذي تحكمهُ المادةُ التي تحكمُ الطبيعةَ التي هوَ جزءٌ لا يتجزأُ منها(عبد الوهاب المسيري,1997) وهيَ بالتالي تبحثُ عن وجوه الشبه ما بينَ الإنسانِ والطبيعة المادة وتثبتها بكل طريقة ممكنةٍ وتتجاهلُ أوجهَ تفرد الإنسان وسموه عن الطبيعة / المادة .

00 وأما وجهةُ النظر الإسلامية فهيَ أن الإنسانَ سيد الكونِ لكن لأن الله سبحانهُ وتعالى استخلفهُ في الأرض ولكنَّ الله لم يجعلهُ جزءًا من الطبيعة/المادة غيرَ منفصلٍ عنها كما يذهبُ الفكر الغربي فالإنسان كما يقول المسيري (عبد الوهاب المسيري , 2001):"هو الكائنُ الوحيد الذي يبحثُ عن الغرض من وجوده في الكون وهو الكائنُ الذي لا يرضى بسطح الأشياء وإنما يطورُ المعاني الداخليةَ والرموزَ واللغةَ الحية، فرغم أن ثمةَ إنسانية مشتركةٍ تجمعُ بينَ أفراد الجنس البشري إلا أن الإنسان لا يخضعُ لبرنامجٍ بيولوجي وراثي واحدٍ عالمي (مثل بقية الكائنات)، فثمةُ هويات ثقافيةٍ مختلفة، وإراداتٍ جمعيةٍ وفرديةٍ مستقلةٍ، وهو الكائنُ القادرُ على إعادة صياغةِ ذاته وبيئته حسبَ وعيه الأخلاقيِّ الحر، وهو الكائنُ القادرُ على ارتكاب الخطيئة والذنوب وقادرٌ على التوبة والعودةِ، وهوَ قادرٌ على البهيمية والملائكية وعلى النبل والخساسة، فممارساته ليست انعكاسًا بسيطًا أو مركبًا لقوانين الطبيعة/المادة، فهوَ مختلفٌ كيفيًّا وجوهريًّا عن الظواهر الطبيعية، بل ويشكلُ ثغرةً معرفيةً كُبْرَى في النسق الطبيعي المادي، فهوَ ليسَ جزءًا لا يتجزَّأُ من الطبيعة وإنما هوَ جزءٌ يتجزأُ منها، يوجدُ فيها ويعيشُ عليها ويتصلُ بها وينفصلُ عنها، قد يقتربُ منها ويشاركها بعضَ السمات، ولكنهُ لا يُرَدُّ في كليَّـتِهِ إليها بأيَّةِ حال، فهوَ دائمًا قادرٌ على تجاوزها، وهوَ لهذا مركزُ الكونِ وسيدُ المخلوقات".

**أقدمُ كل هذا التقديم لأبين نقطةً هامة جدًا هيَ أن شيئًا لا يُثْبتُ أن التغيرات الكيميائية التي تحدثُ في مخ المريض هيَ السبب الوحيدُ لحدوث المرض، ومن الممكن أن تكونَ واحدةً من ظواهره فكما يختلفُ السلوكُ تختلفُ الكيمياء، أي أن التغير الكيميائي في وصلات المخ العصبية هو واحدٌ من التغيرات التي تطرأُ على الإنسان إذا مرضَ وليست بالضرورة السبب في المرض، صحيحٌ أنها قد تكونُ كذلك ولكنه صحيحٌ أيضًا أنها قد لا تكون وكثيرٌ من الظواهرِ قدم العلمُ الحديثُ لها تفاسيرَ وأثبتها بالتجارب ثم اتضح بعد اطراد تقدم العلم نفسه أن تفاسيره الأولى كانت قاصرةً لأن أدواته نفسها كانتْ قاصرة وليسَ في ذلك عيبٌ وَإنما العيبُ هوَ أنْ نُـقَدِّسَ النتائجَ العلمية ونعتبرها نهائية! أو أنْ نهملَها لأنها غيرُ مؤكدَّةٍ لأنَّ قدر الإنسان أن يستقرِئَ الظواهر وهوَ موقنٌ بأنَّ لقدراته حدودٌ لا أن يغترَّ بقدرته ولا أن يعزفَ عن استخدامها وما أظنُّ الغربَ(أو بالأحرى شركات الدواء) إلا على قدرٍ كبيرٍ من الغرورِ بقدرته ولا أظننا إلا عازفينَ عن استخدام قدراتنا.

فإذا أخذنا اضطراب الوسواس القهري كمثالٍ نتكلمُ عنه فإنني كطبيبٍ نفسي أعرفُ أن تغيرًا في مادة السيروتونين Serotonin وهيَ واحدة من أهم الناقلات العصبية في المخ البشري يحدثُ في ذلك الاضطراب، ولكنه لا يحدثُ فقط في اضطراب الوسواس القهري وإنما يحدثُ في الكثير غيره من الأمراض النفسية ولعل من أهمها الاكتئاب، وأعرفُ أيضًا أن الأدوية التي تزيدُ من تركيز السيروتونين في المشابك أو الوصلات العصبية بين الخلايا في المخ تؤدي إلى تحسن حالة المريض بشكل لا يقبل الجدل، كما أعرف أيضًا أن عكسَ ذلك صحيح أي أن الأدوية التي تقلل من تركيز السيروتونين في المشابك أو الوصلات العصبية بين الخلايا في المخ تؤدي إلى ظهور الوساوس والأفعال القهرية في الإنسان الذي لم تكن لديه وساوس من قبل!! أي أنَّ الثابت العلمي المعاصر يقول: أن نقص السيروتونين في مناطق معينة من المخ يسبب أعراض الوسواس القهري وزيادتهُ تقللُ أو تذهبُ أعراض الوسواس القهري وهناك مئات من التجارب العلمية وآلافٌ من الشواهد الطبنفسية السريرية تؤكدُ ذلك!

لكن كل ذلك لا يعني أن هذا هو السبب، خاصةً وأن الناقل العصبي السيروتونين قدِ اتضحَ أنهُ مُتَّـهمٌ بالتسبب في اضطراباتٍ نفسيةٍ أخرى عديدة وليسَ فقط في الوسواس، ومعروفٌ أنه حتى الآنَ لا يوجدُ دواءٌ من التي نسميها مضادات الوسوسة Antiobsessional Drugs إلا وهوَ في الوقتِ ذاته مضادٌ للاكتئاب أيضًا فكلُّ مضادات الوسوسة هيَ مضادات اكتئابٍ ولكنَّ ليستْ كلُّ مضادَّات الاكتئابِ مضاداتُ وسوسةٍ وهذا، وغيرُهُ من الحقائق العلمية التي وصلنا إليها بعد اكتشاف أدوية الفصام الحديثةِ والتي تتمثلُ حداثتها في أنها تضادُّ تأثير السيروتونين كما تضادُ تأثير الناقل العصبي المسمَّى بالدوبامين وقد كانَ اضطراب الفصامِ لفترةٍ طويلةٍ هوَ اضطرابُ دوبامين فقط لأن الأدويةَ التي كانت تعملُ عليه كانت مضادات دوبامين فقط أو هذا ما كنا نعرفهُ عنها، والسيروتونين كذلك متهمٌ في كثيرٍ من الاضطرابات النفسية الأخرى التي لا يسعُ المجالُ هنا لذكرها،

المهم أن في ذلك كله ما يبينُ للطبيب النفسي المتابع لما يجري في حدود مهنته فقط، أن اضطراب السيروتونين محطةٌ من المحطات في الاكتئاب ومحطةٌ من المحطات في الفصام ومحطةٌ من المحطات في اضطرابات الأكل وفي اضطراب توهم التشوه الجسدي وفي اضطراب اختلال الإنية وفي اضطرابات القلق كلها وفي اضطرابات التحكم في الاندفاعات وفي اضطرابات النوم وفي اضطربات الجنس وفي كل شيءٍ تقريبًا أي أنهُ محطةٌ من محطات اضطراب القدرات النفسية للإنسان ولكنهُ ليسَ كلَّ شيءٍ في قدرةٍ واحدةٍ من القدرات، لأن الأمورَ الإنسانيةَ لا يمكنُ أن تكونَ بهذه البساطة.

ويتخذُ رأيي هذا أهميةً خاصة إذا انتبهنا إلى مصالح شركات الدواء وإلى أن الدواء قابل للتصدير لكل أنحاء العالم ويعملُ عمله الكيميائي في كل البشر بينما طرق العلاج النفسي التي نشأت أصلاً في الغرب لا تصلحُ إلا فيه، لأنها مرتبطة بثقافات شعوبه فضلا عن كونها أكثرُ تكلفة من الدواء بالطبع، فتكونُ نتيجةُ ذلك هيَ الحادثُ الآنَ من لجوء معظم الأطباء النفسيين في العالم العربي والإسلامي إلى استخدام الدواء في كل حالات المرض النفسي لأنهُ الطريقُ الأسهلُ والأسرع ولا يحتاجُ أحدٌ أن يُجْهِدَ نفسهُ في إبداع طريقة علاجٍ نفسي تصلحُ لنا كمجتمعٍ لهُ خصوصيته.

ومن المهم هنا أن أؤكدَ أنني لا أتخذُ موقفًا معاديا لاستخدام العقـاقير في علاج الأمراض النفسية، وذلك لأن للعقاقير في معظم الأحيانِ فضلاً لا يستطيعُ عاقلٌ إنكاره، ولكن ما أريدُ التوجيه إليه هوَ أننا يجبُ ألا نخدعَ أنفسنا بفكرةِ أنهُ مادمنا قد وجدنا العقار الذي يساهمُ في تحسين حالة المريض فإننا نكونُ قد اكتشفنا سببَ المرض، ونقبل ما يستمدُ من ذلك من استنتاجاتٍ أيًّـا كانتْ قاصرةً أو متنافيةً مع إيماننا بسموِّ الإنسان عن ما دونهُ من مخلوقات.

00 وأختتمُ هذا المقال بالتعليق التالي للدكتور الرخاوي (يحي الرخاوي, 1994) والذي استهل به مقالاً بعنوان "مراجعة الاستعمال الطويل المدى للعقاقير النفسية": يقولُ عنهُ أنهُ ليسَ ترجمةً لمقالٍ كتبه قبل أربعة عشر سنةٍ باللغة الإنجليزية (Rakhawy , 1980) بل هيَ كتابةٌ عربيةٌ موازيةٌ ولاحقةٌ لذلك المقال: "إن الجانب العلاجيَّ لما يُسَمَّى النموذج الطبي، والذي يطيبُ لأغلب الأطباء النفسيين الانتماءُ إليه، لا ينبغي أن يقتصرَ على ما يشبهُ جبرَ الكسور، ولكنهُ ينبغي أن يمتدَّ إلى القياس على كيفية علاج اضطراب انتظام ضربات القلب مثلاً، إن علاج الأمراض النفسية يرتبطُ رضينا أم لم نرضَ- بالمفهوم الذي يتصورهُ أو يعتقدهُ الطبيبُ المعالجُ لما هوَ إنسان، وسواءً عرفَ الطبيبُ النفسي موقفهُ من هذه القضية أم لا فإن الأمر يستوي، بل إنهُ قد يكونُ أكثر تأثيرًا في موقفه العلاجي لو أنهُ لم يعرف موقفهُ من مفهوم ما هوَ "إنسان"، فلو أن الإنسان كانَ عندَ البعض ليس إلا آلةً تفسد فتحتاجُ إلى إصلاح وصيانة بينَ الحين والحين فإن موقفهُ سوفَ يكونُ القيام بالصيانة اللازمة، وربما إحلال بعض قطع الغيار كلما لزمَ الأمر، ولكن إذا كانَ الإنسانُ هو كيانٌ بيولوجي وجوديٌ معا، فإن العلاج بالدواء لا يمكنُ اعتبارهُ كافيًا " ويقولُ الرخاوي في تعقيبٍ صغيرٍ في نهاية المقال:" لم يحدث طوال أربعة عشر عامًا ما يجعلني أعدلُ عن هذا الفرض الباكر الذي نشرَ في الثمانينات".



الكاتب: د.وائل أبو هندى
نشرت على الموقع بتاريخ: 18/09/2003