إغلاق
 

Bookmark and Share

الجسور الثقافية بين المسلمين..قطع بلا وصل ::

الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 05/09/2006

من منا لم يحلم يوما بحلم الأمة الواحدة؟ ومن منا لم تتكسر أحلامه على صخرة الواقع المر؟ أمة مفككة.. وأعداء ينهشون..وساسة يعبثون، والمحصلة هو تدابر الأمة وتشتتها شيعا وأحزابا تلعب بها الأهواء وتتجاذبها الأنواء.. وكل يحلم بالانفصال والاستقلال، وكأن من انفصل قد استقل!!، وإذا كانت السياسة قد فرقت.. فإن بذور الفرقة تكمن في الثقافة، ولابد إذا أردنا أن نسلك طريق الحلم من أن ننشئ جسور الوحدة "في الثقافة" و"بالثقافة" حتى لو لعبت بنا أعاصير السياسة وذهبت بنا كل مذهب، حول الثقافة بين بذور الفرقة وجسور الوحدة نعيش في هذا المقال.

فتش عن الأوعية
اللقطة الأولى: الكثير من أمم العالم تتعرف على دين الإسلام، وبمعرفته تعربت ألسنة الكثير من أبنائها وساهموا بجهد وافر في خدمة علوم الإسلام والعربية وسائر العلوم الأخرى التي عرفتها نهضة الأمة، لكن تعرب بعض الألسنة لم يمنع من بقاء لغات تلك الشعوب كما هي، فلم يكن أبدا اختلاف الألسنة يمثل مشكلة، لأنه في الحقيقة آية من آيات الله، ومع ذلك فإن الألسنة وإن بقيت على عجمتها فقد تعربت رسوم (أو حروف كتابة) تلك اللغات.. هناك تبادل لغوي طبيعي في المفردات بين تلك اللغات، أكثرها في الاتجاه من العربية إلى سائر لغات الشعوب الإسلامية.. النص القرآني وأداء الشعائر أسباب قوية لتلك التأثيرات.

اللقطة الثانية: طلائع الخواجات تتوالى زياراتها لبلداننا تستكشفها.. تدرس حياة شعوبها وعاداتهم.. تجمع المخطوطات في كل العلوم التي أبدعتها تلك الشعوب وتقدم دراسات حولها، اللغة هي مفتاحهم لدراستنا ودراسة مخطوطاتنا.. تتطور تلك الدراسات لتصبح علوما مستقلة: الأنثروبولوجيا والاستشراق.. وتظل اللغة هي المفتاح، والاستعمار والاستثمار والتبشير هي مشروعات ما بعد الدراسة.

اللقطة الثالثة: المشروعات تصبح حقيقة.. جيوش الاحتلال الأوروبي تدخل بلدان المسلمين واحدا بعد الآخر.. على هامش الاستعمار هناك صراع بين ثقافات وافدة بلغاتها وآدابها وفنونها.. وثقافات لدينا راكدة بلغاتها وآدابها وفنونها، تقف اللغة في القلب من تلك المعركة فتتغرب الألسنة.. والأخطر من ذلك تتغرب حروف الكتابة في الكثير من لغات العالم الإسلامي.. التركية.. الألبانية.. الصومالية.. البوسنية.. الهوسا.. لغات شعوب آسيا الوسطى.. إلخ.

اللقطة الرابعة: مع الاستقلال المتوهم..دعوات شعوبية.. عروبية وطورانية.. ونعرات إثنية.. تمزق وتفرق.. وتزرع الحزازات والأحقاد وتثير ثارات الانتقام والانتقام المضاد، ومع تلك الدعوات اضطهاد للغات وثقافات الأقلية أو المغلوبين على أمرهم (الأمازيغية- الكردية-النوبية- البجاوية..البنغالية..إلخ واستعلاء بلغات الأغلبية أو المتغلبين (العربية- التركية- الفارسية- الأردية..  إلخ) ولا أفهم سر تلك العنصرية اللغوية في دين دعا لنبذ دعاوى الجاهلية..حتى العربية لغة القرآن..قال عنها الرسول: إنما العربية اللسان..ولا فضل لعربي على أعجمي..ولا لأعجمي على عربي.
اللقطة الخامسة: بعد الاستقلال المتوهم أيضا..أقسام دراسة لغات البلدان المستعمرة (بكسر الراء.. كالإنجليزية والفرنسية) تكتسب مكانة اجتماعية لدى أبناء البلدان المستعمرة (بفتح الراء) وأبناؤها يجدون أعمالا ذات دخول عالية، بينما أقسام دراسة ما سمي باللغات الشرقية تكتسب مكانات متدنية ولا يجد أبناؤها عملا بتخصصاتهم.. حتى تلك الأقسام فإنها تدرس لغات دون أخرى، أقسام الأنثروبولوجيا لا تلتفت إلا قليلا لدراسة الذات المختلفة لغويا وثقافيا..

مجاهل في داخل الأوعية
المحصلة من كل تلك المسيرة أمة تعرف عن أعدائها أكثر مما تعرف عن ذواتها.. وإذا كانوا يقولون أن اللغة هي وعاء الثقافة، وإذا كانت الأوعية قد التوت في أمتنا فصار الوعاء غريبا عن أخيه.. وقد كانت حروف الرسم الواحدة والمفردات المتبادلة تقرب بينهما، والآن وقد أعجمت حروف كتابة هذه اللغة بحروف.. وتلك اللغة بحروف أخرى.. كل حسب البلد الذي استعمره.. فلم يعد الوعاء متصلا بأخيه بقنوات مفتوحة تتدفق من خلالها المفردات الثقافية من آداب وفنون..وعادات وتقاليد.. ومعتقدات.. ومنتجات مادية للثقافة (كالحرف اليدوية) فصرنا كالغرباء، وصارت جسور "التعارف" ومن ثم "التفاهم" و"التكافل" مفصولة بين أبناء الأمة.. موصولة مع أبناء الأمم المتغلبة.. نظراتنا دونية لأبناء أمتنا المختلفين لغويا.. ونظراتنا ملؤها الانبهار والود لأبناء الأمم المتجبرة..

لغات وثقافات الشعوب المسلمة
لعله من المفيد قبل أن نقدم اقتراحات عملية لبناء جسور الثقافة بين أجزاء الأمة الإسلامية أن نشير إلى الخريطة اللغوية/ الثقافية للأمة على النحو التالي، والذي نقوله اجتهادا بعد أن عجزنا عن الحصول على معلومات موثقة حول لغات العالم الإسلامي وأعداد المتكلمين بها حتى من على موقع الإيسيسكو على شبكة الإنترنت:

- اللغات/ الثقافات الكبرى في العالم الإسلامي:
0 اللغة/ الثقافة العربية في بلدان العالم العربي من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي
0 اللغة/ الثقافة التركية في بلدان العالم التركي (تركيا ودول آسيا الوسطى عدا طاجيكستان حيث اللهجات التركية المختلفة، إضافة إلى تركستان الشرقية حيث اليوغور إحدى الثقافات التركية الفرعية).
0 اللغة/ الثقافة الفارسية في إيران وطاجيكستان وبعضا من أفغانستان والهند
0 اللغة/ الثقافة الأردية في باكستان والهند وبعضا من أفغانستان
0 اللغة/ الثقافة البنغالية في بنجلاديش وبعضا من الهند وباكستان
0 اللغة/ الثقافة المالاوية بلهجاتها المختلفة في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وبروناي
0 اللغة/ الثقافة الأمازيغية في الجزائر والمغرب والصحراء وموريتانيا ومالي وبعضا من ليبيا ومصر (واحة سيوة)
0 اللغة/ الثقافة الكردية في العراق وتركيا وإيران وسوريا وبعضا من أذربيجان وأرمينيا

- اللغات/ الثقافات الأخرى للعالم الإسلامي:
0 اللغة/ الثقافة السواحيلية في شرق أفريقيا خاصة كينيا وتنزانيا وموزمبيق
0 لغة/ ثقافة الهوسا في نيجيريا وغانا، والنيجر وغرب تشاد
0 اللغة/ الثقافة الألبانية في ألبانيا وكوسوفو والجبل الأسود
0 لغة/ ثقافة مسلمي البوسنة وصربيا وكرواتيا
0 اللغات/ الثقافات النوبية في جنوب مصر وشمال السودان
0 لغات/ ثقافات البجا (العبابدة والبشارية والهدندوة والأمرار) في جنوب شرق مصر وشمال شرق السودان
0 اللغة/الثقافة الصومالية في الصومال وجيبوتي
0 لغات وثقافات فرعية صغيرة كثيرة في أفريقيا وآسيا والقوقاز وحوض نهر الفولجا

- لغات وثقافات عالمية يتحدثها المسلمون:
0 الإنجليزية لمسلمي الهند وباكستان وسريلانكا وبعض دول أفريقيا
0 الفرنسية لمسلمي غرب أفريقيا
0 الروسية لبلدان الاتحاد السوفيتي السابق
0 الصينية لمسلمي الصين خاصة من قومية الهان
0 الرومانية والبلغارية والبولندية للمسلمين في رومانيا وبلغاريا وبولندا
0 أغلبية لغات العالم تقريبا حيث يعيش المسلمون موزعين على بلدان العالم المختلفة

الدبلوماسية الأهلية.. وجسور الثقافة والتنمية
مهمة بناء جسور الثقافة والتنمية بين أجزاء الأمة الإسلامية كان من المفترض أن تقوم بها حركات الإصلاح والتجديد الإسلامي التي تتخذ من الانتماء للأمة والارتقاء هدفا لها، لكنها مع الأسف لم تبذل الجهد الكافي طوال تاريخها في إعادة تجسير الفجوات بين مكونات الأمة على المستوى الثقافي والتنموي اللهم إلا النذر اليسير، شغلتها السياسة والدعوة بين أبناء المسلمين، وهما أمران عظيمان، ولكن أما آن لها ولغيرها من المخلصين للأمة وقد قارب الفصام بين المسلمين وبعضهم البعض على القرن –يقل أو يزيد- أن تعطي اهتماما أكثر بإقامة كيانات أهلية تسعى لتدارك ما فات عبر عدة خطوط:

- إقامة أكاديمية أهلية للغات الشعوب الإسلامية وآدابها: تعيد الاعتبار لتعلم لغات أهلنا وآدابهم وثقافاتهم حتى تصير على الأقل مكافئة للثقافات واللغات والآداب العالمية وتساهم في التعارف والتفاهم بين المسلمين وبعضهم البعض.

- إقامة مؤسسة أهلية عالمية تسمى "جسر الثقافة والتنمية": تقوم على إعداد مهرجان سنوي للمنظمات الأهلية والمراكز البحثية ودور النشر والشركات في العالم الإسلامي ينتقل كل دورة في بلد من بلدان العالم الإسلامي تمثل إقليما ثقافيا مختلفا، ويشمل المهرجان:

0 منتدى أهلي للتباحث وتبادل الخبرات: بين المؤسسات الأهلية التنموية ومناقشة قضايا التعارف والتفاهم الثقافي والتكامل التنموي الأهلي ويمكن أن تتناول تلك المنتديات قضايا مثل: الترجمة من وإلى لغات العالم الإسلامي، السياحة البينية الإسلامية وإمكانيات تنشيطها، الآثار والعمارة الإسلامية وكيفية الحفاظ عليها، الحرف اليدوية في العالم الإسلامي، الفنون الإسلامية قديما وحديثا، المجتمع الأهلي والتنمية في العالم الإسلامي خبرات وتجارب.. إلخ.

0 معرض للمنتجات والحرف والصناعات: الأهلية في العالم الإسلامي ويشمل ذلك المنتجات الثقافية والفنية من كتب وشرائط ولوحات وما إليه.

0 احتفالية ثقافية وفنية: تشمل عروضا مسرحية وغنائية وأفلاما تسجيلية وقصيرة ومعارض للصور الفوتوغرافية والرسوم والخط العربي والكتب من مختلف بلدان العالم الإسلامي.

0 بوابة إليكترونية على شبكة الإنترنت: بعدد من لغات العالم الإسلامي لهذا المهرجان والفعاليات الأهلية المشاركة فيه وذلك من أجل استمرار التواصل، يمكن أن يتطور دورها بمرور الوقت إلى الدور الديناميكي بما يتيحه الإنترنت من إمكانات.

0 تنظيم رحلات سياحية ومخيمات شبابية: لتنشيط حركة السياحة البينية وللتعارف والتفاهم بين الأجيال المختلفة.

نفر الأمة الثقافي
إذا كانت الواجبات أمام المصلحين أكثر من الأوقات، فإنها ليست أكثر من الإمكانات سواء البشرية منها أو المادية، والقرآن يعلمنا أنه "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة"، وهذه الأمة تحتاج منا إلى أن يتفرغ نفر من أبنائها لمهمة تجسير الفجوة الثقافية بين أبنائها.. فبهذا نقطع خطوة بل خطوات في سبيل الوحدة الثقافية التي لا تنفي التنوع ولا التعدد، وهو أمل جليل يحتاج من أفراد الأمة ومؤسساتها من يقول ها أنا ذا.

اقرأ أيضا:
المشهد اللبناني.. أما وقد أسدل الستار / إحياء طوائف الحرف.. واجب بلا صاحب / فتح الله كولن..حركة عالمية لخير الإنسانية / كل أزمة وأنتم بخير / إطلالة على الإسلام والمسلمين في أمريكا / شذرات على هامش الرحلة الأمريكية / تعليم المقاومة..عبرة الماضي وآفاق المستقبل / التوصيف والتوثيق..ألف باء النهضة / داغستان..سطور من دفتر الحالة الإسلامية / اسطنبول..وجه تركيا السياحي والإسلامي / العدالة الاجتماعية بين منهجين: خيري وثوري / الأسس الغائبة عن مطالب الإصلاح / صناعة الحياة..أطر لتحديد الرؤية  / روسيا 93..أعراض ما بعد الانهيار / القرآن والعلوم العصرية ومنهجي الإعجاز والإيقاظ / ثورة الأخلاق الاجتماعية..تجربة ونظرات / أمتنا يا ألف سفينة بتنخرم / استحضار النية في دراسة اللغات الأجنبية / الحزب الوطني القديم / الحصانة الفكرية بين المناعة والمنع



الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 05/09/2006