إغلاق
 

Bookmark and Share

روسيا 93..أعراض ما بعد الانهيار ::

الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/06/2005

من تيرانا إلى موسكو مرورا بصوفيا وكييف.. في عز ليالي الشتاء أواخر يناير عام 1993، هكذا كانت رحلتي من ألبانيا -حيث قضيت شهرا من أمتع شهور حياتي انتهى يوم 26 يناير-،وصولا إلى روسيا يوم 30 يناير، وهناك في روسيا قضيت أكثر من شهر بين موسكو العاصمة الروسية ومخاتشكالا (أو محج قلعة) عاصمة داغستان* هناك على ساحل بحر قزوين، حول أيام الرحلة الروسية تلك دونت ذكرياتي.. والتي كانت جزءا مكملا لما كتبت عن ألبانيا لكنه لم ينشر في حينه، والآن أعيد قراءة ذلك الجزء من ذكريات الرحلة معكم بعد مرور 12 عاما على تدوينها.

شعار الرحلة..احذر من المافيا
إذا كانت سمة الوضع في ألبانيا عندما زرتها هي "الإشارات والتحولات"، فإننا نستطيع أن نقول إن روسيا أيضا كانت تمر بلحظات تحول كبرى لكن في مجال آخر وبشكل آخر، فتحولات روسيا كانت تتسم بشكل كبير بالفوضى والعنف، وإذا أحببت أن أضع لرحلتي تلك شعارا فإنني بسهولة ويسر أستطيع أن أختار شعار: احذر من المافيا، وهو شعار لم يأت بالملاحظة في الحقيقة، لكنه أتى أكثر بالسماع، فقد ساق الله لي ولفريق "لجنة الإغاثة الإنسانية" الذي كان يتنقل معي وأنا أنتقل من صوفيا إلى كييف ثم من كييف إلى موسكو، ثم من موسكو إلى مخاتشكالا، ساق الله لنا في كل مرحلة من تلك المراحل من الشباب العربي الذي كان يدرس في الجامعات السوفيتية من يسوق لنا ذلك التحذير المتكرر، كانت التحذيرات التي نسمعها منصبة على عدم إظهار أية دولارات في الشارع، ولا حتى أن ننطق باسمها، مستبدلين اسمه ذلك باسم رمزي: "الأخضر"، وكذلك ألا نسير ليلا بشكل منفرد وأن نحرص على شراء الاسبراي المخدر لنستعمله في الدفاع عن النفس في حال تعرضنا للهجوم، فالأجانب بصفة خاصة يتعرضون للسطو المسلح وربما القتل طمعا فيما معهم من أموال، ومن الغريب أنني طالعت في أرشيف الصحافة الذي كان يعد في نقابة الأطباء وذلك بعد عودتي لمصر، ما نشره الأهرام بتاريخ 17 فبراير عام 1993 أي بينما كنت في مخاتشكالا- نقلا عن الوول ستريت جورنال بعنوان:"اتحاد المافيا الدولية يغزو روسيا..الفساد السياسي يهدد بمأساة قومية".
فلماذا كان هذا الانفلات الأمني؟

الدولار..الروبل..والشيشانيين
نظام الحياة في البلاد الشيوعية عموما يشجع على شيوع حالة الفوضى تلك، فمنذ الساعة السادسة تغلق المحلات أبوابها وتغرق الشوارع في ظلام أو أضواء خافتة فليس ثمة ما يضيء إلا أعمدة الإنارة الباهتة وبعض الأكشاك المتباعدة، ومع ليالي الشتاء الطويلة يصبح الأمر مهيئا لعمل العصابات، لكن تلك الحالة كانت مستمرة طوال العهد الشيوعي، أما بعد انهياره فقد جدت مستجدات اقتصادية وسياسية كان لها الدور الأكبر في هذا الانفلات:

فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990 انطلق الناس من عقالهم ليحصلوا من المال ما تطلعوا إليه خلال فترة محبسهم الطويلة في ذلك القمقم السوفيتي القسري، فقد انهارت الحالة الاقتصادية كما انهارت الدولة العظمى سريعا، وأدت السياسات الاقتصادية الجديدة إلى ارتفاعات حادة في الأسعار، وانهيارات في القوة الشرائية للروبل فكما يحكى لنا كان الدولار الأمريكي يساوى 6 دولارات قبل الانهيار..أما حينما كنا هناك فقد كان الدولار يساوي 720 روبل ولم يعد هناك استخدام تقريبا للعملات المعدنية من كسور الروبل، كما أن الدولار قد أصبح مثل مصباح علاء الدين به تستطيع شراء كل شيء، وبه تفتح لك كل الأبواب المغلقة، ومن ثم فإن الدولار يحظى هناك بالاحترام الشديد والفحص الدقيق، وقد أدى هذا الانهيار الحاد للروبل إلى ارتفاع جنوني في الأسعار جعل الناس جميعا تسعى لـ"تقليب" رزقها فالناس المحترمون مثل أساتذة الجامعات عملوا كسائقين للتاكسيات في أوقات الفراغ، أما غيرهم فقد بحث عن رزقه من الرشوة أو السرقة أو الدعارة ..هذا عن البواعث الاقتصادية لحالة الانفلات الأمني تلك.

أما البواعث السياسية للانفلات فيبدو أنها لم تكن بعيدة عن الأمر، حيث كان الشائع في أحاديث الناس هناك - لا أعرف صدقا أم توهما- أن أكثر عناصر تلك العصابات هم من الشيشانيين المعروفين بشدة البأس وبأن لهم ثأرا وعداوة قديمة متجددة مع الروس.

بقايا المركزية والتمييز

الملمح الهام الثاني الذي لا تخطئه العين في تلك السفرة هو الفارق الشاسع بين مدن كبرى مثل كييف وموسكو من ناحية، ومدينة مثل مخاتشكالا من ناحية أخرى، فمع أن كلا منهم عاصمة لجمهورية إلا أن التمييز لصالح موسكو وكييف واضح، فكلا منهما مدينة كبيرة شاسعة حديثة ذات نظام تخطيط عمراني حديث، بها العديد من الطرق رئيسية محورية، وبها شبكة متقاطعة من خطوط مترو الأنفاق (3 خطوط في كييف و 9 في موسكو)، إضافة إلى محلات ضخمة فخمة للملابس والأدوات المنزلية والكهربائية، أما مخاتشكالا فمدينة ليست كبيرة، منازلها في غالبها تأخذ الطابع الاشتراكي الباهت البارد، شوارعها متكسرة، ليس بها مترو أنفاق، لكن الأخطر من ذلك المركزية الشديدة وارتباط كل شيء بموسكو، من أول خطوط القطارات، ونهاية بخطوط الهاتف، كل شيء لابد فيه الرجوع إلى موسكو، فليس هناك من وسائل اتصال مباشرة بينها وبين العالم الخارجي حتى ولو كانت عواصم الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى، حتى التصوير الفوتوغرافي فعلى الرغم من الاشتهار الروسي في مجاله فإن حالته في مخاتشكالا تذكرك بمصوري الأرصفة عندنا، فلا زالت الصور بالأبيض والأسود، وإذا كان معك فيلم ملون وأردت تحميضه فإما أن تنتظر أسبوعين حتى يتم إرساله إلى موسكو، أو يقال لك إنه لا يوجد "خيميك" يعني كيماويات، بينما تستطيع في موسكو أو كييف أن تذهب إلى كوداك إكسبريس وتستلم فيلمك بعد ساعة تقضيها في التنزه، الأجهزة الكهربائية في مخاتشكالا لا تجدها إلا في محلات "تسوم ماجازين" التي تشبه عمر أفندي في مصر، وهي من طرازات روسية ثقيلة تحتاج إلى أوناش لرفعها، بينما تجد كل الأجهزة الحديثة في موسكو.

حالة الاحتقان العرقي/الديني

من المظاهر التي عايشتها ولامستها في سفرتي مظاهر لحالات متفرقة من الاحتقان العرقي/الديني، واللافت أنني عندما أستعيدها أجدها بشكل أو بآخر لابد وأن يكون فيها طرف مسلم:

أول حالات الاحتقان والصراع تلك هي الحالة الطاجيكية: فقد قابلت عددا من الطاجيك الفارين من الصراع الإسلامي/ العلماني في طاجيكستان، منهم الأخ/ إدريس الذي كان يعمل مديرا لمدرسة إسلامية هناك، والذي اعتقلت السلطات الشيوعية والده للضغط على ابنه للعودة إلى طاجيكستان، وقد تركنا مسافرا إلى قيرغيزيا لمقابلة صديق له هناك لحل تلك المشكلة، واضطر لكي يفعل ذلك أن يأخذ القطار أولا من مخاتشكالا إلى موسكو في الشمال ثم ليأخذ قطارا آخر من موسكو إلى بشكيك إلى الجنوب من مخاتشكالا، أما الأخ الآخر فلا أذكر اسمه الآن وقد كان يعمل مدرسا بنفس تلك المدرسة الدينية، وقد عذب النظام الشيوعي أسرته بعدما فر من بلده وذلك ليجبروهم على الدلالة على مكان فراره، وتركناه يحاول البحث عن سبيل لتهريب أهله من بلادهم إلى متاهة الفرار والغربة.

ثاني حالات الاحتقان تلك كانت بالطبع الحالة الشيشانية: وهي حالة كانت ذات طابع قومي بالأساس، وتتلبس أحيانا ببواعث دينية، فقد كان هناك أولا الصراع بين يلتسين ورئيس البرلمان الروسي رسلان حسبولاتوف وهو شيشاني، كما كان جوهر دوداييف لا يزال رئيسا للشيشان، وكانت ميوله الانفصالية عن روسية معلومة، وكان يقوم بشحن معنوي وديني للشعب الشيشاني استعدادا فيما يبدو لصراع مسلح جرى بالفعل بعد زيارتي بعام واحد (1994)، ومن اللافت أنني لاحظت انتشار الكثير من الكتب التي تتناول حياة الإمام شامل تباع في مخاتشكالا -وقد اشتريت أحدها بالفعل وكان باللغة الروسية على أمل قراءته فيما بعد حينما أتقن اللغة الروسية-، والإمام شامل علم له دلالته الرمزية في قصة الصراع الروسي الشيشاني الطويلة.

الحالة الثالثة للاحتقان والصراع كانت الحالة الآذرية/ الأرمنية: فقد كان هناك صراع بين الجارتين أرمينيا وآذربيجان على إقليم ناجورنو كاراباخ، إقليم كانت له جذوره وبذوره التي زرعتها أفعال الأنظمة التي تعاقبت على حكم الاتحاد السوفيتي وجنى ثمارها الشعبين الآذري والأرمني.

في وسط أجواء الاحتقان والصراع تلك كان من المنطقي أن تتوجه مكاتب بعثة لجنة الإغاثة الإنسانية التي سافرت في إطارها إلى كل من آذربيجان والشيشان وداغستان، مع مكتب مركزي في موسكو، لكن أسبابا رأيتها غير مبشرة في أسلوب إدارة العمل في علاقة تلك المكاتب بالإدارة في القاهرة جعلتني أقطع رحلتي وأعود في أوائل مارس عام 1993، ومعي ذكرياتي تلك، وذكريات أخرى حول الحالة الإسلامية في داغستان وفي روسيا عامة.. عسى أن تكون موضوعا لمقال تال.

اقرأ أيضا:
·        شعب الشيشان..الحرية أو الموت
·        الإمام شامل..الأمل من ثقب جدار
·       القوقاز..جغرافيته وتاريخه وأهميته عبر العصور

* وهي جمهورية حكم ذاتي ضمن إقليم شمال القوقاز تتبع الاتحاد الروسي وأغلبية سكانها البالغين حوالي 3 ملايين نسمة من المسلمين



الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 11/06/2005