إغلاق
 

Bookmark and Share

في الجنس وغيره أخطر مما يسمى غزوا ::

الكاتب: د. أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/12/2003

لا أذكر أنني كنت في يوم من الأيام من أصحاب الذهنيات الديماجوجية في شئون الدين أو الدنيا، ربما طبيعتي الشخصية، وتكويني النفسي، وربما تضافر مع هذا توجيه أساتذتي، وتأثير تخصصي.

وبسبب هذا الوضع أجد نفسي ممتعضا حين أسمع بعض مفردات أدركها بوصفها من مفاتيح ومعالم أسلوبٍ في الخطاب والتحليل والتفكير أعتقد أنه شائع في حياتنا وإعلامنا، وهو مسئول رئيسي عن تخلفنا وهزائمنا، وواقعنا البائس، وهو يكاد أن يكون رد الفعل الأغلب في تلك المرحلة الهامة التي نمر بها ومن هذه المفردات"الغزو الثقافي"، "ثقافة المقاومة"، وليس لي أي اعتراض وامتعاضي ينصب علي المعاني التي يقصدها أغلب المتحدثين حين تجري علي ألسنتهم هذه التعبيرات وأخواتها، وغالبا ما تحمل هذه الألفاظ مدلولاتٍ دفاعيةً، وآلياتٍ تقليديةً، وآفاقًا محدودة في التفاعل والتفعيل، وأدوات عاجزة بطبيعتها عن الصمود أمام أنماط من التحدي جديدة ومتحولة، وتحتاج إلي إبداع وعمق تفكير، الأمر الذي نفتقده غالبا للأسف الشديد.

*ما وراء العري:
لا يري أغلبنا في الصورة الثابتة أو المتحركة كوسيلة لنقل المعاني والأفكار بأسا، ومن يرون فيها ما ينبغي رفضه يدخلون من باب الحرام الشرعي لأصل التصوير بوصفه تشبيها وتجسيدا... وهو منطق لا يصمد أمام أي تفكير فقهي منهجي، ولا يلتفت أحد عندنا إلي ما هو أخطر وأعمق، وهو ما يتحدث عنه جمهور كبير من المتخصصين والمهتمين وغيرهم حول تأثيرات الصورة، وثقافة الصورة، وعصر التصوير والصورة، والتأثيرات المقصودة هنا هي نفسية وذهنية وتعليمية، ومن ثم اجتماعية ثم شاملة.

إذن إذا أحضرت عينة عشوائية من البشر حول العالم وأعطيتهم صورة لامرأة عارية وطلبت منهم رأيهم أو موقفهم أو تعقيبهم فستجد لديك ردود الفعل التالية:
0 فريق لا يري فيها أي شيء بل يعتبرها علامة من علامات الحرية والتحرر، وقد يناقشك في جمال المرأة ومقاييسها الأنثوية بوصف ذلك هو المحتوي الأهم في الصورة، من وجهة نظره طبعا.

0 فريق سيعترض علي العري يوصفه منافيا للأخلاق والآداب والأديان وبعضهم قد يعترض لأن في هذا النمط من التصوير إهانة للمرأة وامتهانا لها في مساحة الرمز الجنسي، فتصبح مجرد مشروع غواية جنسية، أو مادة ترويجية استهلاكية سلعية- كما في الإعلانات- وهما وجهان لعملة واحدة.

0 وفريق سيهتم بمسألة التصوير من حيث المبدأ... بعضهم ممن يرونه حراما في حد ذاته،- إلا للضرورة القصوى- وليس للتعري أو الإعلان.. إلخ. من الضرورات بالطبع، وآخرون سيهتمون بالتصوير من حيث هو وسيط معين في توصيل المعلومات ونقل الأفكار وبعثها في النفس، وإشاعتها في المجتمع كقيمة وكمقترح للتطبيق، وكفكرة للممارسة ونمط للتفكير بحسب الثقافة السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، ومن الطريف أن يتفق من يسمون بالمتشددين الإسلاميين مع أصحاب النظرة الأعمق لوسيط الصورة، وإن كان الفارق كبيرا بين مدخل هؤلاء وأولئك!!!،

خطورة طغيان الصورة وثقافتها أعمق من مجرد نقل العري والتعري، لأن العري والتعري- ولو في نهاية المطاف- هي أفعال إنسانية، وممارسات مفهومة، ومقبولة، ولكنها مشروطة ومرتبطة بمساحات معينة، ولأغراض معينة في بعض الثقافات دون غيرها.

خطورة طغيان الصورة وثقافتها- ولو لم تكن عارية- تكمن مثلا في تغليب أهمية وقيمة الشكل علي المضمون، والمظهر علي الجوهر بحيث يتحول الشكل والمنظر إلي هاجس ضاغط، وعصاب قاهر، وأولوية قصوي، ولو علي حساب المضمون والجوهر، أو حتى بلا مضمون ولا جوهر!!!

من أجل ذلك أتأمل بشغف المعارك الطاحنة التي تدور في مجتمعاتنا حول الشكل والمظهر فيما يخص السفور والحجاب مثلا، فمن جانب تري النسويات الملابس السائرة"حجابا" حتميا علي "العقل"!!!، ولا تري حرية وتحررا إلا مع السفور بدرجاته، ومن ناحية أخري يصرخ الآخرون، ويطبعون الكبت، ويملئون الجدران والمجالس، والدروس، والملصقات الملونة بشعارات وعبارات وتسجيلات ودعوات تشعرك بأن الحجاب هو الإسلام، وأن وزن الاستجابة لله سبحانه وتعالي بالستر تأتي في مقدمة الأولويات علي المرأة فهي تفوق أو تعدل واجب طلب العلم، وتفوق أو تجُب فضل الجهاد بأنواعه، أو تبدو حلا لأوضاع المرأة والمجتمع!!!

وخطورة هذا المنحي أو ذاك بالنسبة لفكرة وفلسفة الحجاب مثلا تكمن في أن أهم أهداف الحجاب- كما أفهم- هو تحييد الشكل، وستر أبرز مظاهر الأنوثة لتتأكد مفاهيم المساواة والإنسانية في العلاقة بين الجنسين، ومن المدهش أن يشيع نمط من الحجاب يجعله بألوانه وهيئته شكلا في حد ذاته!!!، حتى لا تستغرب إذا قرأت علي غلاف مجلة فنية أو نسائية حجاب فلانة....حشمة وجاذبية!!! وفي خضم الصراع علي الشكل يستمر غياب وانهيار المضمون فلا نحصد علي الطرفين أو الجبهتين إلا... الخواء!!!

وهذا الوضع في رأيي المتواضع هو بعض تجليات طغيان ثقافة الصورة والشكل والمظهر بالتالي، وتستطيع أن تجد أمثلة أخري في نمط تفكيرنا وعلمنا، وأداءنا لوا جباتنا الوظيفية أو إدارة علاقاتنا الإنسانية... "الشكل أهم من المضمون"

*الجنس قيود وآفاق:
في مواجهة التهييج الهائل للغريزة أو الناحية الجنسية في الناس حول العالم عبر وسائط متعددة - أهمها الصورة بالمناسبة- تتنوع ردود أفعالنا، ولكن تغلب عليها الخيبة أو قلة الحيلة:

*البعض يحاول مواجهة هذا المد بالمزيد من التشديد- والصلابة في الأشكال غالبا- وهو يحسب أن الأخلاق ومتانة القيم تترسخ بمجرد ترديد الكلام، وإغلاق الأبواب والنوافذ بعشرات المزاليج، والتضييق علي حركة النساء. بوصفهن أصل كل داء وبلاء!!!

*والبعض يري أن "المرونة" هي واجب الوقت فيذهب ليفتي بالأيسر علي طول الخط، وهو يظن نفسه بذلك يوسع من دائرة الدين لتضم أوسع وأعرض جمهور بدلا من تقليص المساحات بما ينفر الناس فيهربوا أو يملوا من الدين برمته.

والموقفان شائعان وكلاهما استجابة للضغوط المتزايدة، وكلاهما يحسب أنه علي الصواب دون أن يراجع موقفه في ضوء أصل الشرع أو معطيات الواقع، ومثلهما يأتي موقف"الانفتاح" الذي لا يري في الأمر تهيجا أو بأسا من أصله، ولكنه يراه انتصارا لقيم التحرر والحرية من بقايا الموروثات، وقمامة الشكليات الزائفة التي تقيدنا وتحول بيننا وبين الانطلاق للتقدم!!! ، وعن كل هذه المواقف- رغم تنوعها- يغيب عمق ما يحدث عندنا في النفوس والبيوت والمجتمعات.

تحولات هائلة تقع في عالمنا الجنسي بداية من الخيال الذي يعاد تشكيله لتصبح مخيلتنا الجنسية مستورة بالكامل!!، مرورا بتضاعف حجم وأبعاد هاجس وموضوع الجنس في تفكيرنا وعلاقاتنا ومشاكلنا وكل حياتنا، وانتهاء بالفقه الجديد الذي يحاول التعامل مع تلك الضغوط والمتغيرات إما بالمزيد من التشدد والرفض أو المرونة يسير دون الالتفات إلي عمق التحولات، فالموقف من ممارسات جنسية بعينها، كانت تقليديا محدودة الانتشار أو مستنكرة، أصبح يرتبط بالقدرة عليها، وبموافقة الطرف الآخر في العلاقة أكثر مما يرتبط بمرجعية خارجها، مثل الدين أو فلسفة الجنس في المنظور الإسلامي مثلا،

وفي مشكلتين تعرضنا لهما علي صفحة استشارات مجانين مؤخرا في إحداهما نجد أن الزوجة تسأل عن موقفنا ورأينا في حالتها، وهي متوافقة مع زوجها في الاستمتاع بالإتيان في الدبر، وهي تسأل بمنطق: هو يريد، وأنا أريد فما الموقف،؟! وفي الأخرى يتحدث الزوج عن مشاهدة أفلام جنسية، وعن رغبة عارمة في ممارسة الإتيان في الدبر، وعن خيالات جنسية محددة ومتكررة في كل لقاء حميم مع زوجته، ويلمح أنها تستمتع بهذا وترغب في مواصلة تلك، فماذا يكون الموقف؟

وقد حلت الفياجرا مشكلة القدرة إلي حد كبير، وفكرة المرجعية الخارجية، والأبعاد الفلسفية والغائية تتنحي تدريجيا لصالح تعظيم مفهوم اللذة والاستمتاع ليصبح الغرض الأوحد تقريبا لممارسة الجنس، وتختفي الأبعاد الروحية والوجدانية لتلك الممارسة الجليلة، فما العمل؟!

ومرة أخري ما معني الغزو هنا، وكيف نتصدى له؟!

وما نقترحه- مبدئيا- بناء علي ما تقدم أننا في حاجة ماسة إلي الفهم والنظر بعمق في مظاهر وانعكاسات، ومغزى وآليات هذه المتغيرات الجديدة، والفهم عندي يسبق الاجتهاد بالطبع، وينبغي أن يسبق الإدلاء بالرأي، أو الاستجابة بموقف، أو المبادرة بفعل التشدد علي غير هدي مثل التيسير بغير رؤية.... كلاهما ضار- ولو علي المدى البعيد- والتحدي يواجهنا جميعا، لذا لزم التنويه.



الكاتب: د. أحمد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/12/2003