إغلاق
 

Bookmark and Share

تعليم المقاومة..عبرة الماضي وآفاق المستقبل ::

الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/10/2005

"كان التعليم هو الميدان الذي تصارعت فيه القوى الوطنية مع الاحتلال والنفوذ الأجنبي في مصر" تلك هي المقولة التي أجمع عليها مؤرخو التعليم والحياة الاجتماعية والسياسية فيها. وإذا كان علماء التعليم يقولون أن هناك خمسة أسئلة كبرى تدور حولها العملية التعليمية: وهي لماذا نتعلم؟ وماذا نتعلم؟ ومن الذي يتعلم؟ ومن الذي يعلم؟ وكيف نعلم؟ فإننا نحتاج إلى أن نرى كيف أجاب الشعب وفي طليعته قياداته الوطنية على تلك الأسئلة وغيرها وقتما كان استفزاز روح المقاومة على أشده، حتى نرى كيف نجيب عليها لمستقبلنا بعد أن عادت عوامل الاستفزاز إلى الظهور بعدما توارت عن الأنظار لعدة عقود حتى توهم الناس أنها قد ولت بلا رجعة.

عوامل الاستفزاز في الماضي

أدت السياسات التي اتخذها محمد علي في تحديث مصر إلى استعانته بشكل متزايد بالأجانب، وإرساله البعثات التعليمية إلى الخارج، وتأسيس عدد من المدارس الحديثة، ومع توافد الأجانب تزايد نفوذهم الاقتصادي والتعليمي فتأسست أول مدرسة أجنبية في مصر عام 1828 (المدرسة الأرمنية)، ثم توالى تأسيس المدارس الأجنبية وخاصة في عهد الخديوي سعيد، وكان هذا هو عامل الاستفزاز الأول والذي اكتسب زخما أكبر مع وفود الاحتلال الأجنبي إلى مصر عام 1882، وما زالت بعده المدارس الأجنبية تتوالى حتى وصلت إلى 228 مدرسة أجنبية عام 1913 وكانت في أغلبها مدارس تابعة لإرساليات تبشيرية.

وعندما دهم الاحتلال مصر اتخذ سياسة تعليمية خاصة اعتمدت على عدد من العناصر أدت إلى إحباط النهضة التعليمية الثانية في القرن التاسع عشر والتي كانت قد بدأت في عهد إسماعيل، وهو ما أدى في المحصلة النهائية إلى تدهور التعليم في مصر، وقد كان ذلك هو العامل الثاني والأقوى في الاستفزاز، وتمثلت سياسة الاحتلال تلك في:

- جعل إدارة التعليم ومن ثم وضع سياساته في يد الإنجليز

- التقتير في التعليم متمثلا في: خفض ميزانيته، وإغلاق عدد كبير من المدارس، وإلغاء مجانية التعليم، والتقتير في إرسال البعثات، وفي إعداد المعلمين، وخنق الكتاتيب كقاعدة تعليمية تقليدية واسعة الانتشار.

- قصر الغرض من التعليم وتشكيل مناهجه على إعداد الموظفين وبما يتلاءم مع أغراض الاحتلال.

- نشر الثقافة الإنجليزية في مصر بجعلها لغة للتعليم بدلا من العربية.

أما العامل الثالث فتمثل في جمود التعليم التقليدي متمثلا في التعليم الأزهري وقصوره عن تحقيق أسباب النهضة المنشودة، ومقاومة أهله لمحاولات التحديث الذي أتت من داخله، الأمر الذي أدى إلى تجاوزه منذ البداية بتأسيس مدارس حديثة من خارجه وهو ما أدى لثنائية التعليم التي تكرست على مر السنين.

أشكال مقاومة الاستفزاز

لم تكن المقاومة لعوامل الاستفزاز تلك متمثلة في قيادات الشعب الوطنية فقط، بل إن الشعب بعمومه، غنيُه وفقيره، مسلمه ومسيحيُه ساهم بنصيب في تلك المقاومة والتي اتخذت عددا من الأشكال:
- حركة عامة وشاملة للوقف على التعليم عمت البلاد من شمالها إلى جنوبها بلغت الذروة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين، وشمل الوقف كل أشكال التعليم التقليدي (الكتاتيب والأزهر والمعاهد الأزهرية) والحديث (المدارس، وإنشاء الجامعة الأهلية، وإيفاد البعثات التعليمية)، كانت تلك الحركة تحقق عددا من الأهداف: حجز الأراضي الزراعية والعقارات عن أيدي الأجانب، توفير تمويل للتعليم في مقابل التقتير، حماية الهوية بإنشاء أنواع التعليم الذي يحقق ذلك، المساهمة في إحداث النهضة بتوفير أوعية التعليم الحديث، توفير التعليم للفقراء في مقابل إلغاء المجانية لحرمانهم منه.

- إبداع أشكال جديدة من التعليم من خلال "المدارس الإسلامية" والتي ساهم في إنشائها الجمعيات الخيرية التي تأسست لهذا الغرض (الجمعية الخيرية الإسلامية، والمساعي المشكورة، والعروة الوثقى والتي تأسست جميعا في عام 1892) وبلغ عدد المدارس التي أسستها حتى عام 1914 عدد 46 مدرسة، كما ساهم فيها الأهالي فرادى بـ 170 مدرسة حتى نفس العام، وتميزت تلك المدارس بأنها تجمع ما بين أشكال التعليم الديني والحديث (والفني أيضا في بعض الأحيان)، ومن ثم تقوم بحل معضلة جمود مؤسسات التعليم التقليدي، كما أنها استهدفت بشكل أساسي توفير التعليم للقطاع العريض الفقير من الشعب المصري من خلال إتاحة التعليم المجاني فيها.

- قيام العديد من الجمعيات إضافة إلى الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل بتأسيس عدد من مدارس الشعب الليلية لتعليم من فاتهم سن التعليم من العمال والحرفيين والزراع ليس فقط تعليم القراءة والكتابة، ولكن تعليمهم حقوقهم الفئوية والدستورية والمبادئ الصحية والتعاونية وبث روح الوطنية فيهم.

- إيفاد العديد من خريجي المدارس النجباء لإكمال تعليمهم العالي في الخارج مساهمة في إحداث النهضة المنشودة في جوانبها المتعددة.

- إنشاء عدد من المدارس واتخاذ عدد من الوسائل لإعداد المعلمين الأكفاء لتوفير متطلبات نشر التعليم ما قبل الجامعي.

- تأسيس عدد من المدارس الفنية، وإدخال مناهج التعليم الفني إلى عدد من المدارس الإسلامية إسهاما في توفير العمال والصناع المهرة الذين يمثلون قاعدة النهضة.

إجابات الماضي على الأسئلة

- لماذا نتعلم: من أجل رفع الوعي بتنمية العقل والوجدان بما يحقق مصالح الأمة من مشاركة الشعب في إدارة شئونه، ومن نهضة علمية وأدبية، ومن امتناع الهوية على الاستلاب.

- ماذا نتعلم: نتعلم ديننا ولغتنا بما يحفظ لنا هويتنا، ونتعلم من العلوم والمعارف التراثية والعصرية ما يفتح آفاق عقولنا ووجداننا، وبما يحقق لنا النهضة المنشودة.

- من الذي يتعلم: كل أبناء الأمة الفقير والغني، المسلم وغير المسلم، الفتى والفتاة، الصغير والكبير.

- من الذي يعلم: معلمين من أبناء الأمة الأمناء الأكفاء المؤهلين لتحقيق أغراض التعليم.

- كيف نعلم: لا نربي حين نعلم على طريقة الأذن والذاكرة، بل عن طريق تربية العقل والوجدان.

- وسؤال آخر: من الذي يمول التعليم؟ كانت إجابته إذا كانت السلطة الحاكمة لا تموله بالقدر الكافي، أو تسيره لأغراض غير ما تريد الأمة، فلتمول الأمة تعليمها بنفسها.

استفزازات الحاضر

تكاد استفزازات الحاضر تتشابه مع أخواتها في الماضي:
- تعليم أجنبي زاحف، وكأنه لم يعد يكفينا بقايا مدارس الماضي، وجامعته الأمريكية، فجيء لنا بألوان وأطياف من المدارس من جنسيات مختلفة، وجامعات ألمانية وفرنسية وكندية جديدة.

- وهيمنة أجنبية على مقدرات البلاد والعباد باتت تسفر عن وجهها شيئا فشيئا، ويخضع لها حكام البلاد، ويخضعون لها العباد.

- سياسة تعليمية حكومية أفرغت التعليم من مضمونه فصار:
كما بلا كيف: أشكال بلا مضمون، مدارس بلا تعليم نافع بالنهار، ودروس بالليل لا تفعل أكثر من أن تؤهل الطالب بملخصاتها للامتحانات، تعليم بلا هوية، لا يخرج طلابا ينتمون إلى أمتهم العربية ولا الإسلامية، ولا حتى ينتمون إلى أوطانهم أو يشعرون بالأخطار المحيقة بهم، ولا يسعون لتحقيق أهداف وطنهم ولا أمتهم.

تعليم غابت بوصلته: فعندما تكون أمة ما، أو وطنا ما بلا مشروع حياة تعيش من أجله، يكون تعليمها بلا هدف، ويبحث كل فرد فيها عن هدف خاص به، ويصبح التعليم عملية هدفها مجرد الحصول على "الشهادات"، والشهادات تعلق على الحوائط ويعمل بغيرها، عندئذ يصبح التعليم حرثا في الماء فلا يحقق نهضة ولا استقلالا.

تعليم يعلم الببغاوية: تعليم يعتمد على الأذن والذاكرة، ولا يربي في الإنسان لا عقلا ولا وجدانا، تعليم يكرس التخلف والجهل والتبعية السياسية والاقتصادية والثقافية، ويخرج كائنات غير قادرة على رؤية واقعها البائس بمنظور نقدي، ومن ثم لا تصبح راغبة في تغييره ولا قادرة على ذلك.

تعليم طبقي: فبدلا من أن تؤدي سياسات التكيف الهيكلي وبيع القطاع العام إلى تحمل الدولة تبعاتها الاجتماعية في توفير التعليم والصحة للجميع، فإنها تعمل على خصخصة التعليم، أو على الأقل تحوله إلى تعليم طبقي، فمن يملك المال يستطيع أن يعلم ابنه تعليما "راقيا" يضمن له وظيفة "راقية" تدر عليه دخلا مناسبا، ومن لا يملك المال فما عليه إلا أن يعلم ابنه التعليم المتناسب مع دخله، والذي يضمن له أن يظل في دائرة الفقر إلى أبد الآبدين.

- تعليم بديل وليس ببديل: فالتعليم الذي تتيحه بعض الجمعيات أو المجموعات الإسلامية لا يملك أصحابه ولا القائمون عليه رؤية استراتيجية ولا يدركون واقعهم ولا تحدياته بشكل متكامل، فهم إما أنشأوا المدارس الإسلامية ليحققوا بها مكاسب مادية فحسب، أو أنهم يصبغون تعليمهم بالصبغة الدينية الشكلية لا الصبغة التي تخاطب الجوهر في الإنسان، أو أنهم يكرسون الببغاوية والطبقية في التعليم كغيرهم.

آفة الأمة على لسان زعمائها

وجدير بنا قبل أن نضع خطوطا عريضة للآفاق المرجوة لتعليم المستقبل أن نتوقف هنيهة مع كلمة خالدة من كلمات الزعيم مصطفى كامل ألقاها في أكتوبر عام 1900 يقول فيها: إن كل فرد مهما كان صغيرا مطالب بواجب يؤديه لبلاده ووطنه وأمته، ولو ترك كل مصري لأبنائه من بعده حب العمل وعدم الاعتماد على الغير إرثا، لأصبحنا وفينا حياة طيبة تحيي الآمال، وتبعث العزائم عند الرجال، وإني لست أرى لبلادي آفة تهددها بالفناء مثل اعتقاد أبنائها أن الحكومة هي كل شيء، وبيدها كل أمر وعليها كل واجب، وأنهم لا يسألون عن هذا الوطن أبدا، وعلى حين أن التاريخ ينطق بأفصح بيان أن الأمة التي تعتمد في كل شئونها على حكومتها أمة منزلتها من الحكومة منزلة العبيد من سيده، أما الأمة التي تظهر في ميدان الحياة بنشاطها وجهادها وأعمالها، متحدة مع الحكومة تارة، عاملة وحدها تارة أخرى، هي الأمة التي منزلة الحكومة منها منزلة العبد من سيده، وهاهي الأمم الغربية تجدها تسبق حكوماتها في فتح المدارس وإنشاء المكاتب وتأسيس المستشفيات والقيام بكل عمل خطير، مع أن حكوماتها من الثروة وقوة السلطان بمكان.

صياغة التعليم من أجل المستقبل

إن التعليم الذي نرجوه لأمتنا في المستقبل لابد وأن تتضافر على تحقيقه موارد الأمة، ولابد أن تتوافر له السمات التالية:
لماذا نتعلم: نتعلم من أجل نهضة أمتنا واستقلال إرادتها، واستعادة هويتها، تعليم يصيغ الإنسان القادر على تحقيق آمال أمته، والذي يبني شخصيته بشكل متكامل تتضافر على تحقيقه المعارف التي نتعلمها، والأنشطة التي نقوم بها في مؤسساتنا التعليمية

ماذا نتعلم: نتعلم فيه ما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا، نتعلم تعليما إيمانيا وأخلاقيا ودينيا كما نتعلم فيه تعليما عصريا مواكبا لتطور العلوم والمعارف، ومرتبطا بأهداف النهضة والتنمية والاستقلال، ونتعلم ما يجعلنا مواطنين أحرار في أوطان حرة.

من الذي يتعلم: جميع المواطنين غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، بنينهم وبناتهم الجميع على قدم المساواة.

من الذي يعلم: معلمون أمناء أكفاء قادرون على تحقيق أهداف تعليمهم في صياغته الجديدة.

كيف نتعلم: نتعلم تعليما لا يزكي الأذن والذاكرة بقدر ما يزكي العقل المفكر والوجدان الحر.

اقرأ أيضا:
الحزب الوطني "القديم"..مدرسة في صناعة الحياة
واحة الصبيان..نموذج البناء الأخلاقي
بناء القدرات التكنولوجية في الأمة
        صناعة الحياة..أطر لتحديد الرؤية

 



الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/10/2005