إغلاق
 

Bookmark and Share

إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(2) ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/10/2005

إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(1)

مثلث الحرية في عالم الاستبداد (الإبداع الأدبي والجنون والحلم):

يبدو أن ثمة علاقة بين هذا الثلاثي فالمجنون تتمثل فيه عمليات انفلات التفكير وجموح العقل أو غيابه وفيضان الخيال وحضوره وفجاجته, وكسر المألوف وتجاوز حدود العرف السائد, وتحريك الثوابت وتعتعة الجمود ومراجعة البدهيات والمسلمات وتجاوز حدود الممكن, وإثارة الرغبات والأمنيات دون حدود, وكذلك يحدث في الحلم, وهى حالات يتوق الأديب لأن يصل إليها ويستمد منها مواد إبداعه, فحالة اللاعقلانية في الجنون والحلم والإبداع الأدبي تعطى غطاءا مناسبا للتعبير الحر العابر للقيود والحواجز والدفاعات النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية .

والحلم جنون عابر نشفى منه عندما نستيقظ, وهو محاولة للتنفيس الصحي ومحاولة لحل الصراعات ومحاولة للتوليف بين المتناقضات داخل النفس وخارجها .

والحلم( كما الجنون والإبداع )لا يلتزم بقانون, ويتجاوز حدود الزمان والمكان والعقل والمنطق السائدين, وهو يعطى فرصة لمستويات أكثر بدائية وفى ذات الوقت أكثر أصالة لكي تنشط وبالتالي فالحلم ينقذنا من الرؤية أحادية البعد والتي نتورط فيها في عالم اليقظة المحدود لكي يدخلنا في رؤية متعددة الأبعاد والمستويات, وربما هذا هو ما يجعلنا نستغرب أفكار الحلم وخيالاته ومشاعره ونجدها غير مألوفة لنظرتنا المنطقية الأحادية في اليقظة.

وصور الأحلام بدائية مثل رسومات الأطفال (وكبار الفنانين) تنزع إلى الطبيعة التركيبية فتمزج الذات بالموضوع والخيال بالواقع والإنسان بالحيوان, فيمكن أن يطير الإنسان وتتكلم الطيور وتمتزج شخصيتين في شخص واحد, أو نرى جسد حيوان له رأس إنسان أو العكس ...........وهكذا.

خلاصة الأمر أن الحرية في الحلم ( كما الجنون والإبداع الأدبي والفني ) واسعة (وإن لم تكن مطلقة) ولهذا كان يطمع فرويد (صاحب كتاب تفسير الأحلام) في الإطلالة على محتوى اللاوعي (الفوضوي المتمرد الأصيل المؤثر) من خلال نافذة الأحلام . وحتى بدون الأحلام حاول من خلال التداعي الحر الذي يتتبع سلسلة الأفكار فيصل إلى جذورها.

والفنان السريالي حاول أن يقلد الحالم والمجنون بأن يكون حرا يسقط على لوحته ما يشاء دون اعتبار للمنطق والسببية والعلاقات المنطقية بالأشياء على اعتبار أن المنطق السائد ربما لا يكون هو الأفضل دائما وأن ما ليس كذلك ربما يكون أكثر قيمة أو على الأقل جدير بالرؤية والاستكشاف.

يقول الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه "الأدب والجنون"( 1993):"إن موضوع التداعي الحر والترابطات المفككة والمنطلقة كظاهرة وكأسلوب للدراسة والعلاج هو موضوع مشترك في دراسات الأحلام ودراسات المرض العقلي, وفي عديد من الاتجاهات الفنية المعاصرة, وبصفة خاصة السريالية. إن العقل ارتبط دائما عبر التاريخ بالمنطق والنور والوضوح والفهم والنهار والطمأنينة, بينما ارتبط الجنون وكذلك الأحلام بالفوضى والظلام والغموض والليل وعدم القابلية للفهم والخوف".

وقد استفاد نجيب محفوظ بالحلم والإبداع الأدبي لكي يحصل على أكبر مساحة ممكنة لحرية التعبير خاصة أنه عاش في ظروف تكثر فيها المحاذير والخطوط الحمراء, فقام بعملية توليف بين القديم والحديث وبين الشخصي والعام وبين شقاوة الصغار ووقار الكبار وبين ذات الطفل وذات الراشد وذات الناضج (طبقا لرؤية إريك برن) وبين الذات الاجتماعية والذات المثالية والذات الحقيقية (طبقا لرؤية كارين هورنى), وبين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة والنفس المطمئنة (طبقا للرؤية الدينية), وبين شقاوة الصغار ووقار الحكماء .

علاقة محفوظ برموز السلطة ورموز الدين :
تبدو علاقة محفوظ برموز السلطة والدين في أحلامه علاقة غير مريحة دائما فهي تتسم بالريبة, وهو دائما يرى هذه الرموز في غير موضعها الافتراضي, فالسلطة غاشمة وغير أمينة ومتحالفة مع الفساد وتمارس اللصوصية تحت قناع حماية الناس وحماية ممتلكاتهم ومصالحهم, والأشخاص ذوى المظاهر الدينية في الأحلام خادعين ومشوهين ومتقلبين ويؤكدون فكرة التدين الكاذب أو الكذب المتدين . وربما يرجع هذا لخبرته الحياتية ببعض رموز السلطة السياسية والدينية , أو يرجع لنشاط ذات الطفل لديه كمبدع والتي تريد مزيدا من الحرية والانطلاق ولكنها تخشى دائما ذات الوالد (صاحب قانون الصواب والخطأ والحلال والحرام والأمر والنهى).

وهو يرى دائما أن السلطة (سياسية أو أمنية أو دينية أو اجتماعية أو أبوية) تظهر غير ما تبطن, وأنها ليست بالوقار والاحترام والأمانة الظاهرين. ويتضح هذا في أكثر من حلم من أحلامه, ولا تتوقف هذه الصورة على الأحلام بل قد تبدت بصورة واضحة في نظرته للذات الوالدية في شخصيته الشهيرة "سيد أحمد عبد الجواد" تلك الشخصية التي تظهر الوقار والحزم والقوة في الظاهر في حين أنها في الباطن شخصية نزوية هزلية . وربما تمثل هذه النظرة تقييما حقيقيا موضوعيا للسلطة لديه في كل صورها, وربما يكون ذلك نوع من العدوان عليها رغبة منه في إزاحتها من طريق إبداعه وحريته.

وفى حكايات الحارات (في كثير من رواياته) كان "الفتوة" يحكم الحارة ويتحكم فيها بمنطق القوة لا بمنطق العدل أو الرحمة, ويستبد بأهلها ويذلهم إلى أن يفيض الكيل وتظهر قيادة جديدة متمثلة في أحد أبناء الحارة الشجعان والذي يتجاوز حالة الرعب والحذر ويهزم الفتوة (الذي يظهر ضعفه وخواؤه أثناء المواجهة الحقيقية رغم ظن الجميع أنه لا يهزم أبدا ), ثم ينصب نفسه ( أو ينصبه الناس) "فتوة جديدا", يبدأ عادلا متواضعا مثاليا ومحبا للناس وعطوفا عليهم, ثم يأخذه بريق السلطة بشكل تدريجي إلى أن يصبح أكثر ظلما من سابقه, ويساهم أهل الحارة ( بوعي أو بغير وعى) في إحداث هذا التغيير في نفس الفتوة الجديد من خلال نفاقهم ومداهناتهم وسكوتهم وخوفهم إلى أن يدفعوا الثمن كما دفعوه من قبل وكما يظلون يدفعونه دائما, وكأنهم في حاجة دائمة لصنع طاغية يعيش معهم دورة طغيان تنتهي نهاية درامية لتبدأ دورة طغيان جديدة بسيناريو مختلف ونهاية واحدة. وهكذا كان يرى محفوظ السلطة السياسية والأمنية معا في صورة "فتوة الحارة" ويسقط عليها كل معاني الظلم والاستبداد والقهر .

أما موقفه من السلطة الدينية والذي اتضح في بعض أحلامه واتضح أكثر في رواية "أولاد حارتنا" فقد رآها سلطة بشرية غالبا مستترة بشعارات دينية ولكنها تبحث عن مصالحها الذاتية في النهاية, وقد تنبؤٍ بسقوطها لحساب العلم "عرفة" في الرواية باختصار هو لا يشعر بالارتياح تجاه أي سلطة سواء كانت سياسية أو أمنية أو دينية, وهذا لا يمنعه من قبولها كأمر واقع على مضض وإبداء الخضوع التكتيكي حيالها ربما اتقاء لشرها .

وربما يزداد فهمنا لذلك إذا عرفنا الواقع الموازى لكتابة مثل هذه الأعمال حيث كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي ثم بعد ذلك تحت القبضة السلطوية القاهرة والمستبدة لرجال الثورة, ولم تكن هناك - في معظم الأحوال- فرصة للتعبير الحر عن أفكار الناس ومشاعرهم تجاه هذه السلطة خاصة في مرحلتها الثورية المستبدة والمتشككة وغير المنطقية .

هذا عن السلطة السياسية التي كتب في ظلها الكثير من أعماله وأسقط على أبطال رواياته كل ما يريد أن يقوله دون أن ينتبه رجال السلطة, أما من ناحية السلطة الدينية فقد كانت هناك موجة المد الاشتراكي واليساري القادمة من الثورة الشيوعية في روسيا, والتي تأثر بها عدد من المثقفين المصريين والعرب, وكانت هذه الموجة تلوح بانتشار العدل وسقوط الرأسمالية المستغلة وعلو شأن الطبقات العاملة المطحونة, وانهيار التركيبات السياسية والدينية القائمة ليحل محلها تركيبات وتنظيمات عمالية وشعبية جديدة تنشر المساواة والعدل .

هذه الصورة كانت تداعب خيال كثير من الكتّاب والفنانين في هذه الفترة (خاصة ذوى الميول المثالية) وتدفعهم للثورة ضد كل السلطات القائمة (السياسية والدينية على وجه الخصوص) أملا فى تطبيق النظرية الجديدة التي صاغها كارل ماركس وحاول لينين وستالين تطبيقها وتصديرها خاصة إلى دول العالم الثالث التي ترزح تحت نير القهر والاستبداد باسم الحاكم أو باسم رجال الدين .على هذه الخلفية نستطيع أن نفهم رواية "أولاد حارتنا" وبعض أحلام فترة النقاهة بما فيها من تكثيف ورمزية وإزاحة وإسقاط .

وحين انهارت هذه الفلسفة الاشتراكية (أو الشيوعية), أو على الأقل انهارت تطبيقاتها لم يكن من السهل على من صدقوها أو اعتنقوها أو أيدوها أو أعجبوا بمثالياتها, لم يكن من السهل عليهم التراجع عن كل مبادئها, فقد كانت بالنسبة لهم أحلام مرحلة من مراحل عمرهم لا يستطيعون التنكر لها, وكانت أعمالهم التي أنجزوها في ظل هذه الفلسفة بمثابة أبناء ربما لا يعجبهم بعض سلوكهم الآن ولكنهم لا يملكون التبرؤ منهم فهم رغم عيوبهم- يعتبروا أبناءهم .

وهذا ربما يساعدنا على فهم موقف نجيب محفوظ من رواية "أولاد حارتنا" فهو لا يتبرأ منها (كما كان يحلم البعض أو يتمنى), وفي نفس الوقت لا يفخر بها (على الأقل علنا)ولا يعيد نشرها . لقد كان استطرادنا حول هذه الرواية بالذات مقصودا لسببين,أحدهما ما صار حولها من لغط (وهذا لا يهمنا في دراستنا الحالية), وثانيهما (وهو الأهم لدينا الآن ) هو أن هذه الرواية بمفهوم الأحلام توازى أحد أحلام القلق والتي لم يستطع الجهاز النفسي للحالم استخدام أساليب الترميز والتكثيف والإزاحة والإسقاط بالقدر الكاف لتمرير فكرته أو مشاعره تجاه شئ ما فخرجت هذه الأفكار أو المشاعر صريحة نسبيا وقريبة من الواقع لذلك أثارت قلقا دينيا واجتماعيا عانى منه محفوظ كثيرا, وهى –كما قلنا توازى "حلم القلق"( الكابوس) الذي يفشل في التخفي والتنكر فيقتحم الوعي صريحا متحديا فجّا فيحدث حالة من القلق تزعج النائم وتجعله يستيقظ فى حالة هلع واضطراب .

ومن هنا تبدو رواية "أولادحارتنا" ينقصها الحبكة الفنية التي تسمح بتوصيل فكرة معينة دون أن تستثير عنفا واضطرابا, لأنها لو استثارت عنفا واضطرابا ومقاومة ودما مسفوحا كانت أقرب للمقال أو المنشور السياسي (هذا من منظور الحلم والذي قد يختلف عن المنظور الأدبي والذي منح بسببه محفوظ جائزة نوبل) .
 



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/10/2005