إغلاق
 

Bookmark and Share

جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/03/2006

ولد جمال حمدان عام 1928م في قرية ناي مركز قليوب (والتي تبعد عن القاهرة نحو 40 كيلومترا, ثم عاش في مدينة القاهرة بحي شبرا حيث كان يعمل والده مدرسا, وتوفى في شقته وحيدا (كما عاش وحيدا) في 17 أبريل 1993م, أي أنه عاش حوالي 65 عاما, ورغم عزلته ووحدته إلا إنتاجه العلمي كان يعكس عبقرية من نوع خاص, فقد مكنته عزلته من تجاوز الشكليات والتفاصيل والنفاذ إلى الجوهر والروح, وقد أدى غضبه من المصريين كبشر إلى توحده مع مصر كوطن بعبقرية زمانها ومكانها, وقد أثارت حياة جمال حمدان المختلفة عن المألوف تساؤلات كثيرة: أهو عبقري فقط, أم عبقري معتزل, أم عبقري مغترب, أم عبقري لديه مشكلات في التكيف الاجتماعي, أم عبقري مريض ؟؟؟, وهذا ما سنحاول رؤيته في تلك الدراسة .

التركيبة الأسرية وانعكاساتها النفسية :
هناك العديد من الدراسات النفسية التي تحاول الربط بين ترتيب الشخص بين إخوته وصفاته النفسية, وسوف نحاول استخدام نتائج هذه الدراسات لفهم ديناميات شخصية جمال حمدان, وفيما يلي ترتيبه بين إخوته :
1- سعاد – توفت بعد ولادتها بشهور
2- شكرية
3- محمد
4- جمال الدين
5- جمال ( جمال حمدان )
6- عبد الحميد

إذا تأملنا هذه التركيبة الأسرية فإننا نخرج ببعض التوقعات التي تساعدنا على فهم بعض الأشياء الغامضة في حياة هذا العبقري :
توفت أخته سعاد بعد ولادتها , وهذه تعتبر صدمة للأسرة في أول ولادة, وبالتالي نتوقع احتفاءا كبيرا بالمولودة التالية وهى شكرية
ثم يأتي أخوه محمد بعد شكرية, فيحظى أيضا باحتفاء كبير نظرا لكونه ذكرا ( كعادة الأسر المصرية والعربية عموما )
أما الأخ الرابع وهو جمال الدين فلا نتوقع أن يكون لمولده وقع خاص, فالأسرة لديها الآن بنتا وولدا
ويأتي المولود الخامس, وهو ولد يسبقه ولدين, فنتوقع أن يكون استقباله روتينيا بل ربما يكون فاترا فهو تكرار لما سبق, وهذا نلمحه في تسميته " جمال ", رغم أن أخيه السابق يسمى جمال الدين, وهذا الموقف في التسمية يوحى بالإحساس بالنمطية تجاه هذا المولود الجديد, وربما يوحى ببعض العدوان الخفي تجاهه من جانب أحد الوالدين أو كليهما, فكأنهما قد ضنّا عليه باسم متميز فأعطوه اسم أخيه السابق بعد أن نزعوا عنه بقيته, فالرابع " جمال الدين " والخامس " جمال "
ثم يأتي الأخ الأصغر والسادس عبد الحميد من نفس الجنس , ولكنه هنا آخر العنقود .

إذن فشكرية هي البنت البكرية وأول فرحة الأسرة خاصة بعد فقد سعاد, إذن فلها مكانة خاصة لدى الأسرة, ومحمد هو الولد الأول فله مكانة خاصة أيضا فهو الرجل الثاني في الأسرة بعد أبيه, وعبد الحميد آخر العنقود المدلل, فله مكانته من هذه الناحية , ويبقى جمال الدين وجمال في الوضع الأوسط ليس لهما تميز في شيء . والابن الأوسط عموما يكون منسيا, أو على الأقل هو يشعر دائما أنه منسي, ولذلك يغلب عليه الشعور بالظلم أو الإهمال من والديه , ولذلك نجده يأخذ أحد المسارات التالية:

1 – التميز في شيء إيجابي لكي يستعيد مكانته المفقودة ويؤكد وجوده ويقول للجميع: " أنا أستحق الاهتمام " , فالأمر بالنسبة له مسألة كرامة ولذلك حين يتحقق تميزه ويبدأ الآخرين         في الالتفات نحوه فهو يرفض ذلك غضبا وحزنا, وكأنه يقول لهم بلسان الحال:" أنتم لم تحبوني لشخصي, وإنما لإنجازاتي وأعمالي, لذلك أنا غاضب منكم وحزين على نفسي "

2 –
التميز في شيء سلبي, بأن يكون عنيدا أو عدوانيا أو فاشلا, بحيث يجذب نظر واهتمام والديه رغما عنهما إليه.

3 – الانسحاب والتقوقع حزنا وألما وربما عدوانا سلبيا على الآخرين

وفي حالة جمال حمدان نجد أنه قد حاول أن يستعيد مكانته الأسرية المفقودة (على الأقل في نظره) بالتميز الدراسي فكان هو أول شخص في العائلة يحصل على التوجيهية وأول شخص يلتحق بالجامعة (كلية الآداب) جامعة فؤاد, ووجد نفسه في هذا التميز الدراسي, وأصبح بفضله فخر الأسرة والعائلة كلها, وهذا مفتاح مهم في فهم خياراته بعد ذلك, حيث نجد تشبثه بالعلم كوسيلة وحيدة لإثبات وجوده في صراع الأقران والحياة, وهو يكتشف من وضعه الأسرى أنه يحصل على الحب والتقدير بقدر ما يتفوق في علمه لأنه لا يملك أي مكانة خاصة أخرى تمنحه ذلك. وهذا ما فعله بقية حياته حيث اكتشف أن هناك منافسة غير شريفة, وضاغطة بينه وبين زملائه في قسم الجغرافيا, فانسحب من الصراع حتى لا يبدد طاقاته فيه, وآثر أن يتشبث بالشيء الأوحد الذي يعطيه دائما الحب والتقدير واحترامه لذاته, ألا وهو العلم, فكأنما كان يصنع علاقته مع الحياة ومع الناس (ولو من بعيد) بواسطة العلم, فكأنه يقول لهم بلسان الحال: "لم تستطيعوا أن تمنحوني الحب لشخصي, فسأحصل على حبكم وتقديركم لعلمي الذي سوف تعرفون قيمته في يوم من الأيام" ولذلك كان يكتب للناس, ولكن عزة نفسه وكبريائه المجروحين كانا يأبيان أخذ مقابل تافه لذلك العلم, حيث كان يطمحان إلى الخلود.

مشواره الدراسي ودلالاته النفسية :
بدأ مشواره الدراسي في مدرسة شبرا الابتدائية عام 1936 م وكان طالبا عاديا يلعب كرة القدم ومتشوقا إلى حصة "فلاحة البساتين"، ولم تكن طفولته تنم عن أي عبقرية, ثم التحق بمدرسة التوفيقية الثانوية وأحب مادة "الجغرافيا" وزاد حبه لها بسبب أستاذه المرحوم/ محمود جمال الدين, ثم التحق بعد ذلك بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة) حيث ظهر تفوقه وحصل فى السنة الثانية علي تقدير ممتاز الأمر الذي أهله في السنة الثالثة لتعلم اللغة الألمانية وحضور محاضرات تتعلق بمنهجية البحث، وهي محاضرات كانت مقصورة على الطلبة الحاصلين علي درجة الامتياز. ثم حصل على ليسانس الآداب بامتياز وعين معيدا بنفس الكلية عام 1948 ثم سافر إلى انجلترا وحصل على الدكتوراه وعين مدرسا بالجامعة.

نلاحظ في مشواره الدراسي اهتمامه بمادة الجغرافية, والجغرافية تعنى في الوعي العام بعد المكان, وفى هذا إشارة مبكرة إلى غلبة التعلق بالمكان لدى جمال حمدان وأنه سوف يكون أهم لديه من البشر.

كما أن الجغرافيا كتخصص لا تحظى باهتمام كثير من الطلاب, وكأنه هنا يبحث عن شيء لا يتنافس عليه كثير من الناس, حيث أن لديه ذكريات مؤلمة في التنافس الأسرى كان هو فيه خاسرا بسبب ترتيبه غير المتميز بين إخوته , ولم يكسب فيه شيئا إلا بتفوقه الدراسي على إخوته السابقين له . ثم نأتي إلى سبب آخر لحبه للجغرافيا وهو أستاذه محمود جمال الدين, فيبدو أنه أعطاه ما افتقده من الحب الوالدي (على الأقل في نظره هو), وربما تكون هذه العلاقة الإيجابية بهذا الأستاذ الجليل وببعض الأساتذة بعد ذلك طوق نجاة لجمال حمدان أنقذه من الوقوع في التعميم بأن كل البشر سيئين ,لأن ذلك لو كان قد حدث, فإن نتيجته هي موقف بارانوي كامل من البشر يؤدي إلى عواقب سلوكية وخيمة .

اقرأ أيضا:

بين الإبداع والابتداع  / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)  / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) /الحالة النفسية للطفل مجهول النسب  / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / سيكولوجية الرجل  / الزوج المسافر(4)  / الشخبطة السياسية  / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي )  / فن اختيار شريك الحياة (5)  / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4)  / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر  / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته  / الجوانب النفسية للعقم عند النساء  / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / جيل الماوس والموبايل والريموت كونترول  / سيكولوجية الاستبداد (الأخير)  / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق  



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/03/2006