إغلاق
 

Bookmark and Share

قراءة للحوار غير اللفظي في لقاء جمال مبارك ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/04/2006


رغم أنني أضن بوقتي على البرامج الحوارية(بالواو) في التليفزيون المصري لمعرفتي كيف تعد وكيف تدار ومن تستضيف إلا أن الأمر في هذه المرة كان مختلفا, حيث كان الضيف السيد جمال مبارك الرئيس القادم لمصر كما تدل كل الشواهد (إلا لو حدثت معجزة), والمضيفة السيدة لميس الحديدي, وكنت شغوفا أن أعرف بالذات الوجه الإنساني لهذا الشاب المهذب الذي ربما يأخذ الناس (خاصة المعارضين) موقفا منه لمجرد بنوته للرئيس المخضرم (أو الدائم, أيهما أطول) محمد حسني مبارك, خاصة أن علاقتي الشخصية بالسيد جمال مبارك تعود إلى حوالي ثلاث سنوات حين ضاعت سيارتي إبان زيارته للمنصورة حيث كنت "أركنها" في شارع الجيش في مكان مسموح فيه بالانتظار لكل السيارات على مدى سنوات طويلة, ولكن في هذه المرة تغير القانون (لا الدستور) فجأة دون سابق تنبيه, حيث قام المرور في ذلك الوقت وبشكل مفاجئ بسحل كل السيارات(كانت أعدادها بالمئات) في هذا الشارع وإلقائها في الشوارع والحواري المجاورة والبعيدة, ورحنا جميعا (أصحاب السيارات التائهة) نهيم على وجوهنا في رحلة طويلة للبحث عن السيارات المفقودة.

واستمرت هذه الرحلة حوالي ثلاثة أيام ولم أعثر على سيارتي إلا باتصال من أهل الحارة التي ألقيت فيها السيارة بعد أن فتحوها وأخرجوه منها الرخصة واستدلوا على رقم تليفوني, ومن يومها حدث لدى ارتباط شرطي مع السيد جمال مبارك, ولمن لا يعرف معنى الارتباط الشرط أوضح أنه كلما ورد اسم السيد جمال تساورني مشاعر الحيرة والقلق التي ساورتني أيام ضياع سيارتي التي كنت (وما زلت) أرتبط بها ارتباطا خاصا فهي تشاركني الكثير من ذكرياتي حلوها ومرها, وعلى الرغم من ابتعادي عن العمل السياسي بكافة أشكاله لأسباب شخصية إلا أنني يومها رأيت أن السياسة تدخل علىّ في عقر سيارتي دون استئذان, وربما يكون هذا هو سر اهتمامي بكتابة هذا المقال الذي ترددت كثيرا قبل كتابته ليس خوفا (فما يكتبه الصحفيون ويقوله الإعلاميون على الفضائيات يدل على مساحة حقيقية من حرية الرأي وحرية الصراخ تحسب لمبارك الأب ومبارك الابن), ولكن ضنا منى بالوقت الذى أفضل قضاءه أستمع لمريض نفسي مسكين سحقته الظروف الراهنة ولم يرحمه البشر, أو اقرأ مقالا علميا حديثا أو أرد على استشارة نفسية على موقع على الإنترنت, أو أكتب مقالا أعتقد أو أتوهم أنه يضئ مساحة في حياة إنسان مهما كانت جنسيته أو انتمائه.

أعتذر عن هذه الاستطرادة الشخصية غير المبررة (أو ربما يكون المبرر إعلاني المسبق باحتمالات تحيزي وتنبيه القارئ لها حتى لا يقبل كل ما أقوله دون تمحيص كاف, وهذا ما أنصح به نفسي وأصدقائي وتلاميذي ومرضاي وكل من أحب) وأعود لشوقي للتعرف على الجانب الإنساني للسيد جمال مبارك(بشكل مباشر بعيدا عن غموض السياسة وأخطاء جهاز المرور التي أعلم أنه غير مسئول عنها) من خلال حواره مع السيدة لميس الحديدي, فجلست وأجلت موعد ذهابي لعيادتي (رغم إدراكي لخطورة ذلك في عيادة نفسية تموج بالحالات المضطربة وتحمل مخاطر الانفجار في لحظة), وأسكت كل الأصوات من حولي كي لا تفوتني كلمة أو عبارة أو إشارة فأنا أتوقع أنه ليس في كلام السيد جمال حشو أو زوائد, فكل كلمة لها معنى ووظيفة.

ولكن فضولي الزائد أصابه الإحباط بعد قليل من الوقت حيث حاصرتني مهنتي وجعلتني أكتشف غيابا تاما للتلقائية في الحديث وغلبة الإجابات الدبلوماسية التي تتحدث كثيرا ولا تقول شيئا, واكتشفت من خلال ملاحظات عديدة(منها عدم تغير انفعالات السيد جمال عند تلقيه أي سؤال مع أن بعض الأسئلة يستدعي ذلك, ومنها ذلك الفتور السائد الذي جعل النوم يغلبني على غير عادتي).

أن الحوار معد سلفا, وأن الأسئلة ربما تكون قد تسربت مبكرا جدا قبل الامتحان(قصدي قبل الحوار), وأن الإجابات النموذجية ربما يكون قد شارك فيها عدد من المدرسين الأوائل(وما أكثرهم في لجنة السياسات والحزب), فيئست من الحوار الدبلوماسي سابق الإعداد والتجهيز, وكدت أقوم للبحث عن لقمة العيش ومساعدة المرضى النفسيين المساكين التلقائيين الواضحين الصادقين(ربما أكثر مما يحتمله منهم بقية الناس) ولكنني تذكرت معلومة كنت قد درستها في بداية حياتي العلمية وتدربت(ودربت)عليها في مجموعات تنمية المهارات الاجتماعية وخاصة مهارات التواصل, وهى أن الحوار اللفظي لا يحمل أكثر من 30% من محتوى التواصل(في حالة صدقه وتلقائيته), وأن الحوار غير اللفظي يحمل70% من ذلك المحتوى, فقررت أن ألبس نظارة الحوار غير اللفظي لأقرأ بها ذلك الحوار الموازى غير المنطوق.

ولغير المتخصص أوضح أنه الحوار المقروء من تعبيرات الوجه ونظرات العينين ونبرات الصوت وحركة اليدين والأصابع والجسد وضبط المسافات ونوع الملابس.... إلخ, وهو علم كبير يهتم به المشتغلون بفنون التواصل والتأثير, وإليك عزيزي القارئ ما وصلني من هذا الحوار غير اللفظي (أو الموازي).

كانت السيدة لميس تقوم(ربما بوعي أو بغير وعي) بدور المدرسة التي تمتحن طالبا موصى عليه, وهى تريده أن يقوم بالإجابة على خير وجه لكي يحصل على درجة عالية وتحصل هي على"حلاوة النجاح", فهي تسأله السؤال " المعد سلفا على وجه الترجيح القريب من اليقين" وتنتظر منه الإجابة "المعدة سلفا" وتنظر إليه نظرة حانية مشجعة ولسان حالها يقول: "نحن درسنا كل هذا من قبل في المقرر... ولا توجد أسئلة خارج المنهج".

وكانت أسئلتها في أغلبها تتوقف عند المستوى الأول(السؤال المباشر) ولا تتجاوزه إلى المستوى الثاني أو الثالث أو الرابع(تلك المستويات التي يعرفها المحاورون اللي بجد أمثال بثينة كامل ومنى الشاذلي وإيمان جمعه وإبراهيم عيسى, وحمدي قنديل, ووائل الإبراشي ومجدي مهنا وعمرو أديب وأحمد منصور وفيصل القاسم وزاهي وهبة وغيرهم من أساتذة الحوار ورواد التنوير والإصلاح في الإعلام العربي), تلك المستويات التي تستوضح وتبحث عن تفسير وتسكشف مناطق ومستويات غامضة, وهذه المستويات تظهر للمحاور في التو واللحظة أثناء الحوار ومن خلال ردود الضيف, ولا يصلح أن تكون معدة سلفا.

وكان السيد جمال يجلس في تواضع الممتحن(بفتح الحاء) فيميل بجسمه للأمام وربما يضع يديه على المنضدة حتى ينتهي من الإجابة فتنظر إليه الممتحنة(بكسر الحاء) في ابتسامة مشجعة(ولكنها بايته أو باهته ربما بسبب حدوثها قبل ذلك في البروفات), وفى لحظات الراحة كان السيد جمال يعود إلى وضعه(الذى اعتاده في لجنة السياسات) فيرجع بجسده للوراء مع ميل الرقبة إلى اليمين قليلا ورفع الرأس في شموخ واستعلاء والنظر إلى المتحدث في إباء مترفع بعينين فاحصتين وتكشيرة تظهر في كرمشة الجبهة والضغط على الأسنان أو زمة الشفتين, وكأنه ينهر الممتحنة(بكسر الحاء وكسر النفس) ويذكرها بدورها في الموضوع وأن لا تنسى نفسها وأن تعرف"هي بتكلم مين", ثم ما يلبث أن يعود مرة أخرى إلى الميل بجسمه للأمام عند بداية الإجابة لسؤال جديد.

وحركات الجسد لدى السيد جمال ليست بالكثرة التي تساعد على قراءته باستفاضة وقد شكل هذا صعوبة في البداية, ولكن حتى ندرة الحركات له دلالة هامة فهي تعنى ضعف التلقائية وكثرة الدفاعات والمحاذير لدى المتحدث, وتعني التزامه الشديد بقواعد صارمة في التعامل وتعنى حرصه على إخفاء ما يقصد, وتعنى فقرا وجدانيا, وتعنى بعدا عن الحميمة والدفء الإنساني, وتعنى أحادية أو اختزالية في الرؤية, وتعنى عدم وجود تساؤلات أو حيرة أو دهشة أو احتمالات أخرى, فكل شيء معروف ومحدد سلفا, ولا مكان للتساؤل أو الحيرة أو الدهشة, ولا توجد مفاجآت أو مساحات جديدة للرؤية أو الاختلاف.

ورغم ندرة وفقر الإيماءات والإشارات إلا أنه كانت تغلب حركات نمطية باليدين والأصابع تتلخص في حركة "الساطور" (وهي بالنسبة للمصريين الذين لا يذهبون للجزار كثيرا أشبه بسكين عريضة وسميكة يستخدمها الجزار في تقطيع اللحم وتكسير العظم), وحركة "الصدادات", وحركة "السبابة فوق اليد المضمومة", ولمن لا يقرأ بهذه الطريقة أوضح أن حركة الساطور ضم أصابع اليد اليمنى بجوار بعضها مع فرد كف اليد بحيث تصبح الكف مثل الساطور(الذى سبق وصفه لمن لا يعرفه أو نسيه), وهذا الكف الساطوري يتحرك أثناء الكلام أعلى وأسفل وربما يصل إلى المنضدة فيحدث صوتا, وهذه الحركة تعنى اعتزاز الشخص برأيه وتصميمه عليه لأقصى درجة وعدم رؤيته لاحتمالات أخرى, وهذه الحركة مأخوذة من موقف الجزار وهو يمسك بالساطور ويهوى به على قطعة اللحم أو العظم يريد أن يقطعها أو يكسرها دون تردد.

أما حركة"الصدادات" فهي رفع الكفين إلى مستوى الصدر وفرد الأصابع قليلا وتقريب أطراف أصابع الكفين المفرودتين من بعضهما من وقت لآخر وبحيث يكون ظهر الكفين تجاه المستمع, وباختصار فإن الكفين مع الأصابع يشكلان صدادات بين المتحدث والمتلقي, وكأن المتحدث يصد الرسائل القادمة (أو محتملة القدوم من ناحية المتلقي), وكأنه يقول له استمع لي ولا تحاول أن تقول شيئا أو تغير شيئا فسأصد كل الرسائل الواردة منك, فالرسالة أحادية الوجهة وليست رسالة تبادلية أو تفاعلية (وهذا عكس من يجعل باطن يديه المبسوطتين في استرخاء والمبتعدتين في حركة أشبه بالاستعداد للاحتضان للرأي الآخر أو للشخص الآخر أو لكليهما).

وفى كثير من الأحيان كانت الكف اليمنى تتحرك في الفراغ يمينا ويسارا في إشارات رافضة على الرغم مما يصاحبها من كلمات تبدو مهذبة ومتقبلة, وهذا يسمى في التواصل:" ازدواجية الرسالة" فهناك رسالة لفظية تعلن القبول والتعاون والتوافق, ورسالة غير لفظية مشحونة بالرفض والاعتراض والعناد.

ويواكب كل هذا نظرات مليئة بالتحدي والعناد تتضح في ثبات وضع العينين وتكشيرة سلطوية تبدو في ثنيات في جلد الجبهة أغلب الوقت مع ذمة في الشفتين وضغط على الأسنان, وهذه الأشياء تجعل النظرة غير ودودة وغير حميمية.

أما حركة السبّابة فهي الإشارة بإصبع السبابة اليمنى مع ضم بقية الأصابع, وهذا يعلن عن موقف تحديدي وتحذيري, وعن موقف تعليمي وإرشادي من سلطة أعلى, وربما يفتح هذا بابا لرؤية شخصية السيد جمال من خلال نظرية التحليل التفاعلات لإريك برن, والتي يظهر من خلالها أن ذات "الراشد" وذات "الوالد الناقد" لديه متضخمتين على حساب ذات الطفل التي تبدو ضامرة, ولمن لا يعرف معنى هذه المصطلحات فإن ذات الراشد تعنى ذلك الجزء من الشخصية الذي لا يعرف سوى حسابات المكسب والخسارة ولا يتعامل مع الأحلام والأمنيات والمعنويات ولكن يتعامل فقط مع الواقع الملموس, ويتصرف فيه كالكومبيوتر أو كالمحاسب في بنك, أما ذات الوالد الناقد فتضح في أخذ موقف المعلم والموجه للآخرين واخذ موقف الآمر الناهي والمحذر والمصحح وصاحب الرأي الأعلى والأوحد, وأن الآخر في نظره عليه أن يسمع ويطيع فقط, أما ذات الطفل الغائبة أو الضامرة فهي تعنى في حالة وجودها - التلقائية والبساطة والمرح والإبداع والحركة.

أما الانفعالات فلم تتغير كثيرا مع تغير موضوعات الأسئلة, وهذا يرجع إما للمعرفة المسبقة بالأسئلة والإجابات كما ذكرنا, وإما لطبيعة شخصية لا تولى مسألة العواطف والوجدانات أي أهمية, أو ربما لطريقة تربية لم تكن غنية بالمشاعر الطبيعية والتلقائية أو كانت مليئة بالمحاذير, فكل شيء محسوب وكل شيء مقنن وكل شيء مؤكد. وفقر الانفعالات يحرم الشخصية من الجاذبية الاجتماعية ويحرمها من الكاريزما الشعبية, فقد وجد أن الزعماء والقادة المحبوبين والنجوم في كل المجالات يميزهم درجة عالية من الذكاء الوجداني يجعلهم قريبين من قلوب البشر وقادرين على تفهم مشاعرهم والتجاوب معها ومع احتياجاتهم.

وقد ظل كثير من الناس يعتبرون أن المشاعر نقطة ضعف في الشخصية يجب التخلص والتبرؤ منها , ولكن كتاب "دانيال جولمان" عن ذكاء المشاعر غيّر هذه النظرة وأثبت أن المشاعر تجعل الشخصية أكثر ثراءً وتأثيرا وأكثر جاذبية وأكثر قربا من قلوب الناس وعقولهم وأكثر قدرة عل الاستجابة لاحتياجات الآخرين وأكثر تفهما لهم ومرونة معهم, ولهذا يصبح فخر أي إنسان بأنه لا ينفعل ولا يتأثر شيئا يستحق المراجعة فقد يراها عيبا جسيما وليس ميزة.

وكلمة "أنا" كانت تتكرر في الحديث بشكل ملفت للنظر وفى أطر توكيدية لا تحتمل النقاش أو الخلاف أو الاختلاف: "أنا قلت" "أنا أكدت"... "أنا كلامي واضح وضوح الشمس"... "أنا عندي مبدأ...." ..."أنا لا أنوى ولا أرغب".... "أنا بطبعي هادئ" ...."أنا رجل عملي" وحين يغادر أنا يستخدم كلمة "إحنا" وهو يقصد بها لجنة السياسات: "إحنا قلنا" ... " إحنا عملنا" ... "إحنا أدخلنا"... وبين "أنا" و"إحنا" تتقلص مساحة الآخر كثيرا ربما لدرجة الانعدام, حتى الآخرين في لجنة السياسات لا وجود لهم لديه إلا بقدر ما يؤدون من أدوار ووظائف, وقد اتضح ذلك حين اتهمته السيدة لميس (كده وكده يعنى) بأنه أتى بأصدقائه في لجنة السياسات, أنكر تماما وجود أي صداقات بينه وبينهم وذكر أن علاقته بهم لا تتعدى دورهم الوظيفي في اللجنة.

وتبدو أحادية الرؤية واضحة في أغلب الحوار سواء على مستوى الأسئلة أو الإجابات فالكلام في أغلبه يدور حول مسائل حزبية وإجرائية وتنظيمية مختزلة بعيدا عن الرؤية الثقافية والأبعاد الحضارية والطبقات التاريخية أو حتى الإنسانية, مع أن هذه الأبعاد الغائبة (في الحديث وفى الحياة السياسية الحالية) هي أهم ما يميز مصر ويعطيها مذاقها الخاص وموقعها وسط دول العالم (فمصر كنز ثقافي حضاري), فإذا فقدتها أصبحت دولة صغيرة جغرافيا ضعيفة التأثير سياسيا (خاصة في الوقت الحالي) مهتزة اقتصاديا. وحين سألته السيدة لميس سؤالا جميلا عن: "بماذا يحلم السيد جمال مبارك" كانت فرصة ذهبية للدخول في مستويات إنسانية وحضارية متعددة وعميقة, ولكن الإجابة كانت مخيبة للآمال حيث رد بسرعة وتوكيد (مع ابتسامة بلاستيكية غير مؤكدة وغير مكتملة ومخنوقة دائما): "هو إحنا قاضيين نحلم",........ !!!!!!!

وبما أنني على المستوى المهني والمستوى الشخصي أعلى من قيمة الحلم وأعرف وظيفته المقدسة والمحفزة والمثرية لذلك انزعجت كثيرا من انهماك السيد جمال في تفاصيل المسائل الحزبية والإجرائية أحادية البعد, وافتقاده للحلم على المستوى الشخصي وعلى المستوى الوطني وعلى المستوى القومي وعلى المستوى الأمم وعلى المستوى الإنساني الأوسع, وأحسست أنني أمام مدير عموم القطر المصري ولست أمام زعيما مرتقبا لمصر المحروسة ذات الطبقات المتعددة في ثقافتها وأديانها وتاريخها.

وعندما اتصلت الطفلة ياسمين وذكرت أن عمرها عشر سنوات وسألته في براءة (أشك في أصالتها):"أنت كانت هوايتك إيه يا عمو جمال وأنت صغير", كانت هذه فرصة (معدة سلفا) أعطاها إياه المعد أو المخرج لكي يبرز من خلالها الجوانب الإنسانية التلقائية لديه من خلال التفاعل مع طفلة تناديه "يا عمو جمال" ربما لأنهما (المعد أو المخرج) اكتشفا جفاف اللقاء وخلوه من الجوانب الإنسانية والوجدانية, ولكن السيد جمال لم يستفد من هذه الفرصة ولم يستقبل الطفلة ياسمين بأي ترحاب متوقع (أو حتى مصطنع) أو أي مشاعر طبيعية تظهر في مثل هذه المواقف, وإنما بادر بالرد في جدية بالغة بأنه كان يمارس الرياضة فيلعب الكرة والإسكواش, وانتقل من موضوع لآخر في حين تجمدت ياسمين على الجانب الآخر نتيجة للتجاهل أو الإهمال.

ويلاحظ مساحة غير قليلة من التشابه في التعبيرات اللفظية وغير اللفظية بين السيد جمال مبارك وبين والده السيد الرئيس حسنى مبارك, وهذا يعنى حالة من التوحد (أو التقمص أو التماهي) مع الوالد وقد يكون هذا مدفوعا بالإعجاب وأحيانا أخرى مدفوعا بالخوف والرهبة وربما بالاثنين معا, والاحتمال الأخير هو الأرجح حيث سألته السيدة لميس سؤالا مباشرا عن إمكانية حدوث اختلاف بينه وبين والده, عندها زم شفتيه وبدت عليه علامات القلق, رغم أن هذا السؤال معد سلفا كسابقيه إلا أن السيد جمال لم يستطع هنا إخفاء المشاعر المتعددة تجاه الوالد (على المستوى غير اللفظي) مع إجابته الدبلوماسية بوجود ذلك الاختلاف وضرب لذلك مثلا بسفره للعمل في لندن.

وحين سألته السؤال "القنبلة": هل تنوى أن تكون رئيسا لمصر؟... رد بتأكيد: "لا أنوى ولا أرغب"... وحين عاودت السؤال نظر إليها نظرة سلطوية محذرة: "أعتقد كان كلامي واضح وضوح الشمس". وهنا وقعت في حيرة شديدة ولكن لم يمض وقت طويل حتى دار بذهني فكرة أنه لابد وأن أصدق تأكيد السيد جمال خاصة وأنه أضاف إليه "ولا أرغب" فأصبح النفي مزدوجا "لا أنوي ولا أرغب" وهذا يعطيه قوة لغوية لا مراء فيها, وحاولت قراءة اللغة غير اللفظية المصاحبة لهذا التصريح فلم أجد ما يفيدني فقد توقف الإرسال في تلك اللحظات (ربما يكون ذلك عن تدريب سابق على أيد خبيرة أو إدراك للسيد جمال بأهمية التحكم في كل وسائل التعبير عند هذا التصريح المهم بالذات).

ولكنني تذكرت أن ما يدور حولي في كل يوم من رسائل غير لفظية تقول بأن السيد جمال مبارك قادم, وأن المسرح بكل جوانبه يعد لذلك (ما لم تحدث معجزة), وهنا رد من داخلي صوت حكمة مصرية استسلامية مستقرة عبر القرون (قرون الشعب المصري) والعصور تقول: "نعم هو لا ينوى ولا يرغب ولكننا نحن شعب مصر سوف نرجوه أن يتحمل هذه المسئولية التاريخية ويتكبد هذا العناء, وتحت ضغط الإرادة الشعبية أو حفاظا على الاستقرار والأمن القوميين ربما يقبل, ادعوا معي بإخلاص: يا رب يقبل", وهنا زال اللبس من داخلي وأصبح ما أسمعه وما أراه متسقا من خلال منظومة مصرية معروفة وواضحة عبر الزمان, وخاصة حين تذكرت كلام السيد الرئيس مبارك وهو يعلن منذ فترة رئاسته الأولى أنه "لا ينوى ولا يرغب" فإذا به تحت ضغط الرأي العام واحتياجات الشعب وضرورات الأمن القومي وعدم وجود بديل مناسب "ينوى ويرغب".

ومع هذا سألت نفسي: إذا كان السيد جمال "لا ينوى ولا يرغب", إذا فلم كل هذا التحفظ والإنكار والدفاعات, ولم هذا الكم الهائل من الدبلوماسية في الردود, أليس من الأجمل والأروع طالما أن الموضوع ليس فيه رئاسة ولا يحزنون أن نتكلم ببساطة وتلقائية ونجعل البساط أحمديا ونهتم بياسمين الطفلة البريئة ونداعبها بدلا من تركها على الخط تسمع كلاما لا تشعر به ولا تفهمه؟

اقرأ أيضاً:
أسباب فشل الحياة الزوجية / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / بين الإبداع والابتداع / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)/ أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / الحالة النفسية للطفل مجهول النسب / سيكولوجية الرجل / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / قراءة في شخصية زويل(2) / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / الزوج المسافر(4) / الشخبطة السياسية / فن اختيار شريك الحياة (5) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي) / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) /  ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / السادو- ماسوشية (sado-masochism) / سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق / النضج الوجداني / الحوار وقاية من العنف / اضطراب العناد الشارد / سيكولوجية التعذيب / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / الكــــــــــذب / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / شخصية الطاغية /  اضطراب البوال / البراجماتيزم... دين أمريكا الجديد / سعاد حسنى والجرح النرجسي / الصمت الزوجي / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / المرأة في القرآن والسنة / الطفل البَك‍اء / نوبات الهلع عند المرأه / الصحة النفسية للمرأة / المازوخية / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب /  فن المذاكرة / قلق الامتحانات. 



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/04/2006