إغلاق
 

Bookmark and Share

صحتنا النفسية في تفاعلها مع البيئة نظرة إلى الواقع ::

الكاتب: د.خليل فاضل
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/01/2004

تشكل البيئة في مجملها ذلك الجو المحيط الذي يترعرع فيه الطفل وينشأ: البيت، الأسرة، الجيران، الحي الأقارب، المدرسة، الشارع، المجتمع، الوطن.....ويكبر محيط تلك البيئة مع الإنسان في نموه وتطوره من الطفولة إلي المراهقة. ومنها إلي الشباب والكهولة ، ويتأثر فيما يتأثر به في عفة الألفاظ ونظافة اللسان (فمن يستخدمون السلالم والمصاعد في الصعود والنزول، ويعلو أصواتهم وسبابهم إلي الغرف المغلقة ومن يتعاركون في الشارع أو يصرخون في سياراتهم يؤذن المسامع ويخدشون الحياة،دون إحساس ودون إدراك بأن ما يفعلونه تلوث بيئي لفظي في منتهي القسوة . ناهيك عما يدور من حوارات يكون فيها الشتم نوعا من الاستمتاع دون اعتبار لصفته النابية. يمتزج بالضحك والمزاح علي المقاهي وكذلك في النوادي علي نواصي الشوارع. وأمام محلات التيك أواي يدخل في إطار هذا الصخب علي نحو مقنن غزو داخلي في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة يتأجج ذلك بانتشار الفضائيات وغزوها لخصوصياتنا فنجد مسوخا تؤذي البصر بأشكالها، تشخص مالا تدري أو تهزا بلسان العصفور كما لا تعرفه، وجوه تعكرت بالماكياج الثقيل وحوارات في برامج عشوائية ومسلسلات هزيلة أحيانا، تضعف النفس وتكسر صفاءها، كما تسمع أغنيات ثقيلة الدم. فجة المعني، تائهة لاهثة، فنري من تتلوي وتتأوه وتتعري.

ومن خلال كل ذلك قد نري الولد الصغير وهو يحب رؤية خاله (علي سبيل المثال لا الحصر) وتقليده، أو محاكاة أبيه بالتلفظ بالأسوأ ليثبت أنه رجل فنجده يشب متعلما اللغة حديثا وطوله لم يتعدَّ الشبرين ، طويل اللسان بذيئا يؤذي من حوله، وهم بدورهم يؤنبونه ويعنفونه، غير مدركين لأنهم قد شكلوا نواة وعيه وخلقوا له بيئة ملوثة اللفظ والحركة والمعني فنشأ كما يرونه ، وأنه ابنهم وليس لغيرهم، وقد أصبح لحوحا عنيدا ومخجلا.

لنا هنا أن نتوقف وأن نربي أنفسنا قدر إمكاننا، أن نضبط انفعالنا ما استطعنا ذلك سبيلا، علينا كآباء ومربين ومعلمين أن نستبدل ذلك العنف اللفظي وتلك البذاءة اللغوية بتلك القدرة البسيطة علي التواصل وتوصيل المعني والمشاعر في تلقائية وعفوية تضفي علي المكان والزمان والإنسان جوا صحيا رائعا، لابد أن تسوده روح الدعابة والمرح، جو يبتعد ما أمكنه ذلك عن النكد والنواح، عن الطلبات المتتالية والمتزايدة وغير الواقعية أحيانا، أن يبتعد عن اللوم والتأنيب، والتقريظ والقسوة النفسية التي كثيرا ما تفوق في أثرها الضرب المبرح. إن كثيرا من المعاودين للعيادة النفسية في كبرهم يتذكرون في ألم مصادرة الأب لضحكاتهم تحت دعوى (أنها قلة أدب) ومصادرة الأم لأوقات لهوهم (بدعوى ضرورة المذاكرة طول الوقت)، ومصادرة حرية الخطأ واعتبارهم مذنبين للأبد، مما يولد شعورا دفينا بالقتامة وعدم القدرة علي إتيان الفرحة والبهجة.

إن البيئة النفسية الصحيحة تتطلب الطمأنينة والاطمئنان، الاهتمام الكافي، والبعد عن تهميش الزوجة، أو تشيييء الطفل، بل الدخول إلي عالمه والتفاعل معه، علي الأسرة هنا أن تتوحد وتتمازج، وأن تهمل سلوكا شائكا وتعزز سلوكا حميدا، ترشد وتهدي وتهتدي تندمج مع الناس في حدود خصوصيتها، فكثير من الاضطرابات التي تصيب الصغار والكبار علي حد السواء تتكون من جراء العزل والرفض والنبذ والخوف من الآخر أيا كان، لنا أن نشرك أولادنا في حواراتنا وعيننا عليهم لنا أن نتأمل إرهاقهم علي الانترنت وعبس فوضي رسائل الموبايل. ، وتوحش الألعاب الإليكترونية (الفيديو جيم) لنا أن نزرع الوعي في أعماقهم دون وصاية أو دعاية أو إرهاب، نفتح مسامهم وننسحب بإيجابياتنا إلي تحت جلدهم ليروا حقائق الحياة الجنسية السياسية والأخلاقية دون خوف لنا أن ندرك أن فلذات أكبادنا تلك التي تمشي علي الأرض تتعلم مع عراك الحياة، ومن الحركة والنشاط والوجود ، ليس لنا أن نفرض عليهم أحزاننا وظروفنا ، وضغوطنا لا مانع من مشاركتهم في أحوالنا وتعريفهم بظروفنا ، لكن يجب ألا ننزلق لخلق بيئة مفزعة مليئة بالصراخ والبكاء والانطواء والانغلاق، فلا نحملهم همومنا وتعبنا وخوفنا ، لنا أيضا ألا نفسد أولادنا بالتدليل الزائد أو الإفراط في الهدايا والطعام والشراب ، وألا يغمرنا البذخ دون سبب ألا نتطاول أمام أطفالنا بالضرب والسباب ، لا نتحدى بعضنا البعض ، لا نرشوهم بلعبة ولا نرتشي منهم بوعد استذكار ونجاح من أجل تمرير خطأ ،كما يجب ألا نستخدم أحد أفراد الأسرة جاسوسا علي الآخر ، لأن في ذلك خلقا لبيئة فاسدة مفسدة ، تعكر الجو وترهق النفس ، تتلوث البيئة النفسية بالخصام والهجر خاصة بين الآباء والأبناء ، وبين الأزواج والزوجات ، وأيضا يتلوث الوجدان باغتيال براءة الطفل والتنكيل به وإهماله عاطفيا وجسديا . توفر البيئة الصحية للفرد تنمية ذكائه وتطور شخصيته، فتبعده عن شبح التوتر والاكتئاب والرهاب الاجتماعي وتزرع فيه الثقة والأمل، الشجاعة والهدوء.

إن رؤية البحر ومشاهدة النيل، التريض في الهواء الطلق، الابتعاد عن الزحام والتكدس، تفادي المثيرات العامة والخاصة، كالضوضاء والإضاءة العشوائية، الاستمتاع وعدم القدرة علي تنظيم الوقت، كلها عوامل تؤدي إلي استعادة الحيوية و الحياة والقدرة علي الاستمتاع، علي النضارة والإشراق وحب الحياة والإبداع ما أمكن ذلك..

رغم كل قساوة الواقع المحيط بنا نستطيع أن نجعل الأكل هنيئا والجو غنيا، والظرف مواتيا، فيكون ملمس الوسادة أكثر راحة، فنتمكن قدر الإمكان من الاسترخاء الجسدي بإراحة العضلات في وضع متمدد ولو عشر دقائق ، بالاسترخاء الذهني يتخيل العقل (رغم أنف كل شيء) كسطح بحيرة ساكن لا يؤثر فيه حتى النسيم، وبإلقاء كل النفايات الحياتية في صندوق القمامة لتحمله عربات الحياة بعيدا عنا، أن نكون كالصياد الماهر ننظف شباكنا من الطحالب كل ليلة، لا ننام ونحن نحمل الهم حتى لو وجد ( نخليها علي الله دون اتكال مطلق )، أن نعبر الحواجز والموانع التي تمنعنا من الانطلاق وتحسسنا بالترهل والعجز، أن نستعيد القدرة علي الاستمتاع بأشياء بسيطة وجميلة (نصف أغنية قديمة، نسيم ساعة العصاري ، كوب شاي بالنعناع من يد حلوة ، نخلة باسقة ، لون مزدهر) نبحث ونقتش عن بعض أو كل تلك الأشياء فيما حولنا، حتى لو أرهقنا البحث، لأننا حتما سنجدها ، لأنها موجودة ، لا ندع الملل أو الكسل يصيبنا ، نبتسم للضيق دون زيف ،نضحك ملء قلوبنا إذا ما أتيحت لنا الفرصة وألا نخاف من الفرح فهي منظفة للبيئة ومحققة للسلام الداخلي و الطمأنينة والسكينة والاستقرار.

د. خليل فاضل
استشاري الطب النفسي
عن جريدة الأهرام 26/12/2003



الكاتب: د.خليل فاضل
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/01/2004