إغلاق
 

Bookmark and Share

المصريون والجن(1) ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 20/01/2007

لم أصدق أن الذي يجلس أمامي الآن في عيادتي هو هو نفس الشخص الذي سمعت عنه كثيرا وقرأت عنه أكثر فمعلوماتي أنه لا يغادر غرفته منذ عاد من العالم الخفي الذي قضى فيه عدة سنوات ضيفا على مملكة الجن كما ذكرت أمه ونقلت الصحف فهو متفرغ لعلاج المرضى وخاصة المرضى النفسيين، وكنا نعتبره نحن الأطباء منافسا قويا لنا بل كانت الأعداد التي تزوره أضعاف من يزوروننا، وكانت ثقة الناس فيه عالية حيث كان يختلف في نظرهم عن بقية المعالجين الشعبيين أو الروحانيين، فقد كان يكتب أدوية تصرف من الصيدليات أو أعشاب تصرف منن العطار، وكانت له فترات صمت ونظرات وتصرفات غير مفهومة ولكنها مؤثرة في من يزورونه، ومن المعروف أنه كان طالبا في السنة الثالثة بكلية الطب وتعثر فيها عدة سنوات ثم انعزل في غرفته عدة شهور وبعدها اختفى وذكرت أمه أنه دخل غرفته ولم يخرج منها، وبعد عدة سنوات وجدته جالسا في غرفته ولا تعرف من أين عاد وكيف دخل الغرفة وهي مغلقة طوال فترة غيابه، إلى أن أخبرها بعد ذلك أنه عاش تلك السنوات تحت الأرض وتعلم الطب هناك على أيدي أمهر الأطباء الجان، وبدأ من وقتها يمارس الطب من غرفته.

كنت شغوفا لمعرفة قصته ولكنه لم يكن قادرا على الحديث فقد كان كلامه مفككا وكان في حالة خوف شديد ممن يعتقد أنهم يتتبعونه من مملكة الجن بسبب طلاقه لزوجته منهم، وكانت أصواتهم القوية تدوي في أذنه وتحرمه النوم ليل نهار وانقطع عن الطعام بأوامر منهم حتى تدهورت صحته تدهورا شديدا وكاد يموت.

ودار الشريط أمام عيني مسرعا فتذكرت أنه في شهر واحد التقيت بالكثيرين من ضحايا الجن فهذه امرأة سافر زوجها منذ عشرين سنة ولا يحضر إلا شهر كل ثلاث سنوات، وربت أولادها وزوجتهم وأصبحت تعيش وحيدة، فلم يتركها الجن في حالها وأصبحوا يتسللون إلى غرفتها كل ليلة ليواقعوها وهي بين النوم واليقظة وتستيقظ مرعوبة مما يحدث. وذاك شاب عجز عن أداء مهمته في ليلة زفافه وكان هذا بسبب الجنية التي تزوجها منذ عدة سنوات وهو أعزب فقررت أن لا تتركه لأحد غيرها فأصابته بالعجز حتى يعود إليها. وتذكرت تلك الأوقات في بواكير حياتي حين كنت أتسلل إلى جلسات إخراج الجن لأرى ذلك الصراع بين الشيخ المعالج (وأحيانا القس المعالج) وبين الجني الكافر الذي يفتك بضحيته، وكاد يفتك بي أحد المعالجين حين شك في هويتي حين نسيت نفسي ورحت أسأل وأستفسر بطريقة فهم منها أنني من الفضوليين. وتذكرت أحد التائبين من هؤلاء المعالجين الروحانيين حين اعترف لي أن دخله في بعض الأيام كان يصل إلى ما يوازي خمسين ألف جنيه فتحسرت على سنوات عمري التي ضاعت.

حجم الظاهرة:
أصبح الجن يحتل مساحة كبيرة في وعي المصريين في السنوات الأخيرة (على الرغم من الفضائيات والإنترنت)، فقد ثبت من دراسات عديدة أن 70-80% من المرضى النفسيين في المجتمع المصري يترددون على المعالجين الشعبيين، وطبقاً لتقارير المركز القومي للبحوث (سبتمبر 2003) فإن في مصر مليون مواطن يعتقد أنه ممسوس بالجن وثلاثمائة وخمسون ألف شخص على الأقل يعملون في مجال العلاج بإخراج الجن.

ولم يعد يقتصر الأمر على المستويات الشعبية الدنيا وإنما امتد ليشمل مستويات تعليمية عالية تصل إلى مستوى أساتذة الجامعات والمثقفين، أي أنها ظاهرة عابرة لكل المستويات الاجتماعية والتعليمية بشكل ملفت للنظر ومثير للانتباه، لدرجة أن الشيخ الغزالي رحمه الله تساءل يوماً في غضب: لماذا تركبنا العفاريت نحن فقط ولا تركب الألمان وغيرهم من الأوروبيين والأمريكان.

وقد أجرى الباحث المصري د.محمد عبد العظيم في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة دراسة ميدانية عن ظواهر الشعوذة والدجل والمعالجة بالقرآن. وقد نشرت جريدة "الشرق الأوسط" أجزاءً منها في عدديها: العدد الأول: "29 نوفمبر 2004 العدد 9498" والعدد الثاني: "22 مايو 2005 العدد 9672".

فَتحْتَ عنوان: "الشعوذة تدخل سوق الاستثمارات العربية من أبواب الخواء العقلي والروحي" جاء في العدد الأول هذا التقرير:
"دخلت ممارسات الدجل والشعوذة سوق الاستثمارات العربية من أبواب سرية وشديدة الخطورة. فلم تعد هذه الممارسات مقصورة على الجهلة وأنصاف المتعلمين، بل انضم إلى خيوطها عناصر من نخبنا المثقفة، وذوي المراكز المرموقة المنوط بها صنع القرار في بلادنا. وتقول إحصائية حديثة إن الدول العربية تنفق أكثر من 5 مليارات دولار سنوياً على الدجل والشعوذة. كيف نوقف هذا النزف الأعمى، الذي يتستر تحت مظلة الخرافة، والخواء العقلي والروحي، وضغوط الحياة، وما هي أبعاده النفسية والاجتماعية.. "

" أشارت دراسة ميدانية حديثة قام بها د. محمد عبد العظيم بمركز البحوث الجنائية في القاهرة إلى أن ممارسي السحر يخلطون بين السحر والدين، ويزعمون أن لهم القدرة على علاج الأمراض... وأن هناك زهاء 300 ألف شخص في مصر يدعون علاج الأمراض بتحضير الأرواح وأن 250 ألفا أي ربع مليون دجال يمارسون أنشطة الشعوذة في عموم الدول العربية وأن العرب ينفقون زهاء 5 مليارات دولار سنوياً على السحر والشعوذة، وأن نصف نساء العرب يعتقدن بفعل الخرافات والخزعبلات ويترددن على المشعوذين سراً وعلانية ".

"وبينت الدراسة أن المصريين وحدهم ينفقون نحو عشرة مليارات جنيه سنوياً على الدجالين والمشعوذين والنصابين الذين يدعون كذباً قدرتهم على تسخير الجان وعلاج الأمراض والمشاكل الصحية والاجتماعية والاقتصادية. وأوضح الباحث المصري في دراسته أن استمرار اعتقاد الأسر بقدرة هؤلاء على حل كثير من المشاكل المستعصية خاصة الاجتماعية منها كالتأخر في الزواج، أو الصحية كعدم الإنجاب أو العقم أو فك السحر، ساهم في توفر 300 ألف شخص على الأقل يعملون في مجال الدجل والسحر في مصر".
 
"وتؤكد الدراسة ان حوالي 50 % من النساء المصريات يعتقدن بقدرة الدجالين على حل مشاكلهن، موضحة أنهن الأكثر إقبالا على هؤلاء وان الدجالين والسحرة يعمدون إلى ممارسة هذه الخرافات بهدف جني الأموال. كما أكدت دراسة أخرى أجراها كل من الباحثين المصريين رشدي منصور ونجيب اسكندر في المركز القومي للبحوث النفسية بالقاهرة أن 63 % من المصريين يؤمنون بالخرافات والخزعبلات ويمثل الفنانون والسياسيون والمثقفون والرياضيون منهم نسبة11%".

وبعد سبعة أشهر تقريباً نشرت "الشرق الأوسط" في العدد المشار إليه سابقاً التقرير التالي:
"دراسة: 10 مليارات جنيه ينفقها المصريون على أوهام الشعوذة"...... دجال لكل 240 مواطنا.
القاهرة: "الشرق الأوسط"

"أفادت دراسة جديدة بأن المصريين ينفقون 10 مليارات جنيه سنوياً على الدجالين. وقالت الدراسة التي أعدها الباحث محمد عبد العظيم بمركز البحوث الاجتماعية، إن هذه المبالغ تنفق على 300 ألف دجال في مصر، مؤكداً زيادة أعداد هؤلاء الدجالين مع تزايد الاعتقاد بالخرافات، ويأتي المتعلمون وأصحاب المستويات الثقافية الرفيعة في مقدمة المترددين على هؤلاء الدجالين، حتى إن المعدل أصبح دجالاً واحداً لكل 240 مواطنا، باعتبار عدد السكان في البلاد يبلغ 72 مليون نسمة".

"وأشارت الدراسة إلى أن 50% من نساء مصر يؤمنّ بالدجل وقدرة المشعوذين على حل المشكلات. كذلك يؤمن بالدجل المصريون من الرجال الباحثين عن التفوق الجنسي. وتتحكم نحو 275 خرافة في عقول المصريين، على رأسها مشكلات تأخر سن الزواج وعدم الإنجاب والمشكلات الجنسية المعقدة، إضافة إلى الأمراض المستعصية. وجاءت القاهرة في موقع الصدارة من حيث عدد الدجالين أو تركزهم حيث يصل عددهم إلى نحو 100 ألف".

"وتقول الدراسة إن 38 في المائة من مشاهير الفن والسياسة والرياضة والمثقفين هم من رواد السحرة والدجالين. وينساق العديد من هذه الفئات، كما أكدت الدكتورة عزة كريم، أستاذة الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية، لإحساسهم بنوع من الراحة النفسية، حيث يلجئون إلى هؤلاء الدجالين بعد فشلهم في العلاج. وقالت إن هذا العجز يشعر به الأغنياء والفقراء على حد سواء ويسهم في ذلك أيضاً ما وصفته الدراسة بـ«انغلاق المجتمع وتعدد مشاكله» (انتهى التقرير)

ويعمل عدد من المنتسبين إلى الدين (أو ذوي الهيئة الدينية) على ترسيخ ثقافة الجن والعفاريت لدى قطاعات واسعة من الناس، والدافع لديهم مزدوجا فمن ناحية يزداد خوف الناس ورعبهم فيلجئون إليهم كملاذ آمن وبالتالي يصبح لهم أتباعا ومريدين ولائذين وفارين، ومن ناحية أخرى تروج لديهم مهنة حماية البشر وإنقاذهم من خلال قراءة مقتطفات من النصوص المقدسة وشبه المقدسة عليهم مقابل مال أو شهرة أو جاه، ولهذا زادت جرعة الترهيب في الخطب والمحاضرات والندوات والأشرطة، وزادت أعداد الخائفين والمرعوبين فبدلا من أن يفر الناس إلى الله فروا إلى هؤلاء الناس يحتمون بهم من عذاب النار الذي ينتظرهم مؤكدا ومن تربصات الجن المحيطة بهم.
 
وقفز إلى ذاكرتي نص توراتي كنت أعتبره متحيزا ضد مصر كعادة التوراة التي تعتبر بعض نصوصها منشورا سياسيا ضد مصر حيث تصفها ب "بيت العبودية" وربما يعود ذلك إلى ما عاناه شعب إسرائيل من اضطهاد أيام الفراعنة. وقد ورد في التوراة أن إفناء مصر لن يكون جراء هجمات خارجية، وإنما عن طريق الفتن والقلاقل التي يقوم بها الرب (؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!)، حيث جاء في سفر التكوين: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه، مدينة ومدينة، ومملكة مملكة، وتراق روح مصر داخلها، وتضيع مشورتها فيسأل كل واحد العرّافين والتوابع والجن، وأغلق على المصريين في يد حاكم قاس فيتسلط عليهم"(!!!!!!).

وتروي الأساطير أن للمصريين القدماء تاريخ قديم مع الشيطان والذي كان يرمز له بإله الشر "ست" ، وقد كانوا من فرط خوفهم منه يقدمون له القرابين ويتملقونه لدرجة أنهم مكنوه في وقت من الأوقات من التغلب على إله الخير وقتله.

                                                                    
 للحديث بقية.........
واقرأ أيضًا:
المس واللبس والسحر في العيادة النفسية / التفكير العلمي في مقابل التفكير الخرافي والأسطوري / هل الجن موجود؟ هل السحر؟ / السحر وكيفية كشفه؟ / السحر والشياطين وقول الأطباء النفسيين  / السحر والحسد والشياطين، وأمة المساكين / السحر والابتلاء والإيمان: وقائع عجز أمة / سحر!!!!...... يا رجل! اتق الله...!! / سحر!!!!...... يا رجل! اتق الله...!! مشاركة / خلطة القلق والاكتئاب ومسرح الجن! / الجن الأحمر والزار: التفارق والغيبة والتملك / الممسوس والملبوس: نحن والجن والأمراض / حقيقة الجن والرقى الشرعية / الجن المخفي التفارق وادعاء العلم بالغيب  / الجن المخفي وادعاء العلم بالغيب: مشاركة  / خطيبتي والجن !! : التفكير الخرافي / المصريون والعفاريت(1)  / المصريون والعفاريت(2) / المصريون والعفاريت(3) / العفاريت بريئة من دماء بني مزار  / نحو مجتمع يدعم المعرفة في زمن الضغوط



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 20/01/2007