إغلاق
 

Bookmark and Share

أمة تمشي على أربع! ::

الكاتب: د.محمد المخزنجي
نشرت على الموقع بتاريخ: 26/06/2006

تم اكتشاف خمسة إخوة، أعمارهم بين التاسعة عشرة والخامسة والثلاثين، يمشون على أربع! الظاهرة مدهشة، وجعلتني مشاهدة صورهم في الصحافة، والتليفزيون، أشعر بالغرابة والرهبة. لكنني بينما كنت أتابع الضجة الإعلامية العالمية، العلمية، وغير العلمية عنهم، رحت أفقد دهشتي شيئا فشيئا أمام اكتشاف مروع هو أننا -هنا في مصر- أكثر عراقة في المشي على أربع، بل نقترب الآن من الوصول إلى قمة المشي الجماعي على أربع.

ولنبدأ الحكاية من أولها........

قالت مجلة "ديسكفر" العلمية الشهرية في عددها الأخير، إن "الباي بيد اليزم" (أي المشي على قدمين) هو إحدى الخاصيات التي تميز البشر عن غيرهم من رتبة الرئيسيات في المملكة الحيوانية، لكن في بعض أفراد عائلة كردية من الريف التركي حدث أن سقطت بغرابة هذه الخاصية. وصار خمسة أفراد متخلفين عقليا من أبناء هذه الأسرة تتراوح أعمارهم بين التاسعة عشرة والخمسة والثلاثين يمشون حصريا على أربع.

وقام الدكتور "أونور تان" باحث فيزيولوجيا الأعصاب بجامعة "كوكروفا" بتوثيق حالة "الكوادروبيداليزم" (أو المشي على أربع) التي يتحركون بها، واللغة البدائية التي يتكلمون بها، ودرجة ذكائهم المحدودة، وكان الأغرب من ظاهرة هذه العائلة تأويل الدكتور "تان" لها والذي عبر عنه بالقول إن هناك عملية تطور معكوسة (دو- إفولفد) حدثت عند نمو أجنة هؤلاء الخمسة وتركتهم في حالة من حالات الإنسان البدائي.

بعد ذالك قام الدكتور "تان" بدعوة الدكتور "نيكولاس هامفري" من كلية علم النفس والاقتصاد! بجامعة لندن للقيام بدراسة هذه الظاهرة. ورأى هامفري في خمسة الماشين على أكفهم وأقدامهم دليلا على أن الإنسان الأول كان يمشي على أربع أيضا، وأن أجدادنا الأوائل تعلموا أن يشبوا مثل القردة العليا في الأزمنة الحديثة.

لقد وضح مما رشح من رؤية العالم التركي وضيفه الإنجليزي أن كليهما لا يعرفان الكثير عن تطور الجنس البشري مما حدا بالأنثروبيولوجي "جون هاوكس" من جامعة "وسكونسين" بماديسون أن يصرح قائلا بامتعاض:"إن العلم تمت إزاحته لصالح السيرك الإعلامي"وعلى الفور ضممت امتعاضي العلمي لامتعاض الدكتور"هاوكس" فالأمر ببساطة، وكما أكد متخصصون في علوم الوراثة والطب، أن الظاهرة راجعة لعيب وراثي في الكروموسوم رقم17يرجع أن سببه عائد لكون الوالدين ابني عمومة.

وفي رأي أن زواج الأقارب ليس سببا وحيدا، بل إن بؤس الأبوين الفقيرين معتلي الصحة، والجهل الذي أهمل تدريب الأولاد في سن مبكرة، كل هذا صنع هذه الظاهرة المخيفة في واحدة من أبأس بقاع تركيا الجميلة! وما كادت دهشتي للظاهرة الكردية التركية تخفت، حتى وجدتني أشتعل اندهاشا بالظاهرة المصرية الأعرف، والأكثر تواصلا، والأوسع انتشارا في المشي على أربع.

وراحت تجتاحني الصور.. في عنبر بسجن القناطر، وسجن المنصورة، وحوش معتقل طرة، وشاهدت المنظر يتقرر: فوج من سجناء القضايا البائسة مثل التسول وسرقة البيض والدجاج وبعض الفاكهة أو الطماطم، بعد أن نودي عليهم للإفراج بعفو رئاسي في أحد الأعياد، أو للترحيل إلى سجن آخر، وتحت وابل الضربات بهراوات وأحزمة عساكر السجن، وركلات أحذية بعض الضباط، يتهاوى السجناء البؤساء ويقرفصون في صفوف متعاقبة بانتظام، ويتحركون كلما صدرت إليهم الأوامر، مشيا على أربع!

وفي المنصة يوم وقف أنور السادات ليتلقى الرصاصات القاتلة في عنقه وهو يردد "ارجع يا ولد، ارجع يا ولد" ثم يهذي محتضرا "مش معقول.مش معقول" حدث الانكفاء العظيم، ولم نرى مرتفعا في المنصة غير صفوف المؤخرات، لأن المنكفئين كانوا يرتكزون على أربع!

أما يوم زلزال القاهرة العظيم عام92، فقد لاحظت بعد ثواني الرعب أنني كنت أجري والناس جميعا، منحنين، نوشك أن نجري على أربع، فقد كان اللاوعي الجماعي يفر بنا بعيدا عن هاجس العمائر الفاسدة المنهارة. تتسارع صور خاطفة، من المدارس ومراكز التأهيل والتكدير، لتلاميذ وجنود معاقبين بالمشي لربع ساعة أو ساعات "مشية البطة" ولعلها "مشية الوزة" وهي نوع يقارب المشي على أربع.

وأخيرا تأتي أحداث الصور، في أسبوع السحل للمتظاهرين سلميا تأييدا لوقفة القضاة الحضارية التاريخية العظيمة، وفي الصور يظهر بعض الضباط في ملابسهم الرسمية، وحولهم فرق البلطجة شبه الرسمية، تتلقى التوجيهات لسحل الناس، وإجبارهم بالهروات واللكمات والركلات على القرفصة، توقيفا على أربع!

لكن الاكتشاف الذي أدهشني تماما، ولا يزال، هو أن هؤلاء الضباط شرعوا بطريقة خفيفة، يمشون على أربع أيضا، وإنني موقن من ذالك، ودليلي هو المشابهة بين حس الطبيب النفسي حيال مريض فصامي ينهار أمامه في ذالك الوضع المؤلم الذي نسميه "الوضع الجنيني" حيث يجتبي وكأنه يعود إلى رحم أمه، يبحث عن الحمى والأمان الضائعين، عيناه المتسعتان تصرخان بأعمق تعبيرات الرعب، بينما يمعن في لم جسده على نفسه بقسوة، وكأنه يتوخى أن ينضغط وينضغط حتى يصير فعليا في حجم الجنين.

إنها لحظة يواجهها الطبيب النفسي بأعمق مشاعر الألم، وبشيء من الحيرة والاستغراب المشوب بالرهبة، الرهبة من هذا التجسيد المروع لتدهور النوع البشري في مواجهة الخوف، حتى وإن كان الخوف وهما داخليا.

ألا يحس ضابط الشرطة بشيء من الاستغراب وبعض الرهبة عندما يكره البشر على هذا التداعي؟ لست مثاليا لأفترض التطابق بين من يواجه انهيار الإنسان بتعاطف ورحمة ليعينه على النهوض، ومن يصنع انهيار الإنسان ويكرهه على القرفصة والحبو على أربع أو الزحف سحلا. لكنني أعرف أن ما يمكننا مقاومته على مستوى الوعي بالذرائع والتبريرات وتلقي العطايا، لا يمكن أن نقاومه على مستوى اللاشعور الذي يعمل حتى والناس نيام.

هناك مقولة متواترة عن التماهي النفسي للضحية مع الجلاد، ومسماها الأشهر هو "ظاهرة استوكهولم"، التي تجلت على بعض الرهائن المختطفين في عملية إرهابية بهذه العاصمة الأوروبية، فبعد تحريرهم ظهروا متوحدين تماما مع مشاعر وذرائع خاطفيهم!

الشيء نفسه يمكن أن يحدث بطريقة عكسية، وهي تماهي الجلاد مع ضحاياه، بمعنى أن انهيار الضحية وانكفاءه الجسدي على أربع، يمكن أن يوازيه انهيار في نفس الجلاد، على أربع أيضا، فالرهبة من مسخ البشر وجعلهم يمشون على أربع، والتي لا تعبر عن نفسها على مستوى الوعي، لابد أن تعربد على مستوى اللاوعي، تظهر عاجلا في كوابيس النوم، أو آجلا في أفعال قهرية بديلة، وأنواء متأخرة من أمراض النفس وأسقام الجسد التي تحير الطب والأطباء.

إن رهبة تشويه الطبيعة البشرية تلتقطها نفوس من يقترفونها، وتسجلها عليهم، وستطالبهم طال الزمن أو قصر بتسديد الحساب، وهو حساب عسير عسير، ولقد وصف لي زميل صديق لحظة مدهشة التقي فيها -كطبيب- بحطام رجل لم ير مثله حطاما، فكان مثل فأر أبرص، شبه مسلوخ، يخرج من ظلمة مزمنة، يعشيه أقل ضوء وتدميه أوهى لمسة، ولم يكن هذا الشبح الحطام غير اللواء "ح.ب" أشهر جلادي معتقلات عبد الناصر.

يا لحبي المجروح لعبد الناصر!
لقد وجه النبيل المستشار هشام البسطويسي رجاء عشية وقفة القضاة الشامخة، وفي برنامج تليفزيوني جرى بثة ليلة إصابة القلب النبيل بذبحة التألم للآخرين، رجا فيه قوات الأمن أن تترفق بالناس، فهم ليسوا مجرمين ولا معتدين، بل وطنيين شرفاء يعبرون عن موقفهم بطرق سلمية وحضارية، وإنني لأكرر هذا الرجاء لضباط الشرطة وقوى الأمن:

ترفقوا بالناس نعم، لكن ترفقوا بأنفسكم أولا، فهذه الممارسات ستعاقبكم عليها نفوسكم ٍالتي لا يمكنكم إقعادها أو إقامتها بأوامر من فوق فوق، أو من تحت تحت، أو من أي اتجاه. ترفقوا بأنفسكم، وبلهفة قلوب أبنائكم وبناتكم وزوجاتكم وأمهاتكم وآبائكم عليكم، والله إنه نداء صادق، فأنتم في يقيني ضحايا، من أكبركم حتى أصغركم، والمقابل زهيد وزهيد جدا، إذا قيس بما يناله المستفيدون من تشويهكم لكرامة خلق الله وتشويهكم لخفايا أنفسكم، ثم إن الرهان على دوام هذا الحال باطل، باطل لا بفعل ثورة الناس التي أشك في قربها لفرط ما هم مسحوقون ومنهوكون لحد العمى والخرس.. رهان باطل بفعل الزمن القريب الذي لا يرحم أنانيا عجوزا ونفايات من المنافقين والمفسدين والفاسدين من حوله.

لا تودوا بأنفسكم إلى تهلكة نفوسكم.
والله إنه رجاء صادق، فالأمة محتاجة إليكم أسوياء، لأن مهمتكم في سويتها نبيلة لأنها إن حسنت كانت جزءا من الفطرة التي فطر الله الحياة عليها، ففطرة الخلق جعلت من كل أمة شرطة تحرسها، وإنني لأتذكر أن الكاتب المسرحي الفذ "دورنيمات" صاحب المسرحية الخالدة "زيارة السيدة العجوز" أعلن مرة عن تفرغه شهرا أو شهورا لكتابة مقال يحتفي فيه بالشرطة، ولما بدا الاستغراب لدى البعض، أوضح دورنيمات أنه يكتب عن الشرطة في صور عديدة من الحياة. لم أطلع على مقال دورنيمات.

لكنني أعرف أن للشرطة دورا حيويا في الطبيعة ولدى كل المخلوقات، فقد رأيت بين قطعان الغزلان التي ترعى في البراري الإفريقية كما في محمية صير بني ياس الظبيانية أفراد من القطيع تظل رافعة رءوسها بينما بقية القطيع خافضة الرءوس تأكل العشب. والنموس الإفريقية تكلف أفراد من بينها لتشب منتصبة على قدمين فوق تلة مرتفعة لتراقب الأرض والأفق وهى تحمى النموس الصغيرة والإناث. الوضع نفسه, وضع الحيوان المنتصب على قدميه يراقب ويحرس ويزود، يقوم به قاضم أمريكي يسمى "جرو المروج"، أما أسماك "الزبيدي" البيضاء الفضية الرقيقة فثمة أسماك تشبهها تماما لكنها داكنة تظل تحف بأسرابها وهي تعبر المحيط الهندي الملئ بوحوش الماء وكواسره، كأنها قوات أمن مركزي في ثيابها السوداء وإن كانت لا تنكل بمن ينبغي عليها حراستهم.

الشرطة السوية فطرة، والأمن النبيل ضرورة.

وإننا في حاجة لمصالحة وطنية عميقة، وبعيدة النظر، وشاملة لكل مقومات الأمة ترى إلى أبعد من ثلاث أو أربع أو خمس سنوات قادمة، مصالحة تراهن على الخير مهما بدت صور الشر كثيفة. مصالحة تليق بشرف الإنسان وذكائه عندما خلقه الله يمشي منتصبا على قدميه, فيرى أعلى وأبعد، وهذه الرؤية هي ميزة الإنسان العظمى على كل المخلوقات المنكفئة على أربع، والتي لا ترى في مجالها الخفيض إلا نصل صياد، أو هبرة من لحم فريسة.
 



الكاتب: د.محمد المخزنجي
نشرت على الموقع بتاريخ: 26/06/2006