إغلاق
 

Bookmark and Share

إحياء طوائف الحرف.. واجب بلا صاحب ::

الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/07/2006

كان ولا زال تاريخ وواقع بناء الدولة الحديثة في بلداننا هو سلسلة متعاقبة من عمليات هدم البنى الاجتماعية وتفكيكها أو على الأقل إلحاقها، منذ بدأ بناء تلك الدولة في منطقتنا العربية على يد محمد علي باشا منذ ما يربو على قرنين من الزمان، ومع تصاعد مطالب الإصلاح في العالم العربي بعدما باتت الأرضة تأكل منشأة بلادنا حتى شارفت على الانهيار، كان لابد لنا من التذكير بضرورة إعادة ما انهدم من بنى المجتمع، ولعل من أقدم تلك البنى والتي ربما تغيب عن أذهان الداعين للإصلاح الآن هي ما سمي في تاريخنا باسم "طوائف الحرف"، والتي نطالب هاهنا بإعادة إحيائها، فما هي تلك الطوائف، وماذا كان دورها المجتمعي، ولماذا نطالب بإحيائها وكيف يمكن ذلك؟ كل تلك الأسئلة نحاول الإجابة عليها في هذا المقال.

طوائف الحرف.. بناء ذو وظيفة
الطائفة الحرفية هي بناء اجتماعي واقتصادي أهلي أشبه بالتنظيمات النقابية الحالية، كانت تضم بين عضويتها كل العاملين في حرفة من الحرف بمستوياتهم المختلفة، وهو شكل اجتماعي "مديني" في الأغلب عرفته مدن وبلدان العالم المتحضر جميعها منذ القرون الوسطى، وبينما استمر هناك فيما يعرف بالـ Guilds فإنه اندثر عندنا منذ بدايات القرن العشرين، وإن كانت عوامل الضعف قد بدأت تهد في كيانه منذ أن بدأ محمد علي ينفذ سياسة الاحتكار في إطار سعيه لضمان موارد مالية لبناء دولته وجيشه، وقد بلغت تلك الطوائف 272طائفة قبل تولي محمد علي الحكم وتحديدا في عام 1801.

وقد اضطلعت تلك الطوائف إبان عزها بعدد من الوظائف التي يمكننا أن نبلورها في الآتي:

- أن الطائفة هي عبارة عن "جبهة" تحقق التساند والضغط الداخلي في إطار أصحاب كل مهنة ومن ثم فهي تمثل نوعا من الحماية لهم وفيما بينهم والحماية منهم أيضا حيث كان أرباب كل حرفة يسكنون في الغالب في حي معين ويمارسون حرفتهم ويسوقون منتجاتهم فيه، وهم مسئولون عن ضبط الأمن فيه وحمايته من خلال ما يسمى بـ"شيخ الحارة"، حيث كان لتلك الطوائف عادات وتقاليد كانت تستمد في الغالب من الشريعة ومن تقاليد التربية الروحية والأخلاقية المرعية في الطرق الصوفية.

- أن الطائفة كانت تنظم علاقات أصحاب كل مهنة بالمجتمع والحكومة من حولهم من خلال:
تنظيم أعداد ممتهني كل حرفة من الحرف
وضمان جودة المنتج أو الخدمة التي تقدم
تنظيم تسعير المنتج أو الخدمة المقدمة
القيام بالتفاوض مع الحكومة لتحديد وتنظيم جمع الضرائب المقررة

الطوائف وتنظيم التدرج الحرفي
لعله من أهم وظائف نظام "طوائف الحرف" أنه كان ينظم ممارسة الحرفة والترقي فيها بضبطه لمراحل تدرج الحرفيين بداية من الصبي وصولا إلى الشيخ بما يحققه ذلك من مستوى جودة في إعداد الكادر البشري المهني:

الصبي: وهو يعيش عند المعلم وعليه واجب الطاعة والاحترام وعلى المعلم أن يعلمه أصول حرفته ودقائقها والمدة التي يمكثها الصبي حوالي سبع سنوات على حسب استعداده الفطري، ولكل معلم عدد محدد من الصبيان لا يتجاوزه، ولم يكن للصبي ترك معلمه إلا بعد الحصول على موافقة شيخ الطائفة ليشرح له الأسباب فإذا كان السبب خلافا أو مشاجرة تدخل الشيخ للإصلاح، وكان لزاما على المعلمين معاملة الصبيان بالرفق مع لزوم الحزم، وقد أوجدت معايير تحمي الصبي من قسوة المعلم البدنية أو المادية، وكان على المعلم أن يشارك عماله وصبيته مناسباتهم الاجتماعية، وكان قبول الصبي في الطائفة يتم وفق ما يسمى بحفل الالتحام ويبدأ عادة بفاتحة الكتاب.

العرًيف: بعد انقضاء فترة التدريب يقام للصبي حفل "العهد" وفيه يلقي الأسطى بأسئلة يجيب عليها الصبي، ثم يلقي عليه بعض النصائح، ثم يتلو عليه القسم وينتهي الحفل بتلاوة آي الذكر الحكيم والصلاة على النبي، والعرًيف عامل أجير يعيش عند المعلم في الغالب ويتكفل الأخير بإيوائه وإطعامه ولا يستخدم المعلم أكثر من عرًيف أو اثنين، وتتراوح مدة عمل العرًيف ما بين 3-5 سنوات لا يجوز له ترك معلمه أثناءها وإن فعل لا يجد معلما آخر يقبله ولا يجوز للمعلم طرده من العمل خلالها.

المعلًم أو الأسطى: عندما يصبح العريف ماهرا في صنعته ملما بأسرار مهنته وحرفته يقام له ما يسمى بحفل "الشد" الذي يحزم فيه بحزام الطائفة على يد النقيب بحضور الشيخ، وفي هذا الحفل يقوم المعلم بتقريظ تلميذه أمام شيخ الطائفة مبينا مدى مهارته في إتقان الصنعة، ويقوم العريف بمناشدة الحشد (من أهل الطائفة) أن يطلبوا من الشيخ قبوله عضوا بالطائفة، فإن قبل الجميع يعقد في حزامه أربع عقد، وإن اعترض أحد قام بمصالحته، ثم ينصح الحاضرين المشدود أن يكون عفيفا خيرا وألا يقدم على فعل يغضب الله وأن يتمسك بالشريعة.

ولابد للمعلم أن يكون ملما بدقائق الحرفة وأن يصل إلى مرتبة الأستاذية في صنعته، وكان المعلمون يشكلون القسم الرئيسي من الطائفة، ولكي يحصل الحرفي على ترخيص بمزاولة الحرفة يقام له حفل "الإذن"

المراتب العليا في الحرفة: يترقى المعلم في مراتب الطائفة عن طريق حفلات شد وعهد خاصة وتتدرج المراتب العليا في الطائفة من مرتبة البيشروريش ثم مرتبة النقيب الثاني أو الوسطاني، ثم مرحلة النقيب الكبير، وأخيرا مرتبة الشيخ، وبينما يختص الشيخ بالوظائف المالية والإدارية وهي همزة الوصل بين الطائفة والحكومة، كانت الاختصاصات المهنية من قبيل الاحتفالات والنواحي الاجتماعية والفكرية في يد النقيب، وكان لكل شيخ حرفة عدد من المعاونين ما بين 3-4 ويسمى الواحد منهم نقيب أي رئيس وكان النقيب رئيس تنفيذ لأوامر الشيخ.

عوامل انهيار وضعف الطوائف
كانت عوامل الضعف قد ألمت بعض الشيء بالطوائف أيام الحكم المملوكي نتيجة للفوضى التي تسببوا فيها في نهاية حكمهم، ونتيجة تدخل العسكرتاريا في نظام الطوائف، إلا أن الإضعاف المنهجي للطوائف بدأ مع تنفيذ محمد علي لسياسة الاحتكار والتي اقتضت أن يحتكر المنتجات بالسعر الذي يحدده لضمان الموارد المالية للدولة، ثم ازداد مع بدء نشاطه الصناعي وإجباره للصناع على الالتحاق بها واضطرار الكثيرون للهروب نتيجة لما صاحب تنفيذ تلك السياسات من قسوة أحيانا، وهدمه أساس التوطن في مكان واحد حيث كان ينقل سكناهم حيثما يحتاج إليهم، وتدخله القانوني في تنظيم شئون الحرف ومن ثم هدم أساس العادات والتقاليد المرعية والمتوارثة بينهم.

لكن أهم عوامل انهيار الطوائف جاء مع دخول رأس المال الأجنبي إلى مصر من خلال استثماراته ومنتجاته والضغط على السلطات لمزيد من التدخلات المالية والإدارية من خلال اللوائح والتشريعات ومن أهمها دكريتو 9 يناير عام 1890 والمعروف باسم "البانتانا" والذي ألغى التزام التمرن باسم حرية ممارسة الحرف، ومن ثم فكك بنية الطوائف التي لم تعد سوى جماعات اختيارية، الأمر الذي آل في النهاية إلى اختفائها بنهاية الحرب العالمية الأولى، وهو ما رآه أحد المؤرخين مجرد إشارة إلى انتهاء عصر الصناعات المحلية لتحل محلها الصناعات الأوروبية.

إحياء طوائف الحرف.. مطلب بلا صاحب
على الرغم من طول تاريخ طوائف الحرف في بلادنا إلا أن أحدا لم يأبه للمطالبة بإحيائها، بل إن الاتجاهات الفكرية التي كان من المفترض أن تتبنى تلك المطالبة لم تفعل، فالحركة الشيوعية نشأت للمطالبة بحقوق العمال والفلاحين وحسب، وكأن العمال في تعريفها هم فقط من تضمهم المؤسسات الصناعية الحديثة، ومن ثم نشأت الحركة في أوساط العمال الروس في الإسكندرية بقيادة روزنتال عام 1897.

أما الحزب الوطني القديم فرغم اهتمامه بتعليم الحرفيين في مدارس الشعب الليلية واهتمامه بتنظيم المهمشين من فئات الشعب من خلال تأسيس حركة التعاونيات عام 1905 إلا أنه أيضا اهتم بتأسيس أول نقابة عمالية مصرية تحت قيادة الحزب الوطني القديم في عام 1908 ولم يفكر في العمل على إحياء طوائف الحرف على أسس جديدة، ولم نسمع إلا "فنان الشعب" سيد درويش يغني لهم بعضا من أغنياته التي كانت تعبر عنهم وعما أصابهم من دخول الشركات الأجنبية الكبرى مجالات أعمالهم.

وهكذا مضى التاريخ وبعدت الذكرى وضعفت الذاكرة، حتى هجمت علينا سياسات التكيف الهيكلي ورأينا اتساع فئات الشعب المهمشة من الأرزقية أرباب الحرف الصغيرة وعمال التراحيل الجدد وتجار الشوارع وهم يمثلون قطاعات عريضة من الشعب ليس لها أي غطاء اجتماعي أو صحي أو اقتصادي يتعرضون لاستغلال سلطات البلديات ومراقبي الصحة وشرطة المرافق وكبار الصناع والتجار وهلم جرا.

وتفاقمت مشكلات تلك الفئات مع تفاقم ظاهرة العشوائيات في بلادنا، وصارت تلك الفئات بلا عادات ولا تقاليد ولا حتى لوائح ولا نظم تنظم عملهم أو تنظم علاقتهم بالمجتمع أو تضمن حقوقهم في العمل الحر الشريف لكسب أقواتهم، فصاروا بلا جبهة ولا كيان واحد يضم فئاتهم المختلفة، ورأينا في مناسبات عديدة كيف تستثمر السلطات المستبدة الوضع القائم باستغلالها لتلك الفئات ومن يعيشون على حوافهم في الاستبداد بباقي فئات الشعب مستغلين فقرهم وضعفهم وحاجتهم إلى حماية السلطة بالرضوخ إلى مطالبها ولو كانت البلطجة والبطش والعيش في حالة من الفوضى، هذا بينما نرى العالم من حولنا يتيح لهؤلاء تنظيم أنفسهم في أشكال تنظيمية جديدة رأينا بعضها يصل في وعيه ونضجه إلى استخدام شبكة الإنترنت لتحقيق مصالحه.

ألم يأن لنا إذا أن نرى القوى الداعية للإصلاح تعمل على سن تشريعات جديد لإحياء تلك الطوائف، أو تعمل من خلال مؤسسات المجتمع الأهلي على مساعدة الحرفيين وأصحاب المهن الصغيرة على تنظيم أنفسهم في تنظيمات جديدة لطوائف الحرف؟..نأمل ذلك.

المصادر:
- صلاح أحمد هريدي، الحرف والصناعات في عهد محمد علي، تقديم عمر عبد العزيز عمر، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 2002.
- عبد السلام عبد الحليم عامر، طوائف الحرف في مصر 1805-1914، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، سلسلة مصر النهضة (45)، 1993.

اقرأ أيضا:
منهج النظر في أسس البناء الديمقراطي والتعددية ومؤسسات المجتمع المدني
يا أرزقية..اتحدوا
صدقات أم مسكنات للعدالة الاجتماعية
جوهر الإصلاح في مصر..التعددية المجتمعية
الحزب الوطني..درس تتعلم منه الأحزاب
الحرف اليدوية..العملاق المقيد



الكاتب: د.مجدي سعيد
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/07/2006