إغلاق
 

Bookmark and Share

عملة إسلامية انكليزية: الدلالة والمغزى ::

الكاتب: أ.د حاتم الطحاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/12/2006

قام الملك الانكليزي أوفا (OFFA 757-796م) المثير للجدل بخوض الكثير من المعارك من اجل وحدة الأمة الانكليزية في العصور الوسطى كما اشتهر بنجاحاته الاقتصادية التي حمت انجازاته السياسية والعسكرية. وهكذا عقد الملك الانكليزي علاقات تجارية وطيدة مع المسلمين في الأندلس، ومع أوروبا المسيحية، وخصوصاً مع الإمبراطور شارلمان، على رغم انتقاد الأخير لآراء الملك أوفا وتهجمه على الكنيسة.

ومنذ صعود أوفا على عرش مملكة ميرسيا Mercia الانكليزية في العام 757م، اصدر أوامره بسك عملات جديدة حملت اسمه على الوجه، وعلامة الصليب على الظهر. وفي الوقت نفسه أمر بإصدار دينار ذهبي عليه عبارات التوحيد الإسلامية، إضافة إلى اسم الملك باللاتينية OFFA REX. وقد امتاز هذا الدينار بسمات خاصة جعلته فريداً من نوعه بالقياس إلى كل العملات المسيحية التي تم سكها في أوروبا في العصور الوسطى.

ويتشابه هذا الدينار الموجود في المتحف البريطاني في لندن مع بعض الفروق البسيطة في بعض الحروف مع الدينار العباسي الموجود في متحف الفن الإسلامي في القاهرة. وفيما حاول بعض المؤرخين الأوروبيين إيجاد تفسير عملي لاتجاه الملك الانكليزي إلى إصدار عملته الإسلامية، فإن بعض الباحثين المسلمين حاول تفسير إقدام الملك أوفا على ذلك باعتناقه الدين الإسلامي.

والحقيقة أن دينار الملك أوفا أثار الكثير من الجدل عبر الدراسات والأبحاث الخاصة بتاريخ انكلترا وأوروبا في العصور الوسطى، وسنحاول في هذه السطور الخروج بنتيجة ما حول تلك القضية. ذكر بعض المؤرخين الأوروبيين وعلى رأسهم ستنتون Stenton، أن سبب وجود هذا الدينار إنما هو رغبة الملك أوفا في سك عملة ذهبية على غرار الدينار الإسلامي الشهير في التجارة الإسلامية في العصور الوسطى حتى يشعر بالتميز عن أقرانه الملوك الأوروبيين عبر مقدرته على سك هذا الدينار. كما أشار بعضهم إلى رغبة الملك الانكليزي المعارض لسياسات البابوية في توجيه ضربة معنوية كبيرة لها، من طريق دفع المنحة المقررة عليه للبابوية الكاثوليكية، عبر ديناره المنقوشة عليه عبارات التوحيد الإسلامية.

وفي حين يذكر البعض أن الدينار تم تزويره، وان الملك أوفا لم يقم بسكه، فإن المؤرخين الأوروبيين كافة الذين تطرقوا إلى إشكالية الدينار الإسلامي للملك الانكليزي أكدوا صحتـه وإن قـاموا بتبرير إقدامه على ذلك من اجل التعامل به في التجارة الخارجية مع المسلمين في الأندلس وكذلك مع التجار المسلمين في شرق المتوسط الذين يستخدمون الدينار العباسي. ويعد المؤرخ بلنت Blunt ابرز من نـادوا بهذا الرأي. بـيـنما يـرى عزيز سوريال عطية أن سك الملك اوفا لديناره الإسلامي إنما يشير فقط إلى مدى نفوذ أو هيمنة التجار والعملات الإسلامية على التجارة العالمية آنذاك.

وعلى صعيد المؤرخين والباحثين المسلمين، فإن منهم من يقول باعتناق الملك الانكليزي أوفا للإسلام، وان ذلك هو السبب المنطقي الوحيد الذي جعله يقوم بضرب عملته الانكليزية على شاكلة الدينار الإسلامي العباسي نفسه ولديهم الكثير من الحجج الموضوعية وربما الحجج العاطفية أيضاً، من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. فقد ذكروا أن المصادر والوثائق المعاصرة والمتأخرة عن الملك اوفا لم تشر أبداً إلى هذا الدينار على رغم انه حقيقة واقعة بفضل علم النميات، كما أن المؤرخين المعاصرين كانوا بفضل ثقافتهم الواسعة يستطيعون قراءة الكلمات العربية وعبارات التوحيد الإسلامية المنقوشة على الدينار، غير أنهم تجاهلوا الأمر برمته. أما القليلون الذين ذكروا عملة اوفا، فقد قاموا بذلك من دون أي تعليق علمي أو أي محاولة لتفسير ذلك.

ويمضي بعض الباحثين المسلمين في فكرتهم عن الأمر، مشيرين إلى أنه نتيجة آراء الملك الانكليزي اوفا ضد الكنيسة والبابوية، فقد تحالفتا مع شارلمان من اجل التخلص منه. وربما لهذا يرجع السبب في اختفاء كل وثائق عصر الملك اوفا قياساً ببقية الملوك الانكليز، وربما حدث ذلك بسبب قيام الكنيسة الانكليزية -مدفوعة بتحريض البابوية بجمع كل وثائق عصره والتخلص منها. كما أشاروا إلى أن المصادر الانكليزية المعاصرة للملك اوفا لم تشر إلى أسباب موته المفاجئ عام 796م بينما ذكرت المصادر المتأخرة انه لم يدفن كعادة ملوك انكلترا في الكاتدرائية الكبرى أو حتى في العاصمة، بل دفن في مبنى متواضع على حافة أحد الأنهار في مدينة برادفورد Bradford وفسروا ذلك بأن الكنيسة كانت تعرف باعتناقه الإسلام ولهذا فلم يجر دفنه بحسب الطريقة المسيحية في الكاتدرائية الكبرى.

كما أن أولئك المؤرخين والباحثين لجئوا إلى المنطق العقلي في تفسير هذه الحادثة التاريخية التي أثارت وما زالت الكثير من الالتباس، فذكروا انه من غير المنطقي أن يقوم الملك الانكليزي اوفا المعادي للكنيسة والبابوية بسك هذه العملة وعليها أهم العبارات العربية الإسلامية قاطبة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له/ محمد رسول الله» من دون أن يكون قد اعتنق الإسلام بالفعل. فما الذي يدعو ملكاً مسيحياً لأن يقوم بذلك؟!

وبعيداً من مسألة اعتناق الملك اوفا للإسلام نكاية بالكنيسة والبابوية فقد ذكر البعض أن وجود علاقات سياسية وتجارية كبرى مع الخلافة العباسية جاء نتيجة وجود الكثير من البعثات الرسمية العباسية فضلاً عن وجود الكثير من التجار المسلمين في مملكة ميرسيا الانكليزية وموانئها حيث قام التجار المسلمون بدورهم التاريخي التقليدي عبر الدعوة لدينهم فقاموا بعرض الإسلام على الملك الانكليزي المعادي للكنيسة ولشارلمان فاعتنقه.

والحقيقة أن صمت المصادر الانكليزية والأوروبية المعاصرة للملك اوفا عن الحديث عن ديناره المنقوشة عليه عبارات التوحيد الإسلامية، وكذا اختفاء وثائق عصره ومكان وطريقة دفنه المختلفة لهي أمور تدعو إلى الريبة. وكذلك فإن صمت المصادر الإسلامية على الجانب الآخر (العباسية وكذلك الأموية في الأندلس) عن ذكر اعتناق الملك الانكليزي للإسلام، وكذا عدم الحديث عن ديناره الإسلامي في وقت كان جديراً بها أن تحتفي بهذا الحدث الجلل لهو أمر يدعو أيضا إلى الريبة والشك في حدوث الأمر على هذا النحو.

وإذا كان يمكن الرد على ذلك جزئياً بأن المصادر الإسلامية المعاصرة قد صمتت أيضاً عن العلاقة بين الخليفة هارون الرشيد وشارلمان التي أوردتها المصادر الفرنجية فقط، فإن سكوت المصادر الانكليزية والفرنجية وكذا البابوية، فضلاً عن المصادر الإسلامية المعاصرة الأموية والعباسية لهو أمر يصعب فهمه إلا إذا اعتنقنا نظرية المؤامرة في تفسير ذلك.

وفي النهاية، فإن مسألة العداء بين الملك المسيحي والبابا الكاثوليكي لهي مسألة عادية تكررت عشرات المرات في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى. فما يعرف باسم النزاع العلماني وهو أمر لا يمكن الاتكاء عليه في حالنا هذه للقول باعتناق الملك الانكليزي اوفا الذي هو بمثابة رأس الكنيسة الانكليزية للإسلام ديناً رسمياً له ولشعبه ما دام ينقصنا الدليل التاريخي الدامغ على ذلك وإذا كان التاريخ في احد معانيه يعني الوثيقة فإن عدم وجود وثيقة واحدة في أعمال عشرات المؤرخين الأوروبيين والمسلمين المعاصرين تثبت اعتناق الملك اوفا للإسلام يجعلنا نشك في ذلك على رغم وجود الدينار/ الوثيقة الصامتة الممثلة في تلك العملة الانكليزية.

واقرأ أيضا:
أوربا والإسلام في العصور الوسطى  
حرب عادلة: التراث المسيحي للعصور الوسطى
 

حاتم الطحاوي  11/02/2006
أستاذ تاريخ العصور الوسطى - جامعة الزقازيق
نقلا عن جريدة الحياة اللندنية



الكاتب: أ.د حاتم الطحاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/12/2006