إغلاق
 

Bookmark and Share

المسلمون الروس والحج في نهاية القرن الـ19 ::

الكاتب: أ.د حاتم الطحاوي 
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/12/2006

سلك الحجاج الروس في طريقهم إلى أداء مناسك الحج في مكة المكرمة نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ثلاثة طرق رئيسة أولها الطريق البري عبر أرمينيا وأذربيجان وجورجيا إلى شمالي إيران ومنها إلى خانقين ثم بغداد فكربلاء والنجف حتى صحراء شبه الجزيرة العربية وكان معظم أولئك الحجاج من الشيعة الروس بينما يبدأ الطريق الثاني برياً من سمرقند وبخارى إلى مزار شريف وكابول وبيشاور إلى ميناء بومباي بالهند حيث يستقل الحجاج سفنهم عبر المحيط الهندي إلى بحر العرب ثم إلى ميناءي جدة وينبع.

أما الطريق الثالث فقد سلكه حجاج المناطق الداخلية في الاتحاد السوفيتي إلى مدن أوديسا وسباستوبول على البحر الأسود ومنها بحراً إلى العاصمة العثمانية استانبول حيث استقلوا السفن عبر البحر المتوسط إلى قناة السويس ومنها إلى ميناءي جدة وينبع على البحر الأحمر.

غير أن الحجاج الروس كانوا يبدءون استعداداتهم لرحلة الحج المباركة قبل موعدها بعام كامل تقريباً إذ يبدءون في الاستعلام عمن ينوي الحج في العام المقبل ثم يجتمعون معاً من أجل وضع ترتيبات شؤون رحلة الحج البعيدة والقاسية براً وبحراً وذلك لبعد المسافة بين أوطانهم في الاتحاد السوفيتي والأماكن المقدسة في الحجاز.

ونتيجة لطول الرحلة كان لا بد للحجاج من التزود بأرغفة الخبز المجفف والعنب المجفف فضلاً عن لحم الخيل والغنم المملح والشاي وعادة ما ينطلق موكب الحجاج الروس في نهاية شهر رمضان الكريم حيث يعيش الحجاج لحظة وجدانية فارقة حينما يلتف حولهم أقاربهم وجيرانهم من أجل وداعهم وطلب الدعاء لهم على جبل عرفات. وبالنسبة للحجاج المسافرين بحراً عبر استانبول كان يتعين عليهم المكوث في المدينة أسبوعاً من أجل شراء مستلزمات الإحرام وتغيير النقود الروسية بالنقود العثمانية قبل ركوب السفينة المتجهة إلى ميناء جدة وكانت سفن الحجاج آنذاك أما تابعة للدولة العثمانية أو لروسيا أو تكون ضمن البواخر الخديوية المصرية كما تواجد على سفن الحجاج كافة أطباء العناية بصحة المسافرين.

وقبيل وصول سفينة الحجاج الروس إلى ميناء جدة يقوم الحجاج بارتداء ملابس الإحرام ثم يقومون باستئجار بعض الأماكن في المدينة لالتماس الراحة فيها قبل الانطلاق لأداء مناسك الحج في مكة المكرمة وهناك يتوجه الحجاج الروس أول ما يتوجهون إلى التعاقد مع المطوفين حيث يتم الطواف بالقبلة الشريفة وزيارة المسجد الحرام والإكثار من الدعاء والتلبية. ويقيم حجاج روسيا في مكة المكرمة في الكثير من التكايا التي قام المسلمون الروس بشرائها سابقاً ويشرف عليها بعض مواطنيهم الذين فضلوا الإقامة الدائمة في مدينة مكة وعلى الرغم من ذلك فإن تلك الأماكن لم تكن توفر راحة حقيقية للحجاج الروس بفضل ضيقها واكتظاظها بهم.

يمضي الحجاج الروس وقتهم في مكة المكرمة قبيل الحج في الطواف والإكثار من الصلاة والدعاء في المسجد الحرام وزيارة مقابر الصحابة والتزاحم على شرب مياه بئر زمزم فضلاً عن تفقد شوارع وجبال مكة وترسم خطى الصحابة والمسلمين الأوائل. وفي الثامن من ذي الحجة يبدأ الحجاج الروس مع زملائهم في الاتجاه نحو جبل عرفات في ثيابهم البيض مشياً على الأقدام أو راكبين الدواب أو الشقادف ونتيجة للتكدس والزحام الشديدين فربما انتشرت بعض الأمراض والأوبئة بين الحجاج في الطواف أو الوقوف بعرفات إلا أن الحجاج الروس لم يأبهوا لذلك وان قاموا بالدعاء لربهم بالسلامة ويقوم البعض منهم بتوصية زملائه حول كيفية التصرف إذا ما حدث لهم ما لا يحمد عقباه.

وعلى عرفات يفترش الحجاج الروس الأرض إلى جوار الحجاج الآخرين الذين قدموا من شتى بقاع الدول الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر متظللين الخيام من الحرارة الشديدة وبينما يلجأ البعض إلى غرس بعض العصي في الأرض ومد قطعة من الخيش أو القماش لاتقاء الشمس فإن بعض الحجاج الفقراء ويلجئون إلى الاحتماء بالمسجد وجدرانه والبقاء تحت الشجيرات. وبينما يأخذ الحجاج في الدعاء على جبل عرفات فإنهم يتلقون إمداداتهم من الماء عبر مجرور المياه الوارد من مكة المكرمة وعند غروب شمس يوم عرفة تحرك الحجاج الروس مع إخوانهم صوب المزدلفة حيث تزودوا بالماء والمئونة قبل أن ينطلقوا في صباح العاشر من ذي الحجة إلى منى التي ازدحمت بالحجاج حيث قام الجميع بنحر آلاف الأغنام صباح يوم العيد.

وكبقية الحجاج قام الروس بنحر الأضاحي كل عن نفسه وكذلك عن أقاربهم أو إيفاء لنذر سابق قطعوه على أنفسهم إذا ما أكرمهم الله بالحج والوصول إلى تلك الأماكن المقدسة التي تهفو إليها قلوب المسلمين الروس جميعاً.

وبمجرد انتهاء مناسك الحج وعودة الحجاج الروس إلى مكة المكرمة مرة أخرى يشعر الجميع بحالة قصوى من السعادة والرضا اثر تمكنهم من تحقيق آخر وأصعب أركان الإسلام الخمسة بالنسبة لهم إلى درجة أنهم لمجرد دخولهم مكة يتجهون مباشرة إلى مكاتب التلغراف الموجودة بها لإرسال برقيات إلى أهلهم في أذربيجان وجورجيا وسمرقند وبخارى وطشقند وعشق أباد وغيرها من المناطق الإسلامية التابعة لروسيا لإعلامهم بنجاحهم في أداء الفريضة التي تكبدوا مشاق الطريق لأجلها أشهراً عدة.

وبعد ذلك يستعد الحجاج الروس للرحيل عن مكة المكرمة بعد إتمام مناسك الحج ولا يفوتهم حين يحزمون حقائبهم حمل كميات كبيرة من الهدايا لأسرهم وأحبائهم فضلاً عن مياه زمزم التي جرى وضعها في أوعية خاصة من الصفيح بعد لحامها وكذلك التمر والمسابح والسجادات الصغيرة التي صنعت في استانبول. كما يحتفظ كل حاج بثوب الإحرام الذي ارتداه إبان الحج ليحمله معه إلى بلاده كذكرى جميلة للشعائر المقدسة كما يلبون رغبات أقاربهم بحمل قطعة من القماش مبللة بماء زمزم لأجل الأكفان فيما بعد وبعدما ينتهون من جمع أغراضهم وهداياهم كافة يقومون بوضعها في صناديق خشبية قبيل رحلة العودة بحراً من جدة إلى استانبول.

على أن الحجاج الروس يقبلون على زيارة المدينة المنورة بمجرد انتهاء الحج وعلى الرغم من شعورهم بالإرهاق الشديد فإنهم رغبوا في أن تنتهي رحلتهم بمشاهدة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه وفي المدينة أقام الحجاج الروس أيضاً في تكايا تابعة لهم وكذلك لدى بعض أقاربهم وشعر الجميع بالراحة في المدينة المنورة لاتساعها وعدم زحامها ومكثوا بها أياماً عدة برفقة الأدلة الذين يقودونهم لدى زيارة الحرم النبوي الشريف والأماكن ذات الدلالة الدينية بالمدينة.

وبعد الانتهاء من زيارة المدينة المنورة تعود قافلة الحج الروسي براً إلى مكة المكرمة ومنها إلى ميناء جدة حيث تستقل سفينتها عائدة إلى استانبول مرة أخرى ومنها إلى الموانئ الروسية على البحر الأسود.

ولاستقبال الحجاج الروس في أوطانهم طابع خاص وجميل اذ يستقبلهم أقاربهم ومحبوهم في احتفال كبير ويتوافد الجميع إلى رؤيتهم والاحتفاء بهم ويبدأ الجميع في الالتفاف حولهم في الأماسي من أجل سماع تفاصيل الرحلة المباركة كافة خصوصاً ما رآه الحاج وما فعله في أهم مدن المسلمين مكة والمدينة. ويصف لنا فامبيري لقاء بين الحجاج العائدين وأهلهم في منطقة غموش تبه في روسيا بالكلمات التالية «لقد انتشر نبأ وصولنا في كل مكان: النساء والأولاد وحتى الطلاب تدفقوا في حيرة غريبة من الخيام لكي يلقوا نظرة إلى الحجاج العائدين وينالوا عبر لمسهم جزءاً من البركة المصاحبة للحج لقد رغب الجميع في لمس الحجاج الذين نزل عليهم غبار مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة».

واقرأ أيضا:
أوربا والإسلام في العصور الوسطى  
حرب عادلة: التراث المسيحي للعصور الوسطى
 

حاتم الطحاوي 
نقلا عن جريدة  الحياة اللندنية  31/12/2005



الكاتب: أ.د حاتم الطحاوي 
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/12/2006