إغلاق
 

Bookmark and Share

البركة أم اللعنة ؟! الدين ومجتمع المعرفة ::

الكاتب: د.أحمد عبدالله
نشرت على الموقع بتاريخ: 20/03/2004

في فيلم - صلاح الدين الأيوبي - لمبدعه يوسف شاهين مشهد مثير يحتدم فيه النقاش بين الملك ريتشارد "قلب الأسد" وكبير الأساقفة المصاحبين لحملته الصليبية على الشرق العربي, ويحسم ريتشارد الموقف عندما يطلب صلاة فورية, وحين يتباطأ الأسقف يقول له الملك: الآن وفوراً... أريد البركة فوراً أو اللعنة فوراً, وبالطبع فإن الأسقف لا يجد مفراً من منح البركة "الفورية" إفلاتاً من هذا الاختبار الملغوم.
الفصل السادس هو أهم الفصول التي تضمنها تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003, وعنوانه "نحو إقامة مجتمع المعرفة", وهو الفصل الخاص بالدين والثقافة. وعلى رغم أهميته إلا أنه لم يحظ بما يستحقه موضوعه وأفكاره من نقاش أو جدل, وهذا أمر لافت للنظر والتأمل. ولغة الكتابة في هذا الفصل تغلب عليها النزعة الرصدية التحليلية من دون القدرة على - وربما من دون الرغبة في - الوصول إلى استنتاجات ومقترحات تفيدنا في ما نحن بصدده من محاولة الإجابة على أسئلة المرحلة, وتحديات اليقظة أو النهضة: المعرفة والدين والثقافة. والسطور التالية هي محاولة للاشتباك مع ما يتعلق بالدين في هذا الفصل, آخذين في الاعتبار أن هذا الملف يحتاج إلى معالجات أوسع وأعمق يضيق عنها الحيز المتاح هنا.

1- الوحي والعقل:

ثنائية مهمة وشهيرة طوال تاريخنا, وتترد أصداء النقاش المعلن, أو الاحتكاك الخفي بينهما في حياتنا الفكرية والعملية.

والتقرير لم يفلح في النفاد إلى معالجة جديدة تتجاوز ما هو شائع وتقليدي من أن تاريخ الإسلام لم يعرف انبعاثاً عاماً وحقيقياً, وإعلاء معتبراً لشأن العقل إلا بالتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى, وهذا بعد مرور قرنين لم يأبه فيهما عامة المسلمين كثيراً للتوجه الإسلامي الأصيل نحو العقل كأساس معرفي إنساني!!!

ثم يدخل تاريخنا الفكري والاجتماعي - بحسب التقرير - في تقابل بين (النص - الأطروحة) وبين (العقل - النقيض) فتنقسم الآراء والاتجاهات إلى هذا أو ذاك أو محاولة التوفيق بينهما, ثم تتدهور حياتنا بنواحيها من بعد انهيار الدولة العباسية, وندخل إلى صومعة الزهد حتى مطلع القرن التاسع عشر لنومض لحظة الاتصال بالحداثة الغربية ثم ننطفئ تحت تأثير "ثقافة الخرافة"!

فهل هذه هي أفضل أو أحكم قراءة مختصرة لتاريخنا من هذه الناحية!

والحق - في ما نرى - أن هذه القراءة المغلوطة, المؤبدة في ما يبدو, يمكن أن تكون سبباً من أسباب ما نحن فيه من التباس وتشتت وتشوش متوزعين بين ولاء مزعوم لنص نزل من السماء, وانحياز متوهم لعقل لا ينتعش إلا حين ننقل عن غيرنا فنتأثر به أو نتفاعل معه, ووضع المسألة ليس هكذا أبداً. فلم تكن للعرب أية حياة عقلية جديرة بالاعتبار قبل ظهور الإسلام, أو نزول الوحي, وكان الوحي هو الباعث الحقيقي والأهم لإطلاق العقل العربي من ركام "الجاهلية" بمعناها العميق الشامل, وكما توقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الوحي عن التعبد لربه عن طريق المكوث في الغار متأملاً متحنثاً كأي متصوف أو زاهد يفعل هذا, فإن العقل العربي خرج من الكهف منذ لحظة نزول "اقرأ" التي حملت في طياتها إشارات موحية للنظر فيبيولوجيا

الإنسان واحترام الكتابة والقلم.

منذ اللحظة الأولى انبعثت واضحةً جليةً صيغةُ الوحي / العقل, حيث لا قيمة حقيقية واقعية لوحي لا يجد عقلاً يتفاعل معه ويسأله, ويتدافع به, فتنشأ نتائج تستدعي أوضاعاً وأسئلة جديدة, وتفاعلات أخرى فينزل الوحي ليجيب على سؤال, أو يحل مشكلة, أو يطرح اقتراحاً, أو يقرر وضعاً اجتماعيا أو اقتصادياً أو سياسياً أو عمرانياً مطلوباً, أو يلفت النظر إلى خطر أو خلل يحتاج إلى إصلاح وتدخل. ومن اللحظة الأولى برزت هذه الدينامية في العلاقة بين الوحي والعقل, إذ لا يمكن لمسيرة "التنزيل" من هدي سماوي إلى عمران أرضي لتتحقق في واقع معاش إلا فوق قدمين معاً: الوحي والعقل, وكأنهما توأمان ملتصقان على نحو ما, بحيث إذا فقدنا أحدهما يوشك الثاني على الفناء.

هذه هي طبيعة الإسلام في تكوينه ومنذ لحظة نشأته, وقد يدرك المسلمون هذا أحياناً, أو يلتبس عليهم, أو على غيرهم أحياناً أخرى, وقد يدخلون في علاقة مع غيرهم فتنشأ أسئلة وأوضاع وأفكار يتفاعلون معها بالوحي والعقل, وقد يعطلون هذه الدينامية في بعض أو كل أجزائها. ومعركة نهضتنا لا تنفصل عن هذا الجدل, ونحن إذا سلمنا بأن النص مجرد أطروحة, والعقل نقيض - كما يقر التقرير - فإنما نخالف بذلك طبيعة العلاقة بين الوحي والنظر من ناحية, وأيضاً فإننا ندخل في تداعيات إجابات خاطئة عن سؤال مغلوط, ونختزل تاريخنا العقلي والحضاري على نحو ظالم.

وأحسب - في حالتنا - أن لا أمل في إيقاظ العقل إلا بقوة الوحي ورصيده المعتبر في نفوس المؤمنين الذين هم غالبية, بل أبالغ إذا قلت أن حضارتنا وواقعنا المعاصر لم يعرفا صبغة إلا صبغة الإيمان على تفاوت في استقبال هذا الإيمان أو تشكله والتعبير عنه. ومن الأخطاء التاريخية الفادحة أن نبذر أو نحرث أو نقف على غير هذه الأرض, أو نتركها لمن يسيئون الفهم أو يختزلون التنزيل فيصبح الدين عندهم مجرد نصوص للترديد, أو أشكالاً للتقليد, من دون تعامل مع مستوياته الأخطر والأهم في إثارة السؤال, وإطلاق الإبداع, والانفتاح على الغير بحثاً عن الحكمة, من أي وعاء خرجت.

ونخسر كثيراً حين نتجاهل تلك الطاقة الهائلة المندفعة ـ على غير هدى - في أوصال وأنسجة مجتمعاتنا, فتصبح النتيجة مجرد تشنجات حماسية أو بعض مظاهر المحافظة الأخلاقية الشكلية أو تفجيرات مقاومة دؤوبة للمحتل الغاصب, والدين في أصله يطيق اجتهاداً أكثر من هذا بكثير, ويرسم لاستقلال أبعد من هذا بكثير, ويطمح ويحقق نهضة أعمق, وقد حقق تغييراً وبناء حضارياً أكثر ثراء وغنى.

2- من المعرفة إلى الجهاد المدني

لا ينفصل هذا عن أصدائه فيما يتعلق بالعلاقة الملتبسة عندنا بين عالم الغيب وعالم الشهادة, بين إرادة الله سبحانه, وبين مسؤولية البشر, والإسلام في تأسيسه للعقل والعدل لم يكن أبداً طوباوياً, ولا غامضاً, ولكنه حين جعل الإنسان والحياة والكون موضوع معالجته فإنه يقرر الأحكام, وينشئ الأوضاع التي تكفل لها الحياة والتطبيق, ويتناول الإجراءات الأساسية لإقامة هذه الأوضاع, وإقرار هذه الأحكام, وعند أغلب المسلمين اليوم فإن الدين يكاد يكون مجرد مصدر للبركة غير المحسوبة, وتركه أو الحياد عنه تنشأ عنه أوضاع "اللعنة"... هكذا بغضِّ نظرٍ مدهش عن اعتبار سنن التقدم أو التخلف, أو الطريقة التي يمكن أو ينبغي أن نسلكها إذا أردنا عدلاً أو رخاء اقتصادياً... إلخ.

وعند غالبية مسلمي اليوم فإن النظر العقلي, والبحث العلمي, والتنمية الاقتصادية, والجهاد المدني بأشكاله المختلفة, وعمارة الكون بالمعنى الواسع ليست سوى أنشطة "مادية" "دنيوية", وعلاقتها بالدين مختزلة في شخص من يقوم بها, فإن آمنوا واتقوا - بمعنى العلاقة بالله سبحانه - انفتحت عليهم البركات, وإن لم يفعلوا تساقطت فوق رؤوسهم اللعنات.

وفي قفزة واحدة بائسة هكذا نفقد كل تراثنا وتاريخنا الحضاري وقيادتنا للإنسانية, تلك القيادة التي قامت حين أقمنا الكتاب والميزان, ثم لم نعد نرى أن الانحطاط الثقافي أو التبعية التقنية أو السفه السياسي أو الاقتصادي بوصفها معاصي وآثاماً, ولم نعد نرى أن الغش التجاري أو تزوير إرادة الأمة أو عدم الإتقان في العمل بوصفه كذباً على الله يأتي من قاموا به يوم القيامة ووجوههم مسودة, فيجمعون بين الفضيحة والعقاب!!!

وعندي فإنه لا أمل في مواجهــة ثقافة الخرافة والأساطير إلا بقوة الوحي وتجلياته في تقرير مسؤولية الإنسان وإرادته التي شاء الله سبحانه أن يجعلها سابقة على إرادته في ما يتعلق بالفعل والتغيير الإنساني والاجتماعي: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم".

ولا أمل في أية نهضة إلا بـ"استعادة" صحيح الدين, وليس "العودة إليه"... لأن "صحيح الدين" ليس نقطة ثابتة أو لحظة تاريخية, ولكنه صيرورة دينامية متفاعلة بين النص والعقل والواقع, ولا أبالغ إذا أضفت محورية فكرة الأمة والجماعة فهي المحافظة للدين والقائمة عليه والراعية لحدوده وأوضاعه وأحكامه, وهي الأصل, والدولة فرع أو مجرد مؤسسة من مؤسسات إدارة جهود الناس وتنظيم حياتهم, ولا تنزل هداية السماء إلى الأرض إلا عبر تفكير وممارسة الأفراد والجماعة أو الجماعات. وقد غفل التقرير عن هذا المعنى أيضاً على رغم أن التوحيد والأمة صنوان: "وإن هذه أمتكم أمةً واحدة, وأنا ربكم فاعبدون", وعلى رغم أنه يدرك أزمة حركات "الإسلام السياسي" التي يبدو أنها فقدت مركزية الأمة في التصور الإسلامي, فباتت "الغائية السياسية هي المقصد الرئيس لمنظومة الإصلاح والنهضة الإسلامية", كما يقرر التقرير بحق.

(وكما أطلق الوحي العقل والسؤال والإبداع والاجتهاد والنظر والسير في الأرض من أول يوم فإنه أيضا لم يدع مجالا لأتباعه في الاختيار بين الانفتاح علي العالم أو الانغلاق دونه، فعند المسلم أن الدنيا كلها " دعوة " والتواصل مع الغير فريضة بوصفه جزءا من الدعوة والبلاغ " على الأقل "، وبوصفه بحثا عن الحكمة في خبرات وتجارب الآخرين، ولا يمكن " هداية " الغير إلا بعد العلم بأحوالهم، ولا يمكن إدراك الذات وتحقيق صحيح الدين أو مقصود الله من البشر إلا بالمناظرة والجدال بالتي هي أحسن، والانعزال عن العالم أو مناصبته العداء هكذا بالجملة هو مناهض لبديهيات الدين والتدين في نصوصه وتاريخه ومنطقه الحاكم، والتفاعل مع العلم فرض عين علي كل مسلم ومسلمة بحسب الظروف والأحوال والأماكن والمناسبات، ولا يقتصر هذا الفرض علي نخبة أو طبقة إنما هو واجب ديني يأثم تاركه، هذا إذا سلمنا بأن كل مسلم هو "داعية" "قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني)

لا أمل عندي في انفتاح حقيقي على العالم, وتفاعل إيجابي مع تيارات البحث عن الحرية والعدل والحقيقة إلا بأن يكون دافعنا الأقوى وتوجيهنا الأوضح نابعين من حقيقة إيماننا بالله وبالإنسان وبدورنا الذي يمكن أو ينبغي أن نلعبه في مسار البشرية ومسيرتها اليوم وغداً. إطلاق العقل بالوحي, وإعمار الأرض بمنهاج رباني في مصدره, إنساني في توجهه, والاشتباك الفوري مع ما يحدث في العالم, وما يتداوله البشر من معرفة وتساؤلات, هذه البنود الثلاثة يمكن أن تكون أجندة لنبدأ في تأسيس مجتمع المعرفة متجاوزين سؤال: البركة واللعنة من دون إغفاله, والله أعلم.

عن جريدة الحياة اللندنية 2004/03/13

(الجزء بين القوسين أخذناه عن الأصل من مستشارنا د.أحمد عبد الله ولم يظهر في جريدة الحياة)



الكاتب: د.أحمد عبدالله
نشرت على الموقع بتاريخ: 20/03/2004