إغلاق
 

Bookmark and Share

التحليل النفسي لوصية سوزان تميم ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/09/2008


كشفت صحيفة "البيان" الإماراتية في عددها الصادر صباح الخميس، أن شرطة دبي عثرت على وصية الفنانة القتيلة، كما عثرت على قصاصة ورقية في الشقة التي شهدت جريمة مقتلها، بمنطقة "المارينا"، تحمل عبارة "الزواج أو القتل". واعتبرت الصحيفة إن الوصية والورقة الصغيرة دليلين على أن "القتيلة كانت متأكدة أنها معرضة للقتل، الأمر الذي دعاها لكتابة وصيتها وحملها معها إلى دبي قادمة من لندن، قبل مصرعها بيومين"، وقال إن الوصية مكتوبة بخط يدها وموقعة منها.
وبحسب الصحيفة الإماراتية، فقد جاء في نص الوصية: "بسم الله الرحمن الرحيم.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. أوصي بأن تحول ملكية كل ما أمتلك من مال أو عقار أو جواهر أو أي شيء، بل كل ما أملكه، بأن تنقل ملكيته إلى والدتي وأخي ولا أحد سواهم." وأضافت تميم في وصيتها: "وأوصيكم بأن تزكوا وتحسنوا، وتطعموا وتكفلوا الأيتام والمساكين، وتتبعوا صراط (كما وردت في النص) الله المستقيم، وتسامحوني إن أسأت إليكم، وتدعو لي بالرحمة، وأن تعتمروا لي وتحجوا عني إذا تيسر لكم، وأن تكرموني في وفاتي".

كماء جاء في الوصية: "أوصيك يا أخي بأمك، وبصلة رحمك، وبالرحمة والعفو عند المقدرة، والسماح والتسامح، والبر بوالديك، أحبكم وأدعوا لكم بالرحمة فادعوا لي بها."
واختتمت الفنانة القتيلة وصيتها قائلة: "اتحدوا ولا تفرقوا على بركة الله وسنة رسوله، والسلام عليكم وعلينا، وعلى محمد وآله وصحبه.."
                                                                                      
سوزان عبد الستار تميم

هذه الوصية تحمل الكثير من الدلالات النفسية، ولذلك سنحاول تتبع تلك الدلالات مستخدمين في ذلك منهج التحليل النفسي غالبا.
الشيء الملفت للنظر هو تأكيدها على تحويل كل ما تملك من مال أو عقار أو مجوهرات أو أي شيء إلى والدتها وأخيها ولا أحد سواهم، وهي هنا حين تذكر الأم والأخ وتستبعد من سواهم إنما تستبعد الأب، وهو وريث طبيعي في هذه الحالة، وهي تعمدت عدم ذكره في وصيتها. هذا الاستبعاد للأب من الوصية يعطي مفتاحا هاما ورئيسيا لفهم كثير من جوانب شخصية سوزان تميم وبالذات فيما يخص علاقتها بالرجال. فقد كانت هناك مشكلة نفسية تجعل سوزان ترتبط برجل ثم تتركه بعد أن تأخذ منه ما تريد ثم ترتبط برجل آخر فتكرر معه نفس السيناريو ثم تتركه، وتكرر ذلك عدة مرات، وفي كل مرة تدع الرجل في حيرة وغيظ فيتتبعها يحاول أن يقتص منها أو أن يضع العراقيل في طريقها أو أن ينتقم، إلى أن وصل السيناريو إلى قمته بأن انتقم منها أحدهم (لا نعرف أيهم حتى الآن على وجه اليقين حتى ينتهي التحقيق) بقتلها. وكأنها كانت في علاقتها بالرجال تجتذبهم بطريقة ما فيقعوا في شباكها ثم في لحظة ما تقرر هجرهم وتتركهم يتجرعون مرارة الهجر وغالبا الغدر، وكأن هناك ثأر لا ينتهي بينها وبين الرجال، وكأنها تستمتع بهذه اللعبة وتكررها مرات عديدة، وفي كل مرة تحرق قلب رجل عليها أو على أمواله التي أخذتها منه أو أنفقها عليها. بل إن في اختيارها لحرفة الغناء بالذات دليل على رغبتها في جذب الاهتمام وفي الاستعراض، وقد منحها هذا فرصة لتصل إلى من تريد من الرجال بشكل أسهل.

وفي رأي التحليل النفسي فإن هذا السلوك يعكس مشكلة في العلاقة مع الأب على اعتبار أن الأب هو رمز للرجل في حياة ابنته، بل إنه أول رمز تتعامل معه في حياتها من الرجال، وحين تكون العلاقة بالأب مضطربة أو غير مشبعة فإن البنت تظل بقية حياتها تبحث عن صورة الأب المفقود، وبسبب جوعها الشديد للأبوة فهي لا تشبع من رجل واحد بل تريد واحدا تلو الآخر، وهذا يفسر تعددية علاقاتها في فترة قصيرة من عمرها، وهي مثل العطشان الذي يشرب من ماء البحر لا ترتوي أبدا.

فقد تزوجت سوزان زميلها "على مزنر" وكان يعتبرها مصدرا للثراء له ورغم نفورها منه والمشاكل الكثيرة بينهما إلا أنه رفض تطليقها، حتى دفع له زوجها الثاني "عادل معتوق" مبلغ مليون دولار، وحين تزوجها عادل معتوق ودفع ثمنها لعلي مزنر، حاول هو الآخر استغلالها فجعلها توقع له على عقد احتكار لها لمدة 15 عاما، ذلك العقد الذي استغله ضدها ليمنعها من التعاقد مع أي شركة إنتاج أو مع أي متعهد حفلات. وكان معتوق شديد الغيرة عليها خاصة مع جمالها الأخّاذ والملفت للنظر، وحاول أن يقنعها أو يجبرها على الاعتزال لكي تبقى له وحده ولكنها رفضت وحاولت الهرب منه، واحتمت منه بأكثر من رجل منهم هشام طلعت مصطفى، ولكن في كل مرة كانت تطلب الحماية، يطلب منها أن تدفع الثمن، ولذلك هربت إلى لندن لتعيش مع ملاكم عراقي (ربما اختارته ملاكما لإحساسها بالخطر من علاقاتها السابقة ورغبتها في شخص قوي يحميها) لمدة سنة ونصف قبل مقتلها. وربما تكون خياراتها للرجال مدفوعة باحتياجاتها النفسية ومشكلاتها مع رمز الرجل، وهنا تكون الخيارات كلها خاطئة وفاشلة لتؤكد حقيقة واحدة وهي أن الرجل سيء ولا يؤتمن على شيء، وأن من المنطقي استغلاله أو استنزافه أو هجره أو طعنه. وعلى الرغنم من أن سوزان تزوجت بشكل رسمي مرتين فقط إلا أن الأخبار والتقارير تفيد بوجود علاقات متعددة أوصلها البعض إلى مائة علاقة. وربما يكون في الأمور مبالغات كالعادة ولكن من المؤكد أنها تورطت في علاقات متعددة وفاشلة ومحبطة، وكل هذا كان يصب في خانة أن الرجل دائما سيء على الرغم من أنه مطلوب ومرغوب.

ولا توجد معلومات كافية عن علاقة سوزان بأبيها غير تلك الأخبار المتناثرة التي تفيد أن جو البيت الذي عاشت فيه كان مضطربا للغاية، وأن والدها عبد الستار خليل تميم كان عبئا عليها، ولم يكن مصدرا للرعاية أو الحماية، بل إنه تورط في حادثة محاولة تهريب كوكايين في علبة ساعة لسوزان، وكان أخوها خليل أيضا يتميز بالتهور وقد أحب خادمة في مصر، وبعد ذلك ماتت هذه الخادمة بشكل غامض ولم يعرف أحد على وجه اليقين: هل ماتت منتحرة أم مقتولة.

كما أن اضطراب علاقتها بالأب يجعل لديها مشاعر متناقضة، فهي تريده كاحتياج فطري، وتبغضه في نفس الوقت بسبب هجره لها أو سوء معاملته أو أي شيء أثر في علاقته بها، ويظهر هذا التناقض الانفعالي في صورة علاقات متعددة بالرجال يكون فيها الرغبة في الاقتراب من الرجل ثم إيلامه بعد ذلك بهجره أو بأخذ أمواله، والاستمتاع بذلك الهجر وذاك السلب، وكأنها تريد أن تؤلمه أو تعاقبه أو تذله بعد أن تعلق بها. ولو استخدمنا أبجديات التحليل النفسي فإن سوزان هنا لم تحل عقدة "إلكترا" في طفولتها، وبقي الأب (الرجل) هدفا لمحاولات الإغواء المتكررة، ومحاولة سلبه رموز رجولته (الحب والجنس والمال) والإستمتاع بإذلاله وهجره بعد أن يكون قد تعلق بها تعلقا شديدا، وكأنها تقول له ذق من نفس الكأس الذي شربت أنا منه بسببك. وهذه العقدة في العلاقة بالرجل تنتقل إلى كل رجل تلقاه في حياتها، حيث تبدي له مشاعر حب فياضة، وربما تعطيه ما يريد، حتى إذا وقع في شباكها تركته يتجرع مرارة الفقد ومرارة الغيرة وذهبت إلى غيره لتكرر نفس القصة ربما مع اختلافات بسيطة في الحوار والتفاصيل.

وقد ساعدها على ذلك ما كانت تتمتع به من جمال وجاذبية سهلا لها عمل تلك العلاقات المتعددة برجال لهم نجوميتهم وبريقهم كل في مجاله، وهذا أعطاها ثقة في أنوثتها الجريحة بسبب إشكالية العلاقة بالأب، فهاهي يشتهيها كثير من الرجال الأقوى والأغنى والأشهر، وها هي تجد نفسها في قصص حب مشتعلة ودرامية ترضي احتياجها للثقة بنفسها والاطمئنان على جاذبيتها مع كل رجل تلقاه. وهذا النوع من الشخصيات (الذي تمثله سوزان) يبدي حرارة عاطفية هائلة وربما إغواء جنسيا طاغيا، ومع هذا لا تستطيع هي أن تحب أحدا أو أن تشعر بأحد، ولهذا تتعدد علاقاتها من وقت لآخر، إذ ليست هناك مشاعر عميقة ودائمة نحو رجل محدد، فهي تحب نفسها، وتحب حب الرجال لها، ولكنها لا تحب الرجال أنفسهم. فهي أقرب لنموذج الشخصية الهستيرية الاستعراضية التي تعد ولا تفي وتغوي ولا تشبع، وتوحي بالحب وهي لا تعرفه، وربما توحي بالجنس وهي تبغضه أو تعافه. وهذه الشخصية لا تحب أن يتملكها شخص واحد، بل تفضل أن تكون معشوقة الجماهير، وهي تهرب من العلاقة الحميمة، وتفضل أن تكون للعرض والاستعراض فقط، وهي سريعة الملل وتريد أن تعيش قصص حب درامية، وتبحث عن الشهرة والبريق، وتبحث عن المال لأنه أحد وسائلها لتحقيق أهدافها.

وهذا النمط من الشخصيات يثير فضول الرجال ويجذبهم إليه جذبا شديدا، وهي من أكثر أنماط الشخصيات التي تحظى بالكتابة عنها من الشعراء والكتاب، فمثلها حركت العقاد ليكتب عن "سارة" وحركت كامل الشناوي ليكتب قصيدته "لا تكذبي"، وحركت إبراهيم ناجي ليكتب "الأطلال" . وفي هذا العصر لم يعد الشعراء هم هدف تلك الشخصيات الجاذبة البراقة، وإنما أصبح رجال الأعمال هم هدفهن حيث يتيحون لهن التواجد في المستويات الاجتماعية والمالية الأرقى، ويمنحونهن المال والحماية والرعاية، ويشعرونهن بارتفاع القيمة. وهنا تحدث إشكالية بين الشخصية الأنثوية الاستعراضية الدرامية الزائفة والتي تسعى إلى إبهار جمهورها كفنانة وإلى الانتشار والشهرة، وبين التركيبة النفسية لرجل الأعمال الذي يسعى إلى تملك كل ما هو جميل وثمين، فهو يريدها له وحده وهي تريد كل الناس، وهنا يحدث الصراع، وبما أن رجل الأعمال تعود أن يفوز في الحصول على الصفقات وأن لا يسبقه أحد إلى شيء جميل أو ثمين، فهو يفعل كل ما في وسعه لتكون له وحده، أو على الأقل يعمل على أن لا يسلبها أحد منه.
 
وقد تتعاطف البنت مع الأم وتتوحد معها ضد أبيها إذا رأت أنه يسئ معاملة أمها، وهنا تقوم بأخذ ثأر الأم من الأب ومن أي رجل تلقاه في حياتها بعد ذلك. ونحن ليست لدينا معلومات كافية عن تفاصيل طفولة سوزان تميم، ولكننا نبني هذه الاستنتاجات على استبعادها لأبيها من الميراث رغم أنه وريث شرعي لها وعلى تأكيدها بتحويل أملاكها إلى أمها وأخيها.

والمقربين من سوزان تميم ذكروا أنها كانت متقلبة المزاج فأحيانا تبدو هادئة، وفجأة تبدأ بالصراخ. وأنها كانت تبحث عمن يفهمها ويحتويها ويرعاها، ولكنها كانت تقع دائما في يد من يستغلها، فتحاول الإفلات من قبضته وربما تدفع لذلك ثمنا هائلا من أمنها وراحتها، وربما تسبق هي إلى استغلاله قبل أن يتمكن منها.

وهناك جانب آخر مختلف ومهم من شخصية سوزان يظهر في وصيتها، وهو تلك المساحة من التدين والتي انعكست في استخدامها لعبارات دينية حقيقية نعيد قراءتها وتأملها من بين سطور وصيتها: "بسم الله الرحمن الرحيم.. إنا لله وإنا إليه راجعون........"، "وأوصيكم بأن تزكوا وتحسنوا وتطعموا وتكفلوا الأيتام والمساكين، وتتبعوا صراط (كما وردت في النص) الله المستقيم، وتسامحوني إن أسأت إليكم، وتدعو لي بالرحمة، وأن تعتمروا لي وتحجوا عني إذا تيسر لكم، وأن تكرموني في وفاتي".
"أوصيك يا أخي بأمك، وبصلة رحمك، وبالرحمة والعفو عند المقدرة، والسماح والتسامح، والبر بوالديك، أحبكم وادعوا لكم بالرحمة فادعوا لي بها."
"اتحدوا ولا تفرقوا على بركة الله وسنة رسوله، والسلام عليكم وعلينا، وعلى محمد وآله وصحبه.."

وقد يظن القارئ أن ثمة تناقض بين عناصر الشخصية، إذ كيف تنسجم هذه اللغة الدينية القوية مع العلاقات المتعددة والزيجات المتكررة والفاشلة، وعمليات الاستغلال المتبادلة مع أزواجها وعشاقها، وكل ما ذكرناه من مشكلات وإشكاليات في علاقتها بالرجال، تلك التي أحاطتها بالغضب والرغبة في الانتقام وشعورها بخطر الموت، وكتابتها للوصية؟؟. وقد يكون ذلك تناقضا فعلا، ولا يسلم البشر من التناقض، ولكن الأصح أنه جوانب وسمات متعددة في الشخصية تستمد مرجعيتها من أحداث الطفولة وطريقة التربية المتعددة أحيانا والمتناقضة في أحيان أخرى، خاصة وأن سوزان كانت صغيرة السن نسبيا، ولم تصل بعد إلى صيغ توافقية للحياة، فهي تعبر في لقطات مختلفة عن جوانب ومستويات متصارعة ومتناقضة، وربما كانت هذه هي أزمتها التي تعيشها بين احتياجات نفسية وتطلعات اجتماعية مع كونها تحمل في طيات نفسها كل تلك المفردات الدينية التي ظهرت في وصيتها. وهذا يجعلنا نراجع كثيرا حكمنا على البشر فهم ليسوا أحادي البعد، وليسوا دائما شياطين كما أنهم ليسوا دائما ملائكة، لذلك نترك حسابهم على الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونسأل الله المغفرة والرحمة لكل من طلبها وسعى إليها (أقصد المغفرة والرحمة) صادقا ومصدقا بها قلبه، ونستعيذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يعيننا على أنفسنا الأمارة بالسوء، ويحسن خاتمتنا.

واقرأ أيضًا:
جغرافية الجسد... بين الفورسيزونيين والدويقيين



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 27/09/2008