إغلاق
 

Bookmark and Share

سيكولوجية النصب والاحتيال1 ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/02/2009


آخر عملية نصب على المصريين، والتي جرت تفاصيلها في مصر ودبي، قامت بها شركة استثمارية (أو شركة أوراق مالية) وراح ضحيتها حتى الآن 68 مصري في داخل مصر و13 مصري في دبي (هؤلاء فقط من أعلنوا عن أنفسهم، وربما غيرهم كثر يخشون الإعلان لأسباب بعضها معلوم وأكثرها مجهول)، وهم جميعاً ينتمون إلى طبقات اجتماعية عليا؛ فمنهم رجال أعمال ورياضيين وإداريين وفنانين بل ووزراء أيضاً. وقد نجح صاحب الشركة في جمع ملايين الدولارات منهم بحجة استثمارها، وأغراهم في البداية بفوائد عالية بلغت في بعض الأحيان 40-50% في السنة، ووضع على رأس مجلس الإدارة اسم أحد الوزراء، ثم فجأة أعلن صاحب الشركة من جانب واحد أن الرصيد أصبح صفراً! فهاج وماج المودعون ورفعوا القضايا، ونشطت وسائل الإعلام تستطلع الأمر وتستضيف المودعين ومحاميهم ليصفوا صاحب الشركة بأنه نصّاب ومحتال وانتهازي!

ثم تستضيف مدافعين عن صاحب الشركة (لزوم الموضوعية أو حرية الرد، أو قل لزوم تسخين المعركة الإعلامية) ليقولوا بأن المودعين حصلوا على فوائد كثيرة تفوق أرصدتهم التي أودعوها وأنهم طمّاعون أكثر من اللازم، وأن ما حدث هو نتيجة طبيعية لانهيارات البورصة العالمية، ثم يقف المحللون الاقتصاديون ليقولوا بأنه استحالة في عالم البورصة أن يصل الرصيد صفراً! إذ أنه لا يمكن أن تصبح قيمة السهم صفراً في أي حال من الأحوال.

المشكلة ليست في أن شخصاً خدع آخرين أو نصب عليهم أو استغلهم، فهذا يمكن أن يحدث في أي مجتمع، ولكن المشكلة هي في تكرار تلك الحوادث في المجتمع المصري بصورة ملفتة للنظر( نصّاب مدينة نصر وهو ابن أحد الوزراء، وقبله شركات توظيف الأموال، وقبلهم وبعدهم عدد كبير من رجال الأعمال نصبوا على البنوك وأخذوا منها المليارات وهربوا)، وبشكل يدعو المتخصصين في علم النفس والاجتماع لأن يدرسوا هذه الظاهرة من كافة جوانبها وأطرافها لمعرفة أسبابها وجذورها ومظاهرها وطرق مواجهتها (إن كان ثمة نية وإرادة للمواجهة)، وهذا ما سنحاوله في هذه الدراسة، على أن نعتبرها بداية لمحاولات أكثر تفصيلاً ومنهجية، وسنقوم بتأمل عناصر المشكلة كل على حدة، ثم نرى كيف تتفاعل هذه العناصر لتنشئ حدث "النصب المتكرر" على أفراد الشعب المصري، وهل القابلية للنصب لدى الشعب المصري متصلة بقابليات أخرى مثل: القابلية للاستعمار، والقابلية للاستحمار، والقابلية للاستبداد، والقابلية للقهر؟؟!! تلك القابليات التي يشاركنا فيها إخوتنا العرب من المحيط إلى الخليج وجعلتنا مستباحين لكل مستعمر ومستحمر ومستبد وقاهر.

في البداية نتساءل: ما الذي يجعل حوادث النصب كثيرة ومتكررة بهذا الشكل في المجتمع المصري؟ ألدينا عدد أكبر من النصّابين؟ أم لدينا عدد أكبر من السذج والغافلين والمغفلين؟ أم لدينا بيئة محرضة على النصب (كما هي محرضة على الغش في الامتحانات وتزوير الانتخابات والرشوة والفساد والاستبداد والتحرش، وكلها آفات شديدة الصلة ببعضها ولكي نتعرف على الإجابة أو نجد تفسيراً، سنحاول الدخول إلى المعنى النفسي للمال والتملك، ثم نعرج إلى أركان جريمة النصب لنرى العوامل التي تساعد على إتمام الجريمة في أركانها الثلاثة: النصّاب، والمنصوب عليه، والبيئة التي احتضنت جريمة النصب.

سيكولوجية المال والتملك
إن دافع التملك هو من أقوى الدوافع النفسية لدى الإنسان، وقد لا يحتاج الأمر منا لإقامة دليل، حيث يبدو وكأنه بديهية من بديهيات الحياة، إذ يكفي فقط النظر بالعين المجردة إلى ما يدور بين الناس من صراعات لنكتشف أنها صراعات حول التملك (حتى وان أخذت أسماءً أو شعاراتٍ أخرى). والتملك متصل باكتساب الأشياء المادية، بجانب القوة والسيطرة، واكتساب الشعور بالأمن، واكتساب الحب، واكتساب تقدير أعلى للذات، وتمدد الذات في الزمان والمكان.

وقد عرف إبليس قوة دافع التملك وما يتصل به من رغبة عارمة في البقاء والخلود، لذلك حين أراد أن يغوي سيدنا آدم عليه السلام للأكل من الشجرة المحرمة كان هذا مدخله، وهذا يجعلنا ننظر لإبليس على أنه عالم بخبايا النفس ومواطن ضعفها قبل علماء النفس بكثير كما سنرى في الآيات التالية:
"فأزلهما الشيطان عنها، فاخرجهما مما كانا فيه".

وكان هذا أول درس في الغواية وأول تجربة في الوسوسة نجح فيها إبليس، حيث استغل بعض خصائص هذا المخلوق الجديد (الإنسان) ومنها ولعه بالممنوع؛ فهذا الإنسان كلما منعت عنه شيئاً زاد فضوله نحوه وزادت رغبته فيه، وربما عاف كل ما هو مباح له وانشغل بالشيء الوحيد الممنوع! ومن هذه الخصائص أيضاً رغبته في الخلود وامتداد الملك؛ تلك الرغبة التي لعب عليها إبليس: "ألا أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى".

ويبدو أن هذه الخصائص الثلاث في الإنسان (الولع بالممنوع، والرغبة في الخلود، والرغبة في التملك) ستكون ثغرات يخترق من خلالها إبليس كيان هذا المخلوق الجديد كلما أراد إغواءه، لكون هذه الخصائص عميقة الجذور في بنائه النفسي، ولكون نجاح إبليس الأول في الإغواء كان من خلالها. ويبدو أيضاً أن هذه الخصائص من القوة في النفس البشرية بحيث يمكن أن ينسى معها الإنسان العهد حتى وإن كان قريباً... وإن كان ذلك العهد مع الله، وهذا ما حدث مع آدم عليه السلام، ويحدث بشكل متكرر مع ذريته رغم كل التحذيرات، ورغم تجارب الإغواء والسقوط المتكررة.

وجاءت الأديات تترى بعد ذلك لتعالج نقاط الضعف هذه في النفس البشرية، من خلال الحث على الإنفاق في الخير (الصدقة والزكاة)، وتطهير النفس من الجشع والطمع والحرص والبخل (وكلها آفات نفسية خطيرة)، والبحث عن الخلود والبقاء في الأعمال الصالحة.

0 رؤية التحليل النفسي
يرى التحليليون أن كنز المال سمة مرتبطة بالتثبيت عند المرحلة الشرجية، وهو مكافئ لإمساك الطفل عن إخراج برازه ومعاندة الأم في ذلك، ثم شعور الطفل بقدرته على التحكم والسيطرة والاستمتاع بذلك! وهذا يفسر لنا الرغبة في جمع المال وكنزه بشكل شره لدى بعض الناس. وهناك بعض التعبيرات التي ربما تشير إلى الارتباط بين المال والبراز، حين نقول مثلاً: "أموال قذرة"، "غسيل أموال"...

والمال من ناحية أخرى هو رمز للقوة والسيطرة والقدرة، وهو من الناحية التحليلية يكون مكافئاً للقوة الجنسية وللقضيب؛ فالذي يمتلك المال يشعر بقدرة كبيرة ونشوة هائلة، ويشعر أنه جدير بكل النساء وبأجمل النساء، وربما يفسر لنا هذا ولع رجال الأعمال بالعلاقة مع نجمات الفن والغناء وإغداق المال عليهن، وحين تخون إحداهن أو تبتعد عن رجل الأعمال الذي اشتراها بماله واعتبرها من مقتنياته يقوم بقتلها، فقد طعنته في رجولته، وأثبتت له أنه ليس الأقدر ولا الأقوى (راجع قتل المطربة ذكرى والمطربة سوزان تميم). وانتزاع المال من الشخص يكون أشبه بانتزاع قدرته الجنسية أو خصائه، أما إذا انتزع هو المال من الآخرين -كما هو الحال في النصابين والمحتالين- فإنه يشعر بالغلبة وبأنه سلب الآخرين قوتهم وقام بخصائهم، وهذا يعطي للنصّاب والانتهازي لذة لا يجدها في الحصول على المال بشكل طبيعي من الجهد والعمل والمثابرة. وهناك ملاحظة أن رجال الأعمال الذين يفقدون قدرتهم الجنسية بسبب المرض أو الشيخوخة أو الانشغال الزائد يتوحشون في جمع المال، وكأنهم يعوضون هذه بتلك، ويقومون بجمع الفتيات الجميلات بجوارهم (رغم عدم قدرتهم على التعامل معهن على مستويات أعمق)، وكأنهم يقولون بلسان الحال نحن ما زلنا قادرين على جذب النساء وجمعهن.

وقد يكون جمع المال بحثاً عن الأمان لدى من يفتقدون الأمان، خاصة من عاشوا ظروفاً أسرية صعبة في طفولتهم المبكرة، فهؤلاء فشلوا في أن تكون لهم علاقة بأم وأسرة تعطيهم الإحساس بالأمان، وعاشوا يتوقون إليه دون جدوى.

والشراهة في جمع المال قد تكون مدفوعة بحرمان شديد من الاحتياجات الأساسية للشخص إبان فترة طفولته، وقد يحدث العكس لدى أطفال مدللين ومشبعيون إلى حد التخمة، تعودوا أن يأخذوا من الآخرين كل شيء ولا يعطوا أي شيء، والأخذ عندهم دليل على الحب من الآخرين.

والمال قد يكون مكافئاً للحب؛ فالحصول عليه يعوض حرمان من الحب والتقدير، وإنفاقه قد يكون بحثاً عن الحب أو شراء الحب، فكثيرون ممن يندفعون نحو تحصيل المال بشكل شره لديهم فقدان للحب في حياتهم ويشعرون أن الناس تلتف حولهم فقط لامتلاكهم للمال فتزيد شراهتهم للمال والتي هي بالأصل شراهة للحب المفقود.

والمال قد يكون مدخلاً للسلطة وما تمنحه من مزايا خاصة في المجتمعات التي تتزاوج فيها السلطة مع الثروة، فيجد الشخص أنه جمع كل مصادر القوة والسيطرة في يده.
وبما أن الحاجة للشبع وللقدرة والقوة والأمان والحب كلها احتياجات نفسية عميقة، وهي احتياجات محبطة وغير مشبعة لدى المتطلعين بشغف إلى المال، لذلك نتوقع أن يستمر سعيهم الشره نحو المال طول الوقت، فهم لن يشبعوا لأن المسألة ليست احتياجات مالية تهدأ بالحصول على قصر وسيارة ورصيد في البنك، وإنما المسألة مرتبطة باحتياجات نفسية تم استبدالها بالمال، وهذه الاحتياجات النفسية احتياجات ملحة جداً ولا تهدأ مع محاولات الإشباع المتكررة.

0 رؤية المدرسة السلوكية
يرى السلوكيون أن امتلاك المال يصاحبه القدرة على الشراء والقدرة على الاقتناء كل ما هو مرغوب، ويصاحبه التفاف الناس حول صاحب المال وما يصاحب كل ذلك من الحصول على ملذات كثيرة، كل هذا يؤدي إلى حالة من الارتباط الشرطي بين امتلاك المال وحصول المسرات والملذات، وبهذا يتعلق الإنسان بالمال تعلقاً شديداً، ويصبح فقده للمال شيئاً مؤلماً جداًَ لأنه سيرتبط بفقد كل الملذات والمسرات، ولهذا لا نستغرب حين نرى رجل أعمال يصاب بأزمة قلبية ويموت حين يخسر أمواله في البورصة، وربما يقتل نفسه أو يقتل أحب الناس إليه (راجع حوادث الانتحار، وحوادث قتل الأبناء والزوجات في الشهور الأخيرة مع انهيار البورصة)، فالحياة بدون المال عنده لا تساوي شيئاً، أي أن الحياة هنا اختزلت في المال.

كما أن التعاملات المالية فيها قدر من المخاطرة (خاصة تعاملات البورصة)، وهذه المخاطرة مع ما يتبعها من نتائج تكون مصحوبة بقدر عال من المشاعر سواءً الإيجابية أو السلبية، وهذا التماوج في المشاعر صعوداً وهبوطاً يكون مطلوباً لدى بعض الناس وممتعاً لهم، وهو أشبه بسلوك المقامرة. 
                                                             
وللحديث بقية...........
واقرأ أيضًا:
حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية/ التحليل النفسي لشخصية صدام حسين/ أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي  / قلق الامتحانات /  فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية  / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه  / الطفل البَك‍اء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي / سعاد حسنى والجرح النرجسي
البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد / الحوار وقاية من العنف  / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism)  / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر  / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) الشخبطة السياسية  / الزوج المسافر(4)  / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / قراءة في شخصية زويل(2) / سيكولوجية الرجل // هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)  / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / التحول الجنسي بين الطب والدين / شيزوفرينيا / الفهلوة اللغوية العصبية / من المحلة إلى مارينا وبالعكس / الطلاق المتحضر (تسريح بإحسان) / من أين تأتي الأحلام؟ / جغرافية الجسد... بين الفورسيزونيين والدويقيين / تفسيرالأحلام بين العلم والخرافة / التحليل النفسي لوصية سوزان تميم / السنة والشيعة.. فتنة السياسة أم فتنة العقيدة؟ / قراءة نقدية لمشروع قانون الصحة النفسية الجديد / الفلوس والنفوس / مشاعر أرملة عصرية / سيكولوجية المرأة / جمال حمدان: المحنة... العزلة... العبقرية / إعادة القراءة على كعب الحذاء / الاحتباس النفسي / لماذا يقتل المصريون بوحشية؟.



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/02/2009