لا أدرك
دكتور وائل أنا لم أستطع الرد على استشاراتك لكنني حاولت أن أقنع نفسي أن هناك مرض يدعى الوسواس القهري وليس من الشيطان ولا من النفس لكنني لا أستطيع فأنا أربط الوسواس القهري بوسوسة النفس بأنه يأتي عند الطاعات ولا يمكن أن يكون الوسواس القهري أن يتدخل بانتقاص الوضوء مثلا ويوهمني أنه هناك صوت خرج مني أيا كان وقرأت كتابك وكتب أخرى عن هذا المرض لكن لا جدوى. وأنت دكتور...
أنا لست طالبة ولا دكتورة تعلمت علم نفس ودرست طب نفسي أو طب لكنني رأيت أغلبية الناس ينظرون أن الوسواس القهري أصله من الشيطان...
ولا أعلم كيف من الممكن أن أغير فكرتي عن هذا المرض
4/6/2019
رد المستشار
أهلًا وسهلًا بك وبسؤالك المهم يا بنيتي
قبل أن أبدأ أي كلمة سأتفق أنا وأنت على أن نضع عبارة (هذا ما عليه أغلب الناس) جانبًا، العبرة ليست بما عليه غالب الناس، وإنما العبرة بالعلم، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع عن دليل.
نعم، يفيد الاحتجاج بما عليه الناس عندما يكون مستندًا إلى علم، ويقوم على دليل صحيح، والناس يتبعون في ذلك كبار العلماء، أما غير هذا فلا يهمنا ما عليه الناس، وإنما تهمنا الحقيقة.
أما أن الوسواس من الشيطان فهذا مما لا نشك فيه، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة رد الوسواس إليه، ومن تلك الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ» [البخاري: بدء الخلق/باب صفة إبليس وجنوده، مسلم: الإيمان/باب بيان الوسوسة في الإيمان].
وما رواه مسلم: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاتي وَقِرَاءَتِي، يَلْبِسُهَا عَلَيَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزِبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثًا». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.[مسلم: السلام/ باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة].
وأما أن الوسواس مرض، فيؤكده وجود أعراض متشابهة عند جميع الموسوسين على اختلاف موضوع وسواسهم، وأنه يتحسن باستخدام العقاقير، والشيطان لا يزول بتناول دواء كما تعلمين. وهذا ثابت بالبحث والملاحظة والتجربة، وهي طرق علمية يقبلها الدين ويقبل نتائجها الثابتة.
بقي الآن أن نسأل أنفسنا: هل من تعارض بين ما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وبين ما أثبتته الدراسات التجريبية؟
التعارض هنا غير وارد، لأن كل تعليل للوسواس يتبع عالمًا غير عالم الثاني، فما ذكره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو سبب الوسواس من عالم الغيب، وهو وسوسة الشيطان. وما اكتشفته الدراسات الكثيرة أن اختلالًا ما في الناقلات العصبية يكون عند مرضى الوسواس، ويشتركون جميعًا بسبب ذلك في أعراض معينة موحدة.
فالفكرة من الشيطان، والأعراض الجسدية/النفسية مرض، والخافي عنا هنا ما علاقة الشيطان بالمرض؟!! وطالما هناك طرف غيبي في الموضوع، فلابد لنا من خبر غيبي يحل المشكلة، وإلا فكل ما نقوله مجرد احتمالات...
قد تكون الفكرة بحد ذاتها شيطانية، إذ نرى مثلًا من يشك في صلاته من الموسوسين وغيرهم، ثم يأتي دور الخلل العصبي في إحداث الارتباك والخوف من الفكرة والضعف عن مقاومتها مقارنة بالأصحاء الذين يمكنهم التخلص من الفكرة فورًا
وقد تكون في البداية شيطانية لكن اتباعها أحدث ضررًا ما في الجسم يحتاج إصلاحه إلى دواء، مثل من يتبع الشيطان فيدمن المخدرات، فيتضرر جسمه ويحتاج إلى رعاية طبية للتخلص من الإدمان...
وقد يكون المرض بحد ذاته مركبًا من أمرين، بحيث لو غاب واحد منهما لم يكن هناك مرض.
هناك عدة احتمالات لا يمكننا الجزم بواحد منها، إذ لا يمكن معرفتها تجريبيًا، ولا يوجد من يخبرنا عن حقيقتها في علم الغيب.
وليس على الإنسان في هذه الحالة إلا أن يجمع بين الدواء الغيبي والمادي حتى يداوي نفسه من جميع الجوانب، فيستعيذ بالله، ويقرأ ما ورد في الوسوسة من رقًى وآيات، ويذهب إلى المختص الذي يداوي له أعراضه الجسدية/النفسية، ويعطيه بعض النصائح والتدريبات للتخلص من الوسوسة وعدم الاستماع لما يلقيه الشيطان، ليس المختص النفسي شيخًا، لكن العلاج المعرفي السلوكي الذي أثبت العلم جدارته في علاج الوسوسة مؤخرًا، هو نفس ما نصح به النبي صلى الله عليه وسلم الموسوسين في زمانه قبل قرون، وسبحان من أوحى إليه!!
ولا نريد منك تغيير قناعتك ونظرة الناس إلى الوسواس، ولكن نريد تعديلًا بسيطًا عليها: فرغم أن الوسواس من الشيطان فعلًا، إلا أن له جانبًا ماديًا، وخللًا عضويًا يحتاج إلى طبيب ليداويه. لا ننكر هذا الجانب ولا هذا، فكل منهما ثبت عندنا عن دليل.
وإذا كنتِ قد قرأتِ كتب ومقالات الدكتور وائل القيمة، فيمكنك أيضًا الاطلاع على مقالات منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري، ومقالين بعنوان: أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا.
وأرجو أن أكون بذلك أزلت حيرتك، أو بعضًا منها، أزال الله عنا وعنك كل لَبْس وحيرة.
شكرًا لك مرة أخرى وأتركك في رعاية الله.