إغلاق
 

Bookmark and Share

حركية الناس بين النت والشارع ::

الكاتب: أ.د‏.‏ يحيي الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/04/2005

 

كنت هناك في باريس عام‏1969‏ حين اتخذ أو اقترح ديجول إجراء لا أذكره فقامت المظاهرات في الحي اللاتيني‏,‏ المعروف بشبابه وفنونه ويساريته وإبداعه‏,‏ تعلن اعتراضها‏,‏ وإذا بديجول يظهر علي شاشة التليفزيون التي كادت لا تتسع لطول قامته‏,‏ ويدعو من يؤيده إلى التجمع في ميدان الإتوال‏,‏ وفي خلال ساعات‏,‏ يندفع الناس إلى هناك فتقوم طائرات الهليكوبتر بتصوير وبث كل من المظاهرات المؤيدة حول الإتوال‏,‏ ثم المظاهرات المتجمعة في الحي اللاتيني بالتناوب‏,‏ فترجح كفة ديجول معلنة نوعا جديدا من الديمقراطية المباشرة‏,‏ فيستمر ديجول بضعة أشهر‏,‏ ثم يستقيل بعد حركة في الاتجاه العكسي‏.‏

ببساطة‏:‏ إن النظام الأصلح هو النظام الأقدر على تصحيح نفسه‏,‏ وليس النظام الحسن بما هو كذلك‏,‏ إن ميزة الحضارة الغربية‏ (‏الشمالية‏)‏ ليس في أنها أرقى الحضارات وأصحها أو أنبلها‏,‏ وإنما في أنها تملك في عمق تكوينها آلية نقد فاعلة قد تصحح مسارها‏,‏ أغلب الذين ينقدون الديمقراطية الغربية ويبحثون عن مستوى أقدر وأكثر فاعلية وعدلا واستقلالا عن ألعاب السلطة وجرائم المافيا‏,‏ يخرجون من عباءة نفس الحضارة التي يقومون بتعريتها ومراجعتها دون أن يتخلوا عنها‏,‏ لا يوجد مفكر عاقل عبر العالم‏,‏ بالذات في العالم الغربي‏,‏ لا يعرف عبث وزيف وهشاشة ما يسمي الديمقراطية بالإنابة بدائل هذا النوع من الديمقراطية ليست بالقطع الحكم الشمولي حتى لو كان على رأسه من يسمي المستبد العادل‏.‏

يطرح مفكرو المعلوماتية والشفافية والتواصلية بدائل عملية واقعية لأنواع أخرى من تنظيم المشاركة في اتخاذ القرار‏,‏ ومراجعته‏,‏ هو نظام أقرب إلى الديمقراطية المباشرة إلى مستويات متصاعدة‏,‏ بحيث يسمح بعد إزاحة المركزية الجاثمة المشبوهة بأن يقوم كل أفراد مجموعة نوعية بالمشاركة في اتخاذ قرارات تخصها في مسألة بذاتها‏,‏ وفي نفس الوقت أن تشارك المجموعة ككل غيرها من مجموعات أعلى وأعقد في شبكية نشطة‏,‏ مرنة وعادلة ومبدعة‏,‏ متصاعدة ذاهبة راجعة طول الوقت ‏(وهذا ما تسمح به التكنولوجيا الأحدث‏).‏

على مستوى الفعل السياسي العام لم ينتظر الناس‏,‏ عامة الناس‏,‏ فراحوا يمارسون ديمقراطيات أخرى صغيرة متباعدة ضامة في آن من أول قياسات الرأي العام حتى مواقع النت المتكاثرة‏,‏ بسلبياتها وإيجابياتها‏,‏ إلى أن ظهرت مؤخرا ديمقراطية واعدة منذرة معا‏,‏ وملونة ‏( برتقالية‏,‏ قرنفلية‏..‏ الخ‏).‏ ظهرت لتمارس ضغطا حقيقيا قادرا على تصحيح سريع لانحراف أكيد‏,‏ إن ما حدث في أوكرانيا ثم في قرغيزستان ليس بعيدا عما حدث في لبنان في الاتجاهين الواحد تلو الآخر‏,‏ ثم سرعان ما انتشرت العدوى وراحت موجات البشر تملأ الشوارع وتتزايد تحت رعاية الفضائيات‏.‏ صحيح أن الخوف من استغلال اندفاعات القطيع قائم حيث لا يمكن التيقن ممن وراء اللعب بغرائز المجاميع بشكل علني أو خفي‏,‏ لكنه صحيح أيضا أن المحاولات مستمرة وأن التصحيح ممكن فقط بضمان ألا تفرض أية سلطة مركزية وصايتها علي الآن أو المستقبل بما يحول دون النقد المتجدد‏,‏ فالتغيير الحتمي باستمرار‏.‏

للأمانة‏,‏ أنا لست من أنصار الديمقراطية بصورتها المعروضة من واقع معرفتي بألعاب شركات الأدوية العملاقة وتربيطاتها مع مجالس إدارة الجمعيات ومجالس تحرير المجلات العلمية لحساب أسواقهم ومنتجاتهم على حساب المرضي‏,‏ حتى صار كثير من العلماء والأطباء أشبه بوكلاء الشركات أو مندوبي المبيعات‏ (‏دون أن يدروا غالبا‏)‏ فما بالك في السياسة والمرشحون يشترون أصوات الناس الانتخابية بوعود وهمية بشاليهات في القرى السياحية‏,‏ أو قصور في الجنة‏.‏

برغم كل ذلك‏,‏ فليس أمامي إلا أن أدفع ثمن هذه الديمقراطية الناقصة المشبوهة متألما مثابرا‏,‏ حتى نجد معا ما يمكن أن نحقق به ما يضمن للإنسان أن يستمر نوعا متميزا بالوعي والإبداع‏.‏

بقلم‏:‏ د‏.‏ يحيي الرخاوي
المصدر: جريدة الأهرام
العدد: 43218
الاثنين ‏25 من صفر 1426 هـ-_4
ابريل 2005



الكاتب: أ.د‏.‏ يحيي الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/04/2005