إغلاق
 

Bookmark and Share

رسائل من الجنة ...( 4) ::

الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/06/2004


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
ها أنا ذا أطل برأسي عليكم من جديد بعد أن أطلت الغيبة, اعذروني يا إخوتي, فقد أخذني الحديث الشيق مع أبي الشيخ الجليل.. فلم أستطع تركه إلا بعد أن صرفني هو, إذ كان متعبا من حياته في الدنيا وأراد أن يرتاح قليلا ولكنني فاجأته برغبتي في الحديث معه والتعرف عليه أكثر وأكثر وعن قرب.. ويا للطفه وكرمه ويا لفيض حنانه الغامر.. لم يردني ولم يصرفني إلا بعد أن أشبع رغبتي العارمة في الحديث معه, مع أنه كان كما قلت لكم متعبا جدا..

لقد احتمل "غلظتي" عليه بكل ترحيب وبشاشة.. لم أكن أتوقع أن أخلاقه الكريمة العالية بهذه الدرجة..
هل تحبون أن تعرفوا عن ماذا كان حديثنا؟؟

بل أظنكم تحبون أن تعرفوا أولاً من هو هذا "الشيخ الجليل"؟؟
إنه الشيخ الذي أقام الدنيا وأقعدها مع أنه لم يقم ولم يقعد لأكثر من خمسين سنة..

لم أجد في حياتي رمزا للقوة كضعفه, ولا معنى للحركة كعجزه!!

أظنكم عرفتم عمن أتكلم؟
إنه شيخ المجاهدين: أبي شيخ المجاهدين: أحمد يس

جذبتني شخصيته منذ أن قدم إلى الجنة, لن تصدقوا أن أول ما فعله حين دخلها أنه أخذ يحمل أطفال الجنة ويلاعبهم.. لم تفارق بسمته المطمئنة وجهه أبدا..

أحسست كما لو كان طفلا في لعبه ومرحه, ولكنه كان عملاقا شامخا في صموده وجهاده.
اقتربت منه قليلا, وسلمت عليه, فقلت له وأنا أقبل يديه: هنيئا لك الشهادة يا والدي الكريم.
تمعن قليلا في وجهي, وقال لي: وجهك ليس غريبا علي ّ, هل اجتمعنا يوما ما من أيام الدنيا؟؟

أجبته وأنا أضحك: لا بل لقد جمعتنا أيام الآخرة فقط, أما في الدنيا فلم نر بعضنا إلا من خلال الصور.. نعم أنت تعرفني يا والدي.. رأيتني في شريط الفيديو الذي سجلته قبل استشهادي.. أنا ريم.. ريم الرياشي...

- ريم, أنت الأم الصغيرة ريم! أهلا يا ابنتي.. كم كنت سعيدا بقرارك الذي اتخذته للاستشهاد.. أحسست أن الأمل في أن تعود فلسطين قد بدأ يكبر لأن الناس قد بدؤوا يعون تماما قضيتهم فيبذلون لها كل غالٍ ونفيس, فها هي أم شابة في مقتبل عمرها تترك الدنيا بكل ما فيها, وتترك فلذات أكبادها لتنصر قضية وطنها ولتعلي كلمة ربها عالية.. موقفك يا ابنتي الغالية عزز الثقة في قلبي بأن نصر الله بات قريبا. قريبا جدا.. أقرب مما نتخيل..

-
لقد أخجلني إطراؤك يا والدي.. أنا لم أفعل أكثر مما أملاه علي ضميري وواجبي نحو وطني..

-
استشهادية, ومتواضعة أيضا ؟؟

وربت على كتفي بيده الحانية.. يا الله.. هل أودعت يا ربي كل الرحمة التي أنزلتها إلى الأرض في قلب هذا الشيخ الجليل؟؟
لم أحس بمثل هذه "الحنية" من قبل, مع أن أبي وأمي وزوجي أغرقوني بالحنان!! لكن لحنان رابطة الدين طعم آخر.. أحلى.. وأعمق..

قلت له: أعلم يا والدي أنك متعب من رحلة الدنيا الشاقة, والحمد لله أن وصلت إلى هنا سالما, بل لقد وصلت إلينا وأنت تركب في الدرجة الممتازة!!

هذه الدرجة متعبة قليلا.. ولكنها ممتعة جدا جدا جدا.. أنا وأنت يا أبي نعلم كم هي ممتعة.. والله يا أبت لوددت أن لي مئة نفس ومئة جسد, أفجرها جميعا في سبيل الله.

- لله درك يا صغيرتي.. والله إن لذة الشهادة في سبيل الله لمن أعظم اللذائذ.. بل ما أروع موكب التكريم والاستقبال الذي يليها.. ليت الله تعالى يسمح لنا بالعودة إلى الدنيا, على الأقل لنخبر أهالينا بما رأيناه من كرامة أعدّها الله لنا..

لقد حضرت يا ابنتي مواكب الأمراء والملوك, ورأيت فخامتها وبهاءها.. والله إنها لا تصلح أن تكون مواكب حتى لخدم الجنة!! (أولا يرضى بها حتى خدم الجنة)

هييييييييه.. ألا ليت قومي يعلمون.. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين..

-
سيعلمون يا أبي.. سيعلمون حتى دون أن تعود أنت أو أعود أنا إلى الدنيا, فقد كتب رب العزة على نفسه أن من خرج من الدنيا لا يعود إليها..

الله تعالى يترك للناس منارات تضيء لهم عتمة دروب الحياة, فما بالك يا أبت بدرب الجهاد وهو أصعب درب على الإطلاق.. سيبلغهم الله تعالى بطريقة أو بأخرى بما نحن فيه يا والدي.. لا تقلق..

سأتركك الآن لترتاح قليلا, على أن تعدني أنني سأجري معك لقاء مطولا تجيبني فيه عن كل أسئلتي.. فمنذ أن كنت في الدنيا وأنا أتمنى أن ألقاك وأتعرف عيك.. لقد بهرتني يا والدي.. بهرتني بكل ما فيك.. لن أطيل عليك.. سأدعك مع حورياتك قليلا.. فها هنّ ينظرن إلي شزرا.. الحق معهن.. لقد أخذتك منهن وقد اشتقن لك طويلا!!

ذهب أبي إلى قصره مع مجموعة كبيرة من الحوريات.. لم أر في عمري نساءً بمثل جمالهن, ولا حتى نجمات هوليوود.. بصراحة: لقد تحركت الغيرة في قلبي, وخشيت على زياد حين يأتي إلى الجنة أن تسلب الحوريات لبه وينساني!!

لكنني تذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن نساء الدنيا اللواتي يدخلن الجنة سيكنّ أجمل بألف ألف مرة من الحوريات, بل إن هؤلاء الحوريات سيكنّ خادمات عند نساء الدنيا.. وأن الرجل حين يجلس إلى امرأته في الجنة (التي كانت امرأته في الدنيا) فإنه يذهل عن الجنة بما فيها..!

هنا انطفأت شعلة الغيرة في قلبي.. وأدركت كم ربي جل وعلا رحيم ودود.. لن تكون حوريات الرجل مصدر تنكيد على زوجته في الجنة.. فلا مكان في الجنة للتعاسة والألم.. آه ما أحلاك أيتها الجنة.. كم أتمنى أن تأتوا يا إخوتي إليها سريعا جدا.. ولكن حاولوا أن تحجزوا بين ركاب الدرجة الأولى, لأن الاستقبال عندها سيكون فخما جدا.. بل سيكون بالفعل: "أسطوريا"..!!

ما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى خرج شيخنا الجليل من قصره يتبختر في ثيابه الأنيقة, وما أن رآني جالسة على ضفة النهر في منطقة ضحلة المياه ومدلّية رجلي فيه, حتى جاء وجلس بجواري ودلّى هو أيضا رجليه في ماء هذا النهر.

أخذت أركل اللآلئ وأحجار الماس التي تزين قاع هذه المياه, فتتدحرج ويتناثر منها بريق خلّاب..
بادرني والدي قائلا: ها يا ابنتي.. أنا مرتاح الآن ومستعد للإجابة عن كل ما تريدين.. ماذا تحبين أن تعرفي..؟؟ سلي ما بدا لك..

-
أنا محتارة فعلا بين كل هذا الكم الهائل من الأسئلة الذي أريد أن تجيبني عليه.. حسنا. باختصار . أريد أن أعرف كل شيء عنك: منذ ولادتك إلى أن وفدت علينا هنا في الجنة..

قهقه الشيخ عاليا, فلفت أنظار كل من كانوا حولنا إلينا, ثم قال:

إذا.. اسمعي.. ولن أتوقف حتى تطلبي أنت مني ذلك..

قل يا أبي.. كلّي آذان مصغية..

وُلدت في عام 1938م في قرية "الجورة" بالقرب من مدينة عسقلان، هذه المدينة التي تخضع للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 48 وحتى الآن، ثم هاجرت مع عائلتي إلى قطاع غزة كباقي الفلسطينيين الذين قطنوا تلك القرية.. التحقت بمدرسة الجورة الابتدائية حتى الصف الخامس، ولكن الحياة كانت قاسية جدا, لقد عانت أسرتي مرارة الفقر والجوع والحرمان، فاضطررت إلى ترك الدراسة لمدة عام (1949-1950) لأعيل أسرتي المكونة من 7 أفراد.. هل تدرين بماذا عملت؟؟

لقد عملت في أحد مطاعم الفول في غزة!! مهما كان نوع العمل فهو ليس عيبا يا ابنتي.. بل العار كل العار حين تقعدين عن العمل وأنت قادرة عليه.. ثم عاودت الدراسة مرة أخرى بعد أن تحسنت أوضاعنا المادية قليلا.. وعندما كنت في السادسة عشرة من عمري, وبالتحديد في عام 1952, سقطت فدقت عنقي وتكسرت فقرات فيها بينما كنت أقوم ببعض التمرينات الرياضية, وعلى إثر هذه السقطة أُصبت بالشلل..

كانت صدمة العجز الذي أصبحت فيه كبيرة جدا, حتى أنني كدت أن أيأس من الحياة لولا أن ثبتني ربي.. وأحيا الأمل والعزم بداخلي على مواصلة المسيرة التي ارتسمتها لحياتي..

لقد كنت أحلم باليوم الذي ستتحرر فيه فلسطين على يدي, وكنت أنوي أن أكون من المجاهدين الذين يعيدون لبلدي الحبيبة كبرياءها ويطهروا شرفها الملوث بدمائهم..

بعد أن أصبت بالشلل خلت أن حلمي هذا قد انتهى.. وأصيب بالشلل هو الآخر.. لكن رحمة ربي تلقفتني, وأخذت أقابل في حياتي نماذج من الناس سواء في الواقع أو في الكتب قد حولوا عاهاتهم إلى مصدر تفوق.. فقررت أن أكون مثلهم, وأحول عاهتي التي تشكل مصدر عذر كبير لي في ترك الجهاد, إلى مصدر تفوق في الجهاد.. فقررت أن أكمل طريق الجهاد, وأن أحقق حلمي, بل وأن أنال الشهادة مع أنني كسيح.. وعلى كرسي متحرك!

ولهذا فقد أصررت على إكمال دراستي حتى نلت الشهادة الثانوية العامة، ثم بدأت بمزاولة مهنة التدريس في الثقافة الإسلامية واللغة العربية، لأنشئ الأجيال على حب الدعوة والتضحية من أجل القضية الفلسطينية.. وقد حدثت لي حادثة طريفة عند التحاقي بعملي في التدريس, فقد نجحت في مسابقة انتقاء المدرسين, وعندما ذهبت لألتحق بعملي إذ بمدير المدرسة يرفض تسليمي العمل بحجة أنني غير صالح لأداء العمل..

حاولت أن أثنيه عن قراره وطلبت منه أن يجربني, لكنه رفض وقال: لا تحتاج أن أجربك, كرسيك المتحرك أكبر برهان على أنك لا تصلح للعمل.

فانصرفت وأنا أقول: حسبي الله ونعم الوكيل, ولكنني لم أحزن لأن المدير رفضني, بل لقد فوّضت أمري لله, فأنا أريد أن أعمل لهدفين: أن أجد دخلا أنفق منه على نفسي وعائلتي, وأن أنشئ جيلا يحمل همّ الدين وقضية بلاده في فؤاده.. وكلا الهدفين هما في سبيل الله, ولئن أوصد الله تعالى بابا للجهاد في سبيله فسيفتح بالتأكيد لي بابا آخر.. كنت خائفا فقط أن يكون ما حصل عقوبة من ربي لي, فعدت إلى بيتي, وصليت وناجيت ربي جل وعلا بدعاء النبي يوم الطائف: ربي إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي, ولكنني أريد أن أخدمك وأخدم دينك حتى ولو كنت على كرسي متحرك..

وبعد يومين أو ثلاثة إذا بي أفاجأ بأن المدير يطلبني لاستلام العمل في المدرسة, فحمدت الله تعالى أنه استعملني ولم يستبدلني, وذهبت إلى المدرسة, وشكرت المدير لأنه غير رأيه ووافق على توظيفي, فقال: لا تشكرني أنا, فأنا لا زلت عند رأيي من أنك لا تصلح للتدريس.. فقلت: إذا فكيف سمحت لي بأن ألتحق بوظيفتي؟؟

قال: لا تشكرني أنا.. فأنا لا زلت على رأيي من أنك لا تصلح للعمل.. لكن الأمر ليس بيدي, بل بيد الذي هو أعلى مني, عندما سألني: لماذا لم توظفه, قلت له: إنه لا يصلح فهو قعيد وعلى كرسي متحرك, فأجاب: قعيد ووصل إلى ما وصل إليه من التعليم!! هذا هو الذي يستحق أن يكون معلما.. أدعه ليلتحق بوظيفته!
أرأيت يا ابنتي كيف يهيئ ربك الأسباب, وكيف يخلق الفرج من قلب الضيق!

فرحت كثيرا بعملي الجديد والذي استطعت من خلاله أن أبث في نفوس الناشئة عدالة القضية, وأربيهم على حب الله وحب دينه وبذل كل غال ونفيس في سبيل مرضاته.. لكم كنت سعيدا بهذا العمل..

ولكن يا ابنتي, ما إن بدأت بتحقيق حلمي في التأثير في الناس وإشعال حماسهم لنصرة قضيتهم, حتى تم اعتقالي في عام 1965 من قبل قوى الأمن التي كانت تدير شؤون غزة آنذاك..

لقد أثّرت عملية الاعتقال هذه في نفسي كثيرا, لقد عمقت في نفسي كراهية الظلم، وأكدت لي فترة الاعتقال هذه أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية..

لكنني لم أيأس, ولم أحبط, بل لقد خرجت من المعتقل أقوى مما كنت عليه قبل دخولي, بل كنت كلي يقين بأن الله "متم نوره ولو كره الكافرون".

الأحداث يا ابنتي أحد أمرين: إما أن تقصم ظهر الإنسان وترديه قتيلا حتى ولو بقي على قيد الحياة, أو أن تقوّيه وتجعله يعود إلى الحياة بقوة أكبر وعزيمة أشد.. وطبيعة هذا الدين يا ابنتي أنه يجعل الأحداث التي تمر بأنصاره من النوع الثاني, من النوع الذي يقوّي ولا يقتل..

والحمد لله أن منّ عليّ بأن كنت في الخندق الثاني لآثار هذه الأحداث, ففي عام 1967 كنت من أشد الخطباء حماسة في دحض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث بدأت خطيبًا في مساجد غزة، وألهبت كلماتي مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كنت أخطب فيه لمقاومة المحتل، وعملت في نفس الوقت على جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين.

وبقيت على هذه الحال ردحا طويلا من الزمن.. على ما أذكر حتى منتصف الثمانينات.. حيث وجدت أنه لم يعد ما أقوم به من إذكاء روح المقاومة في الناس بالخطب والشعارات كافيا, بل لا بد أن تتخذ المقاومة منحىً آخر, لا بد أن ننتقل من المقاومة باللسان إلى المقاومة باليد خصوصا أن وعي الناس بالقضية قد وصل حدا مرضيا..

العدو يا ابنتي لا يفهم إلا بلغة القوة, وما أُخد بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة, وإذا ما رأوا منّا لينا ونزوعا إلى جانب السلام فسّروها ضعفا فأمعنوا في إيذائنا وقتلنا.. لقد كان الله تعالى يا ابنتي حكيما جدا حين أمرنا أن نعد لعدونا ما نستطيع من قوة, لنرهبه بها ولنردعه عن مهاجمتنا واستباحة مقدساتنا, ولكننا كنا نتعامى عن هذا الدرس الذي أخبرنا إياه ربنا, ولم نوقن به إلا بعد أن دفعنا ثمنا غاليا من أرواحنا وكرامتنا.. الله يا ابنتي هو الخبير بنفسيات هؤلاء الأوغاد, وهو الأعلم بطريقة تفكيرهم, وتركنا لنصائحه جلّ وعلا لهو الخسران المبين!

وتنفيذا لفكرة نقل المقاومة من حيز القول إلى حيز الفعل, فقد وفقني الله تبارك وتعالى إلى الاتفاق مع مجموعة من قادة العمل العسكري لنكوّن تنظيما إسلاميا لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي بغية تحرير فلسطين, وقد أطلقنا على هذاالتنظيم اسم "حركة المقاومة الإسلامية" المعروفة اختصارًا باسم "حماس".

واستمريت في مزاولة نشاطي الدعوي, الأمر الذي أقلق الإسرائيليين كثيرا, إذ أنهم كانوا يعتقدون أن زوال دولة طغيانهم رهن بقوّة الدعوة في فلسطين, ولهذا فقد وجهوا إليّ التهم المتعددة التي أفضت في النهاية إلى اعتقالي عدة مرات كان آخرها في عام 1989 حيث أصدروا علي حكما بالسجن مدى الحياة ولكن ربك ستر.. فلم يسجنوني مدى الحياة, بل تم الإفراج عني بعد ثماني سنوات تحت بنود اتفاقية بين الأردن ودولة الكيان المغتصب.. ومن يومها لم أهدأ.. بل لقد أخذت أستغل كل يوم أنعم الله به علي بنعمة الحرية لأتجول بين البلدان الإسلامية لأوصل الرسالة الفلسطينية إلى العالم, ولأكشف للجميع حقيقة المحتل, ولأحشد التأييد والدعم المادي والمعنوي لقضية هذا الشعب المنتهك.. والحمد لله, منّ الله علي بأنني استطعت أن أجمع كمّاً محترما من المساعدات العينية والمادية..

هلّا تمشينا قليلا.. لطالما تمنيت أن أتمشّى في حدائق وبساتين فلسطين, ولكنني لم أستطع لأنني كنت قعيدا, ولأن المحتل أخذ هذه البساتين أو دمرها فلم يبق لا بساتينا ولا حدائق..

نهض ليتمشى في أروقة الجنة فنهضت معه, وأخذ يسير في الروضة الرائعة, يتنشق عطرها الأخّاذ.. أحسست أنني متطفلة وفضولية حين أذكّره بذكريات الماضي وأحرمه من الاستمتاع بما منّ الله به علينا, ولكنني -لا أخفيكم– لطالما تمنيت عندما كنت في الدنيا أن أرى الشيخ أحمد يس, هذا الشيخ القعيد الذي ملأ الدنيا حركة وكان ملء السمع والبصر والفؤاد , أفحين حانت الفرصة والتقيته وجها لوجه, هل سأستطيع تركه؟؟ لا لم أستطع.

يبدو أنني أصبحت كالطفلة الصغيرة المدللة التي تطلب من والدها الطلبات الصعبة, ولكن والدها هذا مليء بالرحمة والمودة حتى أنه لا يرى في تنفيذه لطلباتها هذه إلا غاية المتعة والسعادة!!

- أخشى أن أكون قد أثقلت عليك يا والدي العزيز بأسئلتي وبذكريات الماضي..

-
لا يا ابنتي.. سلي ما بدا لك.. صحيح أنني حين أتذكر أيام الدنيا أشعر بالألم لكل ما جرى ويجري فيها, ولكنني أشعر أيضا بعظيم نعمة الله عليّ حين أستعرض مراحل حياتي وكيف يسّر الله تبارك وتعالى لي مراحل الجهاد... سليني ما شئت يا ابنتي, فحديثي عن الماضي حديث شيق فعلا, فأنا أرى جزاء عملي عيانا الآن بل وألمسه وأشمّه.. يا لسعادتي أن الله تقبل جهدي وجهادي في سبيله..

-
إذاً حدّثني يا أبت عن سنوات اعتقالك.. ماذا كنت تفعل؟؟ هل استطاع هذا السجن أن ينال من عزيمتك ويبدد صفاءك وأمنك الداخلي؟

- السجن يا ابنتي محنة.. محنة كبيرة.. ولكنني أعتبرها في نفس الوقت مرحلة مهمة, لأنها مرحلة إعداد.. السجن يعوّد على الصبر.. الصبر بمعناه الحقيقي.. السجن يضعك وجها لوجه أمام حقيقة العدو البشعة, وترينه عن قرب, وترين كم هو مستبد وظالم ومتعجرف..

السجن يجعلك أيضا تختارين الخيار الصحيح.. الخيار الذي تريدينه أنت لا الذي تفرضه عليك مخاوفك, فلن يخيفك بعد الآن التلويح بالسجن أو العقاب.. لأنه قد وقع, وستصبح إرادتك حرة في اختيار ما تريد دون أن تتقيد بخوف من سجن أو سجان..

هذه المرحلة من السجن أفادتني كثيرا لأنها كانت مرحلة إعداد لما هو أكبر..

كل هذه الفوائد للسجن يجنيها من كان طليق الروح والعزيمة حتى ولو كان حبيس الجسد..

من كان هدفه واضحا أمامه كضحى النهار.. لا يتزعزع ولا ينثني عن تحقيقه..

هذا فقط هو من يستطيع تحويل السجن إلى خلوة مع الله سبحانه.. وفترة من التدريب والإعداد لمواصلة السعي لتحقيق الهدف بعد الخروج من السجن..

طبعا هذا لا يعني أن دخول السجن كالذهاب في نزهة, لا طبعا.. ولكنني أريد فقط أن أبين لك يا صغيرتي أن أن كل محنة وفي قلبها منحة..

-
أراك يا أبي تفلسف كل شيء بطريقتك الخاصة.. من كانت له فلسفتك في الحياة فسيعيش سعيدا مهما عانى من كروب الدنيا ومحنها!

هنيئا لك يا والدي هذا الفهم العميق للحياة.. وهنيئا لنا بك.. وهنيئا للإسلام أن كان له ابن مثلك..

- هاهاهاها.. إنما هي فلسفة السعادة التي دلنا عليها الله في القرآن.. أنا لم آت بشيء من عندي, بل لقد علّمني ربي كل هذه العبر في كتابه وفي قصصه التي قصها علي..

-
طيب.. حدثني بتفاصيل يومك "السجني" هذا؟؟

-
كنت أعمل برنامجا متنوعا يتضمن أشياء أساسية: العبادة, العلم, الرياضة, متابعة أخبار المسلمين..

نظرت إليه والعجب يملؤني: رجل مشلول يمارس الرياضة؟؟!! كيف بالله عليكم؟!؟!؟!

-
كل شيء يمكن أن أفهمه إلا الرياضة؟؟

-
وهل الشلل ذريعة كافية لترك الرياضة؟؟ لو أن الأمر كذلك.. إذا لكان الشلل ذريعة كافية جدا لترك الجهاد.. كان الشباب الذين يرافقونني جزاهم الله كل خير يقومون بمساعدتي على المشي قليلا جدا.. كما لو كانت معالجة فيزيائية.. وكانوا يدلكون ذراعيّ وأصابعي ويدي.. كل هذا يتم في وقت الاستراحة.. حيث أنه كان لنا في السجن وقت ننزل فيه إلى الساحة "للتنفس" ..

لا عذر لأحد في ترك الرياضة.. مهما كان مريضا.. وكل حالة لها الرياضة التي تناسبها.. فرياضة الجسد حياة للروح..

-
لا أخفيك يا أبي.. لقد كبرت كثيرا جدا في نظري.. لقد أدركت تماما الآن لماذا أرادوا قتلك.. أنت بهمتك أحييت الأمة.. كم أحبك يا أبي.. وكم أحنق على قاتليك.. وأرجو أن يريني الله فيهم يوما يشف فيه غيظ قلبي منهم..

-
لا تتعجلي نهايتهم يا ابنتي.. مازال هناك الكثيرين من الناس الشرفاء في الدنيا يحتاجون فرصة ليثبتوا ولاءهم لله عز وجل.. وسيمنحهم ربهم هذه الفرصة.. ليميز الخبيث من الطيب.. وليجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه في جهنم.. لا تخافي ولا تحزني يا صغيرتي.. إنما هي سنوات قلائل وينقضي العذاب والألم من تلك الدنيا..

- لدي سؤال أخير يا أبت.. سمعت أن حياتك وبيتك كان غاية في البساطة, حتى أن بيتك الصغير قديم ومتهتك.. لماذا لم تفكر في تحسين أوضاعك المعيشية؟؟

-
إن هذا لأمر ذو شجون..

كيف أستطيع أن أرضى لنفسي العيش الناعم الرغيد, وأبناء شعبي يعانون الأمرّين في سبيل لقمة العيش؟؟ أتعتقدين أنني إذا شبعت ونعمت: هل سأحسّ بآلام المحرومين, وأنات المعذبين؟؟

لو كان الأمر كذلك, لفعله عمر بن الخطاب من قبلي.. لم يكن عمر يرضى لنفسه أن يعيش إلا كأفقر رجل من المسلمين, فيجوع حين يجوعون, ويعرى حين يعرون, حتى أنه كان يلبس الملابس الخفيفة في الليالي الباردة, وهو أمير المؤمنين أنذاك, لم يفعل ما فعل إلا ليحس ببرد العراة وحاجة المعوزين.. يا ابنتي.. إذا لم أعاني ما يعانيه أبناء شعبي فلن أحس بهم, وعندها لا أستحق أن أطمح إلى أن أكون أبا لهم, أمسح دموعهم وأضمد جراحهم, وأسعى لإنقاذهم من الظلم الذي لحق بهم.. أما ترين كيف أن الناس يكثرون الصدقة في رمضان! لماذا؟؟

لأن الجوع في الصيام لفت نظرهم إلى من يجوع دائما بصيام وبدون صيام..

سيد القوم يا ابنتي هو خادمهم.. وليس المتعالي عليهم.. هذا من ناحية..

وأما من الناحية الأخرى.. فيا ابنتي, عندما تملأ قلبك ووعيك فكرة ما, فإنك لا تستطيعين التوقف عن السعي لها, وكل ما يمر بك في حياتك فإنما توظفينها لتخدم قضيتك الأساسية التي تشغلك..

وأما حين لا توجد لديك قضية تعيشين من أجلها, فعندها ستنشغلين بهذه العوارض التي تمر بك, وستسلب لبك, وترين نفسك تسابقين الزمن في صراع محموم لتثبتي لنفسك قبل أن تثبتي للآخرين أنك ذات مكانة وأهمية.. ومن هنا يأتي التفاخر بعوارض الدنيا ومتعها..

أكثر ما يؤلمني يا ابنتي, هو مرأى شاب أو فتاة كل همه في الحياة: القشور.. فترينه لا يستقر ولا يدع أهله يستقرون من كثرة طلباته المتواصلة..

يريد "موبايل", فيقاتل قتال المستميت للحصول عليه, مع أنه قد لا يكون بحاجة له, وما إن يحصل عليه, حتى ينزل إلى الأسواق تصميم جديد للموبايلات.. وتملأ الدنيا إعلانات هذا التصميم الجديد والذي بالتأكيد يحوي ميّزة جديدة, وهنا يشعر صاحبنا أنه أتعس خلق الله لأنه لا يملك هذا الموبايل الجديد ذو الميزة الجديدة ليفاخر به أصدقاءه.. وتأتي سلسلة الطلبات الثانية لتغيير موبايله القديم بآخر جديد..

وقولي نفس الشيء على كل شيء في الحياة من السلع الاستهلاكية: السيارات, الملابس, مفروشات المنازل.. الأدوات الكهربائية.. وهلم جرّا.. فيعيش صاحبنا في دوامة لا تنتهي من التحديث والتطوير لا لشيء إلا لإشباع النهم الاستهلاكي, لقد غاب عن صاحبنا هذا أن عين ابن آدم لا يملؤها إلا التراب.. وأن النفس لا تشبع, بل إنها تشترك مع جهنم بهذه الميزة, فهما دائما تناديان: هل من مزيد!!..

يا ابنتي.. لا نستطيع ان ننكر أن للسلع الجديدة بريق, ولكنها الطامة الكبرى حين يعمي هذا البريق الأبصار والبصائر..

عندما كنت في المعتقلات, كان لدي كوب قديم أشرب به الماء, استخف أصحابي به, وأرادوا أن يبدلوني به كوبا احدث وأجمل, ولكنني رفضت لان هذا الكوب كان رفيق اعتقالي ولسنوات, فكيف أغدر به فأتخلص منه وأستبدله وهو لا يزال صالحا لتأدية مهمته..

هل تصدقين يا ابنتي: لقد نشأت بيني وبين هذا الكوب رابطة عاطفية, فلا أستطيع إلا أن أفيَ له بعد أن خدمني هذه السنين الطوال..

أما شبابنا وبناتنا فأنى لهم بمثل هذه الروابط العاطفية مع الأشياء؟؟

إذا كنا نراهم يملّون سريعا من البشر, أفلن يملوا من الجمادات؟؟!!

أنا أشفق عليهم فعلا لأنهم لم يذوقوا أروع ما في الدنيا وهو الأنس بوجود الله والاجتماع عليه والتفرق عليه, والعمل له..

لا تحسبي يا ابنتي أنهم سعداء بهذه الحياة الاستهلاكية والدائمة التجديد مع أن الناظر إليهم من بعيد ليخال أنهم في قمة السعادة, بل إنهم يزدادون ضيقا وتبرما بكل هذه التغييرات, هل تدرين لماذا؟؟

لأن الله تعالى تكفل بعيشة ملؤها الضنك لمن أعرض عنه.. ألم يقل لنا "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً".. فهيهات يا ابنتي أن يجد هؤلاء "الاستهلاكيون" سعادتهم في المزيد من الاستهلاك.. هيهات يا ابنتي.. هيهات..

السلع الاستهلاكية صُممت في الأصل لتخدمنا فتيسر حياتنا لا لنخدمها فتصبح هي الغاية والهدف بحد ذاتها!! فنجد أنفسنا ندور في فلكها كما يدور الثور في الساقية.. اعذريني لهذا التشبيه.. ولكنهاالحقيقة! بل إنها لمأساة حقا حين نرى حمّى الاستهلاك قد انتقلت إلى ملائكة الأرض: الأطفال..

ما يقدم للأطفال في التلفاز في سياق جعلهم ينتمون إلى النمط الاستهلاكي أمر خطير حقا..

ترين الإعلانات التجارية تخاطب عقل الطفل وخياله في نفس الوقت.. ففي هذه الإعلانات يرى الطفل نفسه سوبرمان الخارق عندما يأكل هذا النوع من الجبن.. وتارة أخرى لاعب الكرة المحترف عندما يتناول مشروب المياه الغازية، وآخر عنده الخبر اليقين عند شرب ذلك اللبن.. وسلع فيها كل ما يتمناه وأخرى الحياة من غيرها مستحيلة.. ودائما "جمّع واكسب وكلما اشتريت أكثر فرصتك في الفوز تكبر"...

وهنا تزيد لهفته على هذه السلع وتدفع به إلى إصدار أوامره الفورية للحصول عليها, هذا لأن أكثر وسائل الإعلام مصداقية لدى الطفل هي التلفاز إذ أن الطفل يقتنع حين يرى..

ثم إن هذه الإعلانات يا ابنتي لا تروج للسلع فقط, بل هي تروّج لنمط حياة يتلقفه الطفل بكليته لما تحويه من عناصر إبهار وجذب تمثل للطفل الحلم الوردي, فستميل رغباته الشرائية وتجعل منه شخصا استهلاكيا تحدوه النزعة في الاقتناء دون مراعاة لقدرات أسرته المادية.

ليس هذا فحسب, بل هناك ما هو أدهى وأمر, ألا وهو قتل قيمة العمل كأساس للكسب وتحقيق الأحلام, حيث ترسخ لديه مبدأ الربح السريع اعتمادا على الحظ.. فيترسخ لديه بالتالي مبدأ الأخذ دون عطاء..

كل هذا يحوّل الطفل إلى ديكتاتور ما عليه إلا أن يأمر, وما على أهله إلا أن يطيعوا!! ديكتاتور لأهم له إلا إشباع حاجاته المتنامية والتي لن تقف عند أي حد..
النفس يا ابنتي طمّاعة, والكيّس هو من يعوّدها القناعة..
أذكر بيتا من الشعر يصف النفس وصفا دقيقا..

والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

سكت الشيخ هنيهة ليلتقط أنفاسه, لقد أثارت حزنه ذكريات أيام الدنيا, وأوضاع شباب المسلمين في الدنيا.. ناولته قدحا من اللبن ليروي حرقة فؤاده..

ثم سألته:
- لكن.. كيف سيفطم هؤلاء الشباب أنفسهم عن رضاع السلع الاستهلاكية؟؟

كيف سيعوّدون أنفسهم القناعة؟؟

تبسم ابتسامته المحببة إلى قلبي كثيرا, ابتسامة المنتصر الذكي الذي وصل إلى ما يريد, يبدو أنه كان يدفعني إلى مثل هذا السؤال!

- كل شيء يا ابنتي يبدأ بصعوبة, ولكن من كانت في رأسه فكرة ومقتنع بها فإنه سيفعل المستحيل لينجحها.. ألا ترين كيف ان هؤلاء الشباب يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل تبديل الموبايل؟؟

إنهم مقتنعون أن قيمتهم ستنقص إذا استمروا في استعمال شيء قديم أكل الدهر عليه وشرب لأشهر معدودة فقط.. إذاً.. هم قد اقتنعوا بهذه الفكرة فبذلوا لها كل ما يستطيعون! وكذلك الأمر في ما نحن بصدده..

ولكنني أرى أن الدور الأساسي يبدأ من الأم, فهي التي تعد شاب وفتاة المستقبل.. دورها يكمن في أن تغرس في طفلها قيم الاعتماد على النفس وتأكيد الذات حتى يكون إيجابي التفكير, يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات وأنه ليس بمفرده في هذا العالم.. فيترسخ بداخله الشعور بالآخر ولا يعلو عنده الإحساس بالأنا.. هذه الأنا التي إذا تضخمت أوردته المهالك..

تفكّرت كثيرا في كلماته, نعم معه كل الحق.. الدور يبدأ من الأم.. لأن التي تهز المهد بيمناها تهز العالم بيسراها..

توقفنا تحت شجرة مانجا شهية جدا.. وكانت الأرائك قد صفّت تحتها لمن أراد الجلوس.. فجلس أبي وجلست أنا أيضا..

كنت أنظر إلى ثمار المانجو المتدلية من أغصان الشجرة.. كنت أحب كثيرا هذا النوع من الفاكهة في الدنيا.. وأظن أنني لا زلت أحبها إلى الآن!!

مددت يدي لأقطف ثمرة منها فإذا بالغصن يقترب من يدي بود.. ويضع ثمرته في كفي..

قدمت هذه الثمرة للشيخ الجليل.. ثم قطفت أخرى لنفسي.. ولكن.. يا سبحان الله.. شكلها شكل المانجا, ولكن طعمها شيء آخر.. لا أستطيع أن أصفه.. لكنه ألذ بكثييييييييير من ثمار الدنيا..
ناولت والدي كوبا من الماء ليشرب بعد ثمرة المانجا الحلوة جدا..

ثم سألته:
- أستطيع أن أفهم يا أبت وأقدّر كيف أنك أحببت هذه العيشة البسيطة وكيف كنت تجد فيها سعادتك وراحتك, ولكن..

- لكن ماذا؟؟

-
لدي تساؤل أشعر بالحرج منه.
.
- قولي كل ما لديك.. ولا تشعري بالحرج.. لقد انتهى عهد الحرج.. قولي يا ابنتي.. أسمع..

-
اولادك يا أبت, ألم يعترضوا يوما على " ظف العيش وقسوته", أستطيع أن افهم كيف يختار المرء لنفسه ما يريد, ولكنني أخشى كثيرا من فرض الرغبات الفردية على الآخرين.. سأقول لك ما يدور بخاطري وبكل صراحة: هل كنت دكتاتورا في منزلك ومع زوجتك وأولادك يا أبي؟؟

دوت ضحكة عالية خلفنا, وإذا باحد الغلمان المكلف بمرافقتنا في هذه الجولة في الجنة قد انقلب على قفاه من شدة الضحك, شعرت بالإحراج من ضحكه, وأحسست أنه يضحك من سؤالي..

فقلت للشيخ الجليل: يبدو أنني سألت سؤالا غبيا!!

إذ كيف لدكتاتور في أسرته أن يصل إلى الجنة أصلا!!

حسنا سأقلب صيغة السؤال.. كيف تقبل أولادك هذا الوضع المعيشي القاسي؟؟ أما كانوا يطالبونك بأن تزيد لهم في النفقة؟؟ وأن تنقلهم إلى بيت أوسع؟؟

لم تفارق ابتسامة الشيخ وجهه منذ أن طرحت سؤالي, فربت على كتفي ليزيل ما علق بي من إحراج لسؤالي الساذج.. وقال:
- سؤالك ليس غبيا أبدا.. بل أراه ذكيا ومهما جدا أيضا..

يا ابنتي.. كل إنسان تمر به أوقات يضيق بها من ضيق العيش ويتمنى حياة أفضل.. حتى نساء النبي صلى الله عليه وسلم مررن بهذه المرحلة.. ولكن في النهاية يرجع الإنسان إلى ما يؤمن به .. ونساء النبي كنّ يؤمن بالله ورسوله وبالجنة.. ولهذا فقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة..

وكذلك أولادي.. لن يكون عدلا أن أجبرهم على معيشة هم أنفسهم ليسوا مقتنعين بها.. بل إن الله تعالى لم يجبر زوجات النبي على ذلك بل لقد أعطاهن حرية الاختيار..

ولهذا فقد حرصت كثيرا على أن أزرع في قلوب أبنائي ما حرصت على زرعه في قلوب كل الناس.. من إيمان بعدالة قضيتنا, ومن حب لله ورسوله.. ومن إيثار للجنة الباقية على الدنيا الزائلة.. والحمد لله أن وفقني إلى النجاح في هذه المهمة.. فكان أولادي قرة عين لي في الدنيا.. وأرجو أن يقر الله عينهم بالجنة في الآخرة..

أما أن أجبرهم على شيء ليس بإرادتهم. فلا وألف لا.. لأنهم حينها سيعانون ويتحملون مشاق الحياة ولكنهم سيحرمون الأجر والثواب عند الله تعالى, لأنهم فعلوا ذلك مكرهين غير مختارين..
إذا.. لم أكن أبا دكتاتورا يا ابنتي.. بل لقد حرصت كثيرا جدا على أن أطبق العدل والديمقراطية والشورى أولا في أسرتي.. وكما ربّى النبي أزواجه وأولاده على قيم القرآن, فعلت ذلك مع أسرتي وأولادي.. والحمد لله أرى أن الله أكرمني بالنجاح في هذه المهمة.. وكما أن جيل الصحابة نجح في مقاومة الاستهلاك والتنافس في الدنيا, فقد نجحت أسرتي في أن تكون أسرة نذرت حياتها لله وللجهاد في سبيله..

- أرى أنني قد أتعبتك يا والدي العزيز.. أشكرك من كل قلبي أن أتحت لي هذه الفرصة للحديث معك.. مع أنك لم ترتح بعد تماما من وعثاء السفر..

بارك الله بك يا أبت.. وأنا فخورة جدا أنك من بلدي.. من فلسطين..

ثم تركت والدي ليجلس مسترخيا تحت ظل الشجرة.. وما إن قمت وانصرفت حتى جاءت مجموعة من رجال لا أعرفهم.. وجوههم كما القمر ليلة البدر.. سلّموا على الشيخ, فاحتفى بهم كثيرا.. يبدو انه يعرفهم من قبل.. يعرفهم جيدا..

تمنيت كثيرا أن أندسّ بينهم لأرى من هم, ولأستمتع بأحاديثهم التي ستكون الدنيا إحدى أهم محاورها
.. ولكن.. استحييت.. فانا امرأة, وهم كلهم رجال.. ثم ألن أترك والدي الشيخ الجليل ليفعل ما يحلو له هو في الجنة وليس ما يحلو لي أنا!!

لن أكون أنا: ديكتاتورة الجنة..

ثم أخذت دربي أمشي بعيدا عن هذه المجموعة.. وأفكر كيف سأخترق هذه المجموعة وأتعرف عليهم.. وإذا بي..

يتبع في الرسالة القادمة إن شاء الله.

اقرأ أيضاً:
رسائل من الجنة (1)
رسائل من الجنة (2)
رسائل من الجنة (3)



الكاتب: ليلى العربية
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/06/2004