إغلاق
 

Bookmark and Share

الصحة النفسية للطفل (1) ::

الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/03/2005


مقدمة :

من خلال الجلسات الفردية وجلسات العلاج النفسي الجمعي ينكشف الستار عن اضطراب العلاقة بين الأبناء والآباء، ويكون هذا الاضطراب من أهم العوامل المهيأة والمرسبة للاضطرابات النفسية لدى الطرفين، وفي أغلب الحالات تضطرب هذه العلاقة دون قصد فالوالدان بدافع فطرى يريدان السعادة والنجاح لأبنائهما ولكنهما أحياناً يفقدان الطريق الصحيح من غير قصد فيتورطان في الإفراط أو التفريط وتكون النتيجة في الحالتين اضطرابا نفسياً في الطفل اللذين أحباه ودفعا حياتهما ثمناً ليكون سعيداً.

ومما يزيد الأمر صعوبة في بيئتنا الشرقية أن اضطراب العلاقة بين الآباء والأبناء يظل تحت غطاء ساتر طوال الوقت ولا ينكشف إلى في ظروف شديدة الخصوصية كالعلاج النفسي الفردي أو الجمعي أو العائلي، أما في غير هذه الظروف فإن الأبناء غالباً- لا يجرؤن على الاقتراب من هذه المنطقة الحساسة وهم في حالة الوعي العادي، أما الآباء فإن لديهم اعتقادا بأنهم قدموا أفضل ما عندهم لأطفالهم، ولكن تمرد الأطفال وعصيانهم للأوامر هو الذي جعلهم في حالة اضطراب.


وقد تراكمت معلومات مفيدة في السنوات الأخيرة حول أفضل الوسائل للوصول إلى الصحة النفسية للطفل وعلاج الاضطرابات النفسية لديه، وقد أصبح هناك تخصص مستقل في الطب النفسي يسمى طب نفس الأطفال Child Psychiatry، وقد حاولنا بتوفيق من الله أن ننتقى من المعلومات المتوافرة ما يتمشى مع تراثنا العربي والإسلامي، خاصة وأن المكتبة العربية الحديثة تفتقر إلى الكتب المتخصصة في هذا المجال مما يدع الآباء والأمهات في حيرة في مواجهة مسئولية تربية الأطفال وكانت فكرة إصدار هذا الكتيب بناءً على رغبة الأمهات اللائي حضرن سلسة محاضرات "الصحة النفسية للطفل" في نادي الأطباء بالمنصورة وبتشجيع من منظمي هذه السلسة الهادفة من المحاضرات لذلك حرصنا على أن يكون التناول بسيطاً وموجزاً قدر الإمكان وأشرنا في نهاية الكتيب إلى مجموعة من المراجع العلمية لمن يريد أن يتعمق في أي موضوع من الموضوعات المطروحة.

والله نسأل أن يساهم هذا العمل المتواضع في تحسين الأداء التربوي للآباء والأمهات لكي ينعم أطفالنا الأعزاء بصحة نفسية أفضل.

ما هي الصحة النفسية؟

هناك خلاف كبير حول مفهوم الصحة النفسية عموماً فالبعض يرى أن الصحة النفسية هي ببساطة "عدم وجود مرض نفسي"، لكن هذا التعريف غير كاف لأننا نرى في حياتنا كثير من الناس لا يعانون من أي أمراض نفسية ومع هذا لا نستطيع أن نصفهم بأنهم أصحاء نفسيا (رغم انتقاء صفة المرض) وذلك بسبب وجود أوجه سلبية أخرى لا ترقى إلى درجة التصنيف المرضى ولكنها مع ذلك تؤثر في فاعلية وجود الشخص كمخلوق له رسالة جاء ليؤديها في هذا الكون، فعلى سبيل المثال هناك إنسان لا يعانى من أي مرض ولكن تطوره الفكري والعاطفي توقف عند مرحلة معينة فعاش على مستوى أقل مما متوقع من أمثاله.

أذن فالصحة النفسية معنى إيجابي ذو آفاق متعددة ومستويات متصاعدة يجب النظر إليها عند تقييم أي شخص ويمكن أن نبسط الأمر فنقول أنه لكي يكون الإنسان صحيحا نفسيا فيجب أن يتم هذا من خلال صحة الجسد (المستوى البيولوجي) وصحة الجهاز النفسي (المستوى النفسي) والتوافق مع البيئة (المستوى الاجتماعي) والقدرة على الإيمان بالغيب والتواصل الروحي مع السماء (المستوى الروحي) ولكي يحقق الإنسان هذه الصحة النفسية فهو يحتاج إلى علمية نمو مستمرة تشمل كل المستويات المذكورة وفى نفس الوقت يحتاج لأن تكون حركة نموه متوازنة ومتكيفة مع الواقع الذي يعيش فيه (مع إمكانية تعديل أو تغيير هذا الواقع إلى الأفضل)

وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص وحاولنا الإجابة على تساؤل أحد الأمهات:

كيف أعرف أن ابني صحيح نفسيا؟ والإجابة ببساطة هي أن الطفل كائن ينمو بسرعة ويتطور وهو أثناء حركة نموه وتطوره يحتاج لأن يكون في حالة توافق وانسجام مع البيئة التي يعيش فيها، إذا فأي شيء يعوق توافقه وانسجامه مع البيئة المحيطة به يعتبر عائقاً لصحته النفسية، ويمكن بعبارة بسيطة أن نقول بأن الصحة النفسية للطفل هي توازن بين التطور والتكييف، وهذا التوازن هو مفتاح التربية الصحية.

ولكي نرى أهمية ذلك تعالوا نرى الاحتمالات المختلفة:

التطور التام:

لنتخيل طفلا ينمو جسديا بسرعة وينمو ذكاؤه وتنمو قدراته المعرفية والشعورية، ولكنه في المقابل لم يتعلم كيف يتوافق مع المجتمع الذي نشأ فيه فإنه في هذه الحالة سيتحول إلى طفل أناني متمرد على نظم وتقاليد وقيم هذا المجتمع وسوف يكون في النهاية مدمرا لمن حوله ولنفسه في النهاية.
 
التكيف التام:

لنتخيل طفلا لا يفعل شيئا إلا ما يقوله له المحيطون به فهو لا يتحرك إلا بأمر من والديه ولا يفكر إلا بأمر ولا يفكر إلا بأمر أخر منهما وليست له أي حركة ذاتية أو تفكير خاص، هذه الطاعة العمياء والاعتمادية المطلقة تجعلنا أمام طفل شديد السلبية ولا يستطيع أن يعيش بمفرده ولا يستطيع أن يواجه آية مواقف جديدة دون الاعتماد على من حوله وعلى الرغم من أن هذا الطفل يكون مريحا لأبويه في صغره إلا أنه يكون عبئا ثقيلا عليهما بقية حياته، لأنه في حالة جمود تثير الملل فلا تفكير جديد ولا حركة مستقلة، لذلك فهو اقرب إلى الموت منه إلى الحياة، أذن فالتطور المطلق بلا ضوابط يمكن أن يعوق التكيف، كما أن التكيف المطلق يمكن أن يعوق التطور.

لذلك نعود إلى المفتاح السحري للتربية الصحية وهو التوازن بين متطلبات التطور وبين متطلبات التكيف، والتوازن في الفكر الإسلامي هو الوسط العدل الذي يحمى الإنسان من الوقوع في اللغو والشطط وهذا التوازن ليس وضعا استاتيكيا ثابتا وإنما هو وضع ديناميكي متحرك، فمع كل نبضة نمو يتغير التوازن فيستتبع محاولة إعادة التوازن مرة أخرى، لذلك فالتربية الصحية تحتاج إلى يقظة تسقط الواقع المتغير من حساباتها. والأمر يتطلب توازنا في الأسرة ذاتها لان الطفل جزء من هذه الأسرة يتأثر بكل ظروفها وهو بمثابة الترمومتر الحساس لأي خلل في توازن الأسرة:
 
صحة الطفلصحة الأم صحة الأسرة صحة المجتمع

عند فحص حالة أي طفل فإن عين الفاحص تنتقل عبر الدوائر التالية
:-

1- دائرة الطفل، وهى الدائرة المركزية التي يدور حولها الاهتمام.
2- دائرة الأم وهى الدائرة المحيطة بالطفل مباشرة ولذلك فهي أكثر الدوائر تأثيرا وتأثرا بدائرة الطفل.
3- دائرة الأسرة وهى الدائرة التي تحتضن دائرتي الطفل والأم معا، فهي المحضن الذي تتفاعل فيه الأم مع طفلها.
4- الدوائر الثلاث السابقة، لذا لا يمكن النظر إلى صحة الطفل النفسية بمعزل عن بقية الدوائر المحيطة به تصاعدياً وأي محاولة للارتقاء بصحة الطفل النفسية يمكن أن تفشل إذا لم تضع كل الدوائر المحيطة في اعتبارها فكثير من الأحيان يأتي الطفل إلى العيادة النفسية للعلاج فنجد أن المرض الأساسي في الأم أو في الأسرة، وأحيانا في المجتمع وهنا نتوجه بالعلاج نحو المصدر الأصلي للاضطراب، فعلى سبيل المثال كثير من الأسر تشكو من عناد الأبناء وعند دراسة أحوال الأسرة نجد أن عناد الطفل ما هو إلا رد فعل مباشر لأم عنيدة قاهرة ومسيطرة أو أب عنيد مستبد، ومع هذا فتأتي الأسرة بالطفل "كبش الفداء" متوهمين أنه هو المضطرب وهو الذي يحتاج للعلاج ولا يقبلون فكرة أن الأسرة كلها مضطربة وتحتاج للعلاج، فالطفل ما هو إلا ممثل للاضطراب العام الحادث بالأسرة ولأنه هو الكيان الصغير الأكثر براءة وصراحة وصدقا فهو يعبر عن الخلل الأسرى بوضوح.

الصحة النفسية بين المطلق والنسبي

على الرغم من وجود إطار عام لمفهوم الصحة النفسية إلا أن هذا المفهوم ليس مطلقا، بل هو نسبى يرتبط بالزمان والمكان والظروف، ولكي نقرب هذه الفكرة للأذهان ونسوق هذه القصة من التراث العربي
 
كان هناك شيخ قبيلة يتصف بالأنانية والاستبداد، وفى يوم من الأيام عرف أن بئر القرية التي تعيش فيها القبيلة سوف يتغير ماؤه بحيث أن من يشرب منه يصاب بالجنون، فراح يختزن الماء سراً قبل تلوثه لكي يشرب منه وحده وعندما حان الوقت وتلوث الماء أصيب كل افراد القبيلة بالجنون وأصبح شيخ القبيلة هو العاقل الوحيد بينهم لذلك استغربوا جميعاً تصرفاته ولم يعودوا يحتملونه فتجمعوا حوله وقتلوه.
 
هذه القصة الرمزية تؤكد على نسبية الصحة ونسبية المرض فكل شيء من هذه المفاهيم يرتبط بالزمان والمكان والأشخاص.

ولا ننسى أن الأنبياء حين جاءوا لتغيير المفاهيم الباطلة السائدة لدى الناس في زمانهم اتهمهم بالجنون، ولكن الأنبياء كانوا قادرين بعون من الله لهم على تغيير المفاهيم وتغيير الواقع إلى الأفضل وإذا حاولنا أن نأخذ مثالا من عالم الطفل الذي بصدده فيمكن أن نتصور أما تشكو من كثرة حركة طفلها وشقاوته، وكيف انه يحدث اضطراباً شديداً داخل الشقة بحيث تعجز الأسرة عن الراحة في وجوده، لو تخيلنا أن هذا الطفل نفسه قد عاش في مكان فسيح تحيط به مساحات واسعة من الأرض الفضاء والأشجار والمياه، فان طاقته الهائلة التي كانت تسبب إزعاجا داخل الشقة محدودة المساحة يمكن أن تتوزع في المساحات الواسعة فيجرى في الساحات ويتسلق الأشجار ويسبح في الماء، فتجد طاقاته منصرفا ثم يعود إلى البيت لينام في هدوء.
 

إذن ففكرة النسبية مهمة جداً في التربية لان سلوك الطفل يمكن أن نحكم عليه بأنه مضطرب في ظروف معينة ولكن تغيير تلك الظروف يمكن أن يجعل سلوك الطفل نفسه مقبولاً.

الاستقطاب بين النقيضين مقابل الحوار والتعايش

هناك بعض الأسر تميل إلى الاستقطاب في طريقة تفكيرها فترى الأمور محصورة بين الأبيض والأسود فقط مع إسقاط كل الدرجات البينية هذا الموقف الأسرى الذي يميل إلى الغلو إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار ينتج طفلا متصادماً مع الواقع لأنه سيجد نفسه دائما مستقطبا إلى أحد الطرفين ومتصارعا مع الآخر، هذا الطفل لا يحتمل الحوار أو التعايش مع الآخر المختلف عنه لذلك يطل في صراع مع كل الساخرين المختلفين وأول ما يبدأ هذا الصراع يبدأ مع الأم ثم مع الأب ثم تتسع دائرته بعد ذلك.

ففي الأسرة المستقطبة يتعلم الطفل أحادية التفكير بمعنى انه يتعلم أن لكل شيء احتمال واحد لا يخرج عنه أبدا وأنه هو وحده (أي الطفل أو أبوه أو أمه) يملك الحقيقة وكل ما عداه خطا لا يحتمل الصواب، لذلك يفقد القدرة على سماع الرأي الآخر، وإذا اضطر لسماعه فانه لا يستطيع تفهمه فضلا عن قبوله، وبهذا يفقد قدرته على الحوار والتعايش، فيعيش متصلبا جامدا مكتفيا بما في رأسه من أفكار وخبرات ومفتقدا لقيمة التحاور والاستفادة من الآخر المختلف.

الاحتياجات: بين الحرمان والإشباع
 

للإنسان احتياجات تطلب الإشباع لكي يستطيع أن يعيش وهذه الحاجات يمكن تقسيمها إلى الأنواع الرئيسية التالية:
1- حاجات بيولوجية أساسية مثل الطعام والشراب والمسكن والإشباع الجنسي.
2- حاجات نفسية مثل الأمان والاستقرار وتحقيق الذات
3- حاجات اجتماعية مثل الانتماء والحب والتقدير مع عالم الغيب

وقد حاول العالم النفسي الشهير (ماسلو) ترتيب هذه الاحتياجات في شكل هرمي كانت قمته تحقيق الذات، وكان هذا يتفق مع مدرسته الإنسانية التي مجدت الإنسان وجعلته كالآلة لذلك انتهى هرم الحجات عند تحقيق ذات هذا الإنسان أما في الفكر الشرقي فان حاجات الإنسان تمتد إلى التواصل الروحي مع عالم الغيب، ولان ذلك التواصل هو بمثابة حاجة فطرية أصيلة في الإنسان تبحث عن الإشباع والدليل على ذلك وجود هذا الكم الهائل من المعابد والتماثيل الدينية التي تعبر عن وجود هذه الحاجة الأصلية لدى الإنسان في البحث عن الله وعبادته.

وإشباع هذه الحاجات بترتيبها التصاعدي له أهمية كبيرة في النمو الصحي للطفل وللإنسان عموما فالطفل في حاجة إلى الطعام والشراب والمسكن وبعد أن يستوفى هذه الحاجة يريد الأمان والاستقرار في جو عائلي امن أسرة ممتدة (عائلة) ثم مجتمع بعينه، وبعد ذلك يحتاج لان يحب أحدا أو أن يحبه أحد، ثم هو يحتاج لان يجب أحدا وان يحبه أحد، ثم هو يحتاج للتقدير ممن حوله ويحتاج إلى اله يتوجه إليه بالعبادة.

ويصور القران الكريم هذا الموقف في قوله تعالى:"فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ" (قريش:3) فجاء الأمر بالعبادة بعد أن من الله عليهم بإشباع الحاجة إلى الطعام والحاجة إلى الأمن، وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم (اللهم أنى أعوذ بك من الكفر والفقر)

فاقترن الكفر بالفقر، لان الإنسان يحتاج إلى إشباع حاجاته الضرورية لبقاء حياته كالطعام والشراب لكي يتمكن من إشباع الحاجات الأرقى مثل التواصل الروحي مع السماء وهذه الحاجات تحتاج إلى توازن لأن الإشباع الزائد لها يؤدى إلى تخمة النفس وترهل القوىكما أن الحرمان الزائد يؤدى إلى الشعور بالغبن وإلى نمو مشاعر الحقد والكراهية، فليس من الضروري أذن أن تلبى كل احتياجات الطفل في ذات الوقتكما انه ليس من المطلوب حرمان الطفل من كل شيء.

اقرأ أيضاً
الكلمة الافتتاحية / أصل حكايتنا نحن البشر

 



الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 22/03/2005