إغلاق
 

Bookmark and Share

البدانة من الجمال إلى القبح ::

الكاتب: أ.د.وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/06/2004

بينما نجدُ أن البدانة التي كانت حتى عهدٍ قريبٍ في مجتمعاتنا(أو على الأقل في شرائح لا يستهان بها من تلك المجتمعات) علامةً على الثراء والجمال والنعمة والصحة والقوة البدنية، البدانةَ التي ارتبطت بالأنوثة والأمومة والكرم والطيبة والدفء، أصبحتِ الآن علامةً على القبح والبلادة والضعف والوهن والكسل والمرض، فما الذي حدثَ أو كيفَ حدثَ ذلك التحول.

فقد كانت المرأةُ الممتلئةُ القوام في معظم الثقافات هيَ النموذج المثاليُّ المفضل حتى منتصف القرن العشرين، حيثُ كانَ ينظرُ إلى البدانة باعتبارها علامةً على الجمال والخصوبة الجنسية، ولا تزالُ تمارسُ عادةٌ قديمةٌ في بعض مناطق قارة إفريقيا حتى اليوم حيثُ يتمُّ إرسال الفتيات قبل الزواج إلى منازل خاصةٍ تهتم بتغذيتهن وإكسابهنَّ قوامًا بدينًا من أجل إعدادهن للزواج، وليسَ فقط في إفريقيا بل إن من تتاحُ له فرصةُ رؤية صورة المرأة المثالية في القرون الوسطي في متاحف أوروبا وكذلك في الرسوم التي تزينُ أسقفَ الكنائس والكاتدرائيات القديمة سيجدُ أنها كانت تتضمن دائمًا صورَ إناثٍ بدينات.

وتحت عنوان من مقاييس الجمال البدانة! يقول خالد عزب" تختلف مقاييس الجمال من عصر إلى عصر، وكانت المرأة تعد جميلة إذا كانت بيضاء البشرة، ناعمة الملمس، وذات وجه مستدير يشبه القمر في استدارته، ومفرطة في البدانة؛ لذلك لا عجب أن أقبلت النساء قديمًا على العناية بسمنتهن وبدانتهن حتى يَحُزن إعجاب الرجال.. وقد شن الفقيه الشهير"ابن الحاج" هجومًا حادًا على النساء لاتباعهن أساليب غير شرعية لزيادة وزنهن(ومن ذلك ما يفعله بعض النسوة والمرأة إذا كانت مبدنة وتخاف أنها إن صامت اختل عليها حال سمنها،فتفطر لأجل ذلك، وكذلك بعض البنات الأبكار يفطرهن أهلن خيفة على تغيير أجسادهن عن الحسن والسمنة) وعن الوسائل التي اتبعتها المرأة على عصر سلاطين المماليك للزيادة من وزنها يروي ابن الحاج:"كانت المرأة إذا أتت إلى فراشها بعد أن كانت تعشت وملأت جوفها- تأخذ عند دخولها الفراش لُباب الخبز فتفته مع جملة حوائج أخر، فتبتلع ذلك بالماء، إذ إنها لا تقدر على أكله لكثرة شبعها المتقدم، وربما تعيد ذلك بعد جزء من الليل يمضي عليها"، طلبًا للسمنة ومحافظة على وزنها وبدانتها.

وبالرجوع إلى تاريخ العرب نجد أن حسن جسد المرأة لم يكن ليكتمل إلا إذا اكتملت فيها بعض هذه الصفات التي تتسق مع البيئة وطبيعة التفكير آنذاك، فالمرأة جميلة الجسد قد تكون هي "البهكنة"(السمينة الناعمة جميلة الوجه حسنة المعرى)،أو "الوركاء"(عظيمة الوركين)، أو"الرداح"(عظيمة العجيزة)، أو"الخذلجة"(ممتلئة الذراعين والساقين)، أو"الفرعاء" (تامة الشعر)، أو "الهدباء"(طويلة أهداب العينين)، أو"ذات الدعج"(صاحبة العين شديدة السواد مع سعة المقلة)، أو"ذات الحور"(التي اتسع سواد عينها كأعين الظباء).. إلى آخر تلك الصفات، كما نجد الشاعر العربي طرفة بن العبد يصف في معلقته الشهيرة فتاته الحسناء بأنها"بهكنة تحت الطراف المعمد"(شريف حمودة ، 2003).

فبعد أن كانَ الخط السائد سابقًا هو الخط الذي تتحققُ فيه المرأةُ بقدرتها على الإنجاب، وهيَ منحةٌ إلهيةٌ تتقمصها المرأةُ بالأمومة وأدوارها، ومن هذه الأمومة والخصوبة كانت المرأةُ رمزًا للعطاء والجمال، ومنها استمدت المرأةُ سلطتها وسطوتها داخلَ وخارجَ الأسرة، فقد تحلل وتغير هذا الوضع التاريخيُّ بالتدريج أو على الأقل تغير إدراكهُ وتصورهُ خلال القرن العشرين بشكلٍ كبير(أحمد عبد الله، 2000)، فأصبحنا نرى نجمات السينما والتلفاز وفتيات الإعلانات وعارضات الأزياء وملكات الجمال يتميزنَ جميعًا بنحافة الجسد بعد أن كنَّ في الماضي يتميزنَ بالامتلاء(Louge , 1991).

أما كيفَ حدثَ ذلك فعبرَ سلاسل متواليةٍ من الأفكار والمفاهيم التي حملتها المادة الإعلامية والتسويقية في غرب العالم وشرقه، وكذلك عبر الإيماءات والتصريحات التي يتحمل مسئوليتها العاملون في مجالات الصحة والغذاء المختلفة، وتزامنَ ذلك كلهُ مع دعواتٍ ودعاياتٍ متعددةٍ إلى إمكانية التخلص من البدانة، وإمكانية ضبط الجسد لكي يتطابقَ مع المعايير المطلوبة.

ويشيرُ استقراءُ المواريث الاجتماعية الثقافية المختلفة بحقٍّ إلى ارتباطِ حالات القهم العصبي(وهوَ أكثرُ اضطرابات الأكل حيثيةً وتفردًا واستحقاقًا لأخذ مكانة الاضطراب النفسي القائم بذاته) بالمفاهيم الاجتماعية الثقافية تجاه البدانة وكذلك بالمقاييس الاجتماعية الثقافية السائدة عن الجمال، إضافةً إلى الحالة الاقتصادية العامة للمجتمع المدروس، ففي عصور الفقر مثلاً تظهرُ البدانةُ كدليلٍ على الوفرة والصحة والكرم والجمال بينما يصبحُ النحول دليلاً على المرض، وفي عصور الرخاء الاقتصادي والوفرةَ في مجتمعٍ ما نجدُ عكسَ ذلك!.

ونحن في عصرنا الحالي نستطيع أن نقول أن الكلام عن مجتمع بعينه واعتبار معطيات ثقافته هيَ العاملُ الفاعلُ الوحيد، إنما يصدقُ فقط في حالة الكلام عن المجتمع الغربي الحديث، لأن جميع المجتمعات البشرية الآن قد تأثرت بمعطيات ذلك المجتمع الغربي ولم تعد هناكَ مجتمعاتٌ لم تتأثرْ بتلك المعطيات اللهم تلك المجتمعات التي لا يسمع عنها أحد! ولهذا السبب تصبحُ المعطيات الثقافية والأفكار السائدةُ في أي مجتمعٍ من المجتمعات البشرية اليوم إنما هيَ في أحسن الأحوال نتاج تفاعل معطيات ثقافة هذا المجتمع الأصلية مع معطيات الثقافة الغربية، إن لم تكن مجرد انعكاسٍ لمعطيات الثقافة الغربية على خلفيةٍ بيضاءَ لمجتمع ضيعَ ثقافته الأصلية!.



الكاتب: أ.د.وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/06/2004