إغلاق
 

Bookmark and Share

التريض (Exercising) والظلم الذي يلحقُ به ::

الكاتب: أ.د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 17/03/2005

بالرغم مما للتريض Exercising من آثارٍ إيجابيةٍ على الصحة الجسدية والنفسية بوجهٍ عام، إلا أننا نستطيع اعتبار ربط التريض ببرامج الحمية المنحفة بمثابةٍ ظلم كبيرٍ لحق به كما سنبين في السطور التالية، فمن ناحيةٍ أصبح التريض الناجح مرتبطًا في أذهان المتريضين بأن يحققَ فقدًا للوزن فإن لم يتحقق ذلك الفقد فإن الكف عن التريض سيكون هو القرار الذي يتخذه الشخص، ولعل الترويج للأدوات والآلات الرياضية الحديثة على أنها أدواتُ تنحيف قد ألحق بالتريض ظلمًا كبيرًا وحرم قطاعًا كبيرًا ممن يستفيدون من التريض من الاستمرار على معدلات معقولة منه.

ومن ناحيةٍ أخرى بدأت تقارير طبيةٌ عديدة تتوالى عن التريض المفرط Excessive Exercising (التريض المرضي في مقابل التريض الصحي Healthy Exercising) أو إدمان التريض Exercise Addiction والذي يطلق عليه أيضًا التريض القهري Compulsive Exercising.

فالتريض من الناحية الجسدية يحسنُ من أداء الجهاز الدوري والتنفسي والعصبي والعضلي والمفصلي ومن أداء الغدد الصم وجهاز المناعة، كما يحسنُ التريض أمراضًا كارتفاع ضغط الدم والتهاب المفاصل والسكر كما يقلل من نسبة الكوليسترول ويزيد من كتلة الجسد اللحمية Lean Body Mass، ومن الناحية النفسية يحسنُ التريضُ من المزاج وتقدير الذات والجسد، بل إن هناك دلائل (garner&wooly , 1991) على أن اللياقة البدنية بغض النظر عن حجم الجسد أو وزن الجسد تنقص من خطورة الموت
mortality risk.

ونستطيع تحديد التريض الصحي بأن يبذل الشخص جهدًا بدنيا متوسط الشدة لمدة نصف ساعة يوميا في معظم ومن الأفضل كل أيام الأسبوع، والأمثلة على الجهد البدني المتوسط الشدة هيَ المشي السريع وصعود الدرج (السلَّم) أو استخدام إحدى آلات التريض لمدة عشر دقائق ثلاث مرات في اليوم، ولهذا النوع والمستوى من التريض أثرٌ إيجابي كبير على الصحة العامة وعلى الحالة النفسية للشخص أيضًا فهو يحسنُ المزاج بشكل ملحوظ (NIH,1996).

ومن المهم هنا أن نبينَ أن المصدر الرئيسي للطاقة التي تستخدمها عضلاتنا الإرادية في التريض هو سكر الجلوكوز سواءً جاء من الدم أو من الجليكوجين المختزن في الكبد أو في العضلات، وليسَ هو الدهون أو الأحماض الدهنية، فبينما تمثلُ الأحماضُ الدهنيةُ مصدر الطاقة الرئيسي للقلب وللأمعاء (تلك التي لا تكفُّ عن العمل)، فإن سكر الجلوكوز هو مصدرُ الطاقة الأساسي للعضلات الإرادية، ولكي يستطيعَ الجسد استخدام الدهون المختزنة في إنتاج الطاقة اللازمة للتريض فإن الغذاء يجبُ أن يكونَ متوازنًا وفيه ما يكفي من السكريات والدهون بالشكل الذي لا يدفعُ الجسد إلى الاحتفاظ بالدهون المختزنة، أي أن الأمرَ ببساطة ليسَ أن تريضًا أكثر يعني فقدًا لدهونٍ أكثر فواقع الأمر هو أن مشاركة الدهون في إعطاء طاقةٍ للعضلات (خاصةً في ظروف الحصر السعري) هيَ مشاركةٌ ضئيلة، وبالرغم من أن التريضَ بإفراطٍ سيؤدي إلى استهلاكِ كمٍّ أكبر من الطاقة وكمًّا أكبر من دهون الجسد أيضًا، إلا أن الجسد سيعيدُ تخزين ما فقدهُ أثناء هذا التريض سواءً من سكر الدم أو العضلات أو الكبد ومن دهون الجسد في نفس الوقت، من خلال دفع الشخص للأكل.

ومعنى ذلك أن التريض وحدهُ مهما بلغت كميته لا يكفي لتحقيق إنقاص الوزن المرغوب (NIH, 1992) إلا أن شركات إنتاج الأدوات الرياضية لا تنقلُ هذه الرسالة عند إعلانها عن جهازٍ تريضي ما، بل يوحون للمتلقي بقدرة هذا الجهاز على فعل كل شيء، كما يفعلُ بعض أصحاب المؤسسات التريضية نفس الشيء، وينتجُ عن ذلك توقعٌ للكثير من الفائدة من جانب الشخص البدين الذي يسارع بشراء واستخدام الجهاز، فقط لكي يصاب بالإحباط بعد فترةٍ غير طويلة لأن الميزان لن يقول له أن وزنه قد قل بالمعدل الذي وعدوه به المروجون للجهاز، والمشكلةُ التي يمكنُ أن تنجمَ عن ذلك في الحقيقة هيَ إحجام البعض بسبب ذلك عن التريض كله.

وربما لو علمنا التريض المنتظم للمشتكين من البدانة دونَ ربطه بالحصر الغذائي لكانت النتائجُ أفضل فرغم أن التريض وحدهُ لا يحققُ فقدًا مرضيا للوزن (Blair et al.,1989)، إلا أن تأثيراته الإيجابية على الصحة العامة، وعلى تحسين الأمراض المعهودة مع البدانة في كثير من المرضى هي ملاحظةٌ قد أثبتت أكثر من مرةٍ (Holloway et al.,1988) و(Ossip-Klein et al.,1989)، حتى علق الباحثون أنهُ بينما عواملُ الخطورة الصحية للبدانة ما تزالُ وستظلُّ محل اختلافٍ بينَ نتائج الدراسات المختلفة، فإنه يكادُ يكونُ متفقًا عليه أن التريض يزيدُ من طول العمر، ويقللُ من عوامل الخطورة الصحية المرتبطة بزيادة نسبة كوليسترول الدم وبارتفاع ضغط الدم وبالتدخين، فخطورةُ كل هذه العوامل تقلُّ بمعدلات لا تقبلُ الجدل بمجرد الالتزام والاستمرار على مستوى متوسط من التريض اليومي، بل إن من بين نتائج وملاحظات هذه الدراسات ما يشيرُ إلى أن النحافة لا البدانة هي التي تحملُ عوامل خطورة أكثر للموت!، والتريضُ أيضًا يقلل من عوامل الخطورة تلك المصاحبة للنحافة.

كيف ومتى يصبح التريض مَرَضِيًّـا؟! عندما يفكرُ المتريضُ بمنطق
الحمية المنحفة فإنهُ يفكرُ بالصورة التالية: "التريض يعني حرق السعرات، وحرق السعرات يعني فقد الوزن، وفقد الوزن جميل ومطلوب، وكلما زدنا من الجميل والمطلوب كلما كنا أجمل وأنجح، إذن فتريضٌ أكثر يعني فقد وزن أكثر ونجاحًا وجمالاً أكثر وكلما زاد التريض زاد النجاح"، وعلى خطٍّ فكريٍّ موازٍ لهذا الخط يفكرُ المتريضُ بمنطق الحمية المنحفة كلما أتم طعامه هكذا: "كيف سأتخلص من السعرات الزائدة فيما أكلت؟ ليس لدي من طريق مفيدٍِ وصحي سوى التريض، وكلما أكلتُ ما أخاف من تأثيره المسمن كلما وجبَ عليَّ تريضٌ أكثر، ثم أن تريضي المعتاد لم يعد كافيًا بالمرة فأنا لم أفقد جرامًا واحدًا منذ مدة !"، وهكذا يصل المفكرُ بهذا المنطق دائمًا إلى أن كمية التريض التي قام بها غير كافية، والعجيب أنه كلما ازداد تريضًا كلما ازداد اقتناعًا بعدم كفايته وأحس بالحاجة إلى تريض أكثر!

حقيقة ما يحدثُ هو أن المتريضين بمنطق
الحمية المنحفة يبدؤون بعد فترةٍ في الشعور بمشاعر تشبه مشاعر المدمنين، فلا يصبح التريض بالنسبة لهم اختيارًا يستطيعون فعله أو عدم فعله، بل هو ضروري ولازم، فبعد أن كان التريضُ متعةً في حد ذاته يستمتعُ بها الإنسان، يصبحُ بالتدريج نوعًا من أنواع الإدمان، فيعطيه نجاحهُ في أداء ما قررهُ لنفسه من تريض يومي نوعًا من الثقة بالنفس والشعور بالقدرة على التحكم بينما يؤدي فشلهُ في أداء التريض المقرر ليوم ما إلى الشعور بالقلق وسوء المزاج والذنب، ليسَ فقط لأنهُ لم يؤدي التريض الواجب من وجهة نظره وإنما لأنهُ سيزيدُ وزنًا ولأنهُ قد يعتادُ الخمول إلى آخر ذلك من الأفكار التي تتمحور حول التحكم والتسيب.

ويلاحظُ خاصةً في مرضى اضطرابات الحمية أن عدد الساعات اليومية التي يقضيها المريض في التريض تزيدُ بالتدريج، وتصل في بعض الحالات إلى ما بينَ3 و5ساعات من التريض المفرط القسوة، وكأن المريض يستخدمُ التريض ليتخلص من شعوره بالذنب حول ما أكله من غذاء، وعادةً يتريضُ هؤلاء في الكتمان بعيدًا عن الآخرين، وعندما يكتشفُ أمرهم تراهم ينكرون وجود أي مشاكل ويبررون تصرفهم بأنهُ التصرف الصحي الطبيعي.

وهكذا يصبح التريض بالنسبة لهذا الشخص أهم فعاليةٍ من فعاليات حياته اليومية وتراهُ يفضله على كل الفعاليات الأخرى، وعادةً ما يقيمُ نفسه في ضوءِ ما يستطيعُ أداءه من تمارين عنيفةٍ، بل إنهُ دائمًا ما يطمحُ إلى أداء التمرينات الرياضية الأعنف فالأعنف(Long & Smith, 1990)، ويعتبرُ التريضُ القهري أحدَ العلامات التي تشيرُ إلى احتمال وجود اضطراب حمية ما، إلا أن من المهم إيضاحُ الحد الفاصل بينَ التريض الصحي والتريض القهري فالتريض الصحي يعتبرُ لازمًا لسلامة الجسد وصحته، وكذلك يعتبرُ جزءًا من أي برنامج إنقاص وزنٍ ناجحٍ وأهمَّ وسائل الحفاظ الطويل الأمد على نتائج برنامج إنقاص الوزن الناجح، بينما التريض القهري يصل بصاحبه إلى إنهاك جسده والتخلي عن الكثير من أنشطة حياته اليومية من أجل التريض، كما يتسببُ في عدم وفائه بالواجبات الاجتماعية المختلفة، وهروبه من التزاماته مع الأصدقاء، ومن السلوكيات التي تشير إلى احتمال وجود اضطراب التريض القهري ما يلي:

-1- إجبار الشخص نفسه على أداء التمارين اليومية بغض النظر عن حالته الصحية، أي حتى لو كانَ مريضًا.
-2- حسابُ كمِّ المجهود الذي يجب بذله طبقًا لكم السعرات الحرارية التي يتناولها الشخص في غذائه كل يوم، فلو أكل وجبةً دسمةً مثلاً حسبَ كمية السعرات الحرارية فيها وألزمَ نفسه بالتريض اللازم لحرق تلك السعرات.
-3- تفضيل التريض على البقاء مع أفراد الأسرة أو مع الأصدقاء.
-4- عدم القدرة على البقاء ساكنًا لفترة طويلة لشعوره بأنهُ لا يحرقُ السعرات الحرارية التي تناولها في غذائه.
-5- القلق الشديد إذا منعته الظروفُ الحياتية اليومية من أداء التمارين المقررة ولو ليوم واحدٍ من حياته.
-6- أن يقيم الشخص نفسه بناءًا على كم المجهود الذي يبذله، وأن يسرق الوقت من كل الأنشطة من أجل التريض، وألا يشعر أبدًا بأنه تريضَ بما يكفي.

ومما يزيدُ الطين بلةً عند بعض ضحايا التريض القهري نزوعهم إلى استخدام العقاقير البنائية خاصة الستيرويدات Anabolic Steroid Drugs من أجل زيادة الكتلة العضلية ظنا منهم بأن ذلك يعني كفاءةً أكبر للعضلات في حرق السعرات، واستخدام هذه الهرمونات (الستيرويدات) في مشكلات جسدية ونفسية لا حصر لها مثل ارتفاع ضغط الدم وتقلص العضلات وحب الشباب وغيره من الأمراض الجلدية وأيضًا آلام المفاصل إضافةً إلى زغللة الرؤية وتقلبات المزاج ونوبات الغضب والهياج وأيضًا الاكتئاب وربما حتى الأعراض الذهانية كالهلاوس بأنواعها المختلفة.

ومن الظواهر المسجلة حديثًا في التجارب على الفئران (Frank & David 1991)، والتي تبدو مرعبةً حين نفكرُ فيها ما أطلق عليه قهم النشاطActivity Anorexia حيث وضعت في إحدى التجارب مجموعةٌ من الفئران في قفص تجارب يدور جزءٌ من أرضيته على عجلةٍ متحركة بحيث تتمكن الفئران من الجري في المكان، وفي بادئ الأمر كانت الفئران تأكل متى تشاءُ وتجري كيفما تشاء، وتم بعد ذلك حصر إتاحة الغذاء إلى وجبة واحدة، وقسمت الفئران إلى مجموعتين مجموعة في جزء القفص الذي تستطيع فيه الجري ومجموعة في جزء لا تستطيع الجري فيه، فأما المجموعة التي لم تكن تتمكن من الجري فقد ظلت في حالةٍ جسدية صحية جيدة وأما المجموعة التي كان الجري متاحًا لها فقد لاحظ القائمون على التجربة ملاحظةً مخيفةً بحق وهيَ أن مدةَ ومسافة الجري زادت من مئات إلى آلاف اللفات في نفس الوقت الذي قللت الفئران فيه من كمية الأكل (الذي يتاح مرةً واحدةً في اليوم) بالتدريج، ورغم أن هذه الظاهرة لم تحدثْ في كل فئران هذه المجموعة بنفس الدرجة إلا أن كثيرًا من الفئران وصلوا إلى حافة الموت.

ولعل الجزء التالي من حالةٍ معروضة على صفحة استشارات مجانين تحت عنوان: فتح حوارٍ نفسي : مع ذات السؤالين ! ، تبينُ كيف ينعكسُ ما تقدم من فصول هذا الكتاب، وما يليه على حياة الأسر في بلادنا ومجتمعاتنا العربية:

المراجع:
1.
Garner, D., & Wooley, S. (1991). Confronting the failure of behavioral and dietary treatments for obesity. Clinical Psychology Review, (11). 729-80.
2. NIH (National Institute of Health,1996) : : Physical Activity and Cardiovascular Health -- NIH Consensus Conference JAMA, July 17, 1996 -- Vol 276, No.3.
3. NIH (National Institute of Health,1992). Methods for voluntary weight loss and control. [Online] . Available: NIH Technological Assessment Conference Statement.
4. lair, S.N., Kohl, H.W., III, Paffenbarger, R.S., Clark, D.G., Cooper, K.H., & Gibbons, L.W.(1989) : Physical fitness and all-cause mortality. A prospective study of healthy men and women. JAMA, 262, 2395-2401.
5. Holloway, J.B., Beuter, A., & Duda, J.L. (1988): Self-efficacy and training for strength in adolescent girls. Journal of Applied Social Psychology, 18, 699-719.
6. Ossip-Klein, D.J., Doyne, E.J., Bowman, E.D., Osborn, K.M., McDougall- Wilson, I.B., & Neimeyer, R.A. (1989):Effects of running or weight lifting on self-concept in clinically depressed women. J. Consulting and Clinical Psychology, 57,158-161
7. Long, C. & Smith, J. (1990) : Treatment of compulsive over-exercising in anorexia nervosa: A case study. Behavioural Psychotherapy, 18, 295-306.
8. Frank E W. & David W. P (1991) : Activity Anorexia : An animal model and theory of human self-starvation. Neuromethods Vol.18 The Humana Press 1991

اقرأ أيضاً على مجانين:
ما هيَ تأثيرات الحمية المنحفة (الريجيم)؟  / ما هيَ صناعةُ التنحيف Dieting Industry؟  / أكذوبةٌٌ اسمها (الريجيم) الحميةُ المنحفة : / أكذوبةٌ اسمها أغذيةُ الحمية المنحفة  / الحمية المنحفة في الأطفال والمراهقين  / عقاقير تثبيط الشهية ( أدوية الرجيم Diet Drugs).



الكاتب: أ.د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 17/03/2005