إغلاق
 

Bookmark and Share

العقعقة Pica في نطاق الوسواس القهري ::

الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 21/08/2006

بدأت في العقد الأخير بعضُ الدراسات الغربية تشيرُ إلى وضع العَقْعَقة داخل نطاق اضطرابات الوسواس القهري(Lacey,1990)، حيثُ سجلتْ حالاتُ نقص عقلي شديدٍ فيها تواكبٌ مرضيٌّ بينَ اضطراب الوسواس القهري والعَقْعَقة (Luiselli,1996) وكذلك سجلت حالاتُ عقعقةٍ في مرضى اضطراب الوسواس القهري من أصحاب معدل الذكاء الطبيعي (Zeitlin & Polivy,1995)، إلا أنني لم أستطع الوصولَ إلى دراساتٍ اهتمت بدراسة أعراض العقعقة في اضطراب برادر ويللي بالذات، بالرغم من الانتباه إلى الظواهر القهرية في ذلك الاضطراب، ولعل فئةً من مرضى برادر ويللي قد جمعت مع غيرها من أسباب النقص العقلي التي ظهر فيها التواكب بينَ الوسواس القهري والعقعقة، لكنَّ مرضى برادر ويللي ليسوا دائمًا مصابينَ بالنقص العقلي، وهذه نقطةٌ تحتاجُ ما تزالُ إلى البحثْ.

فبدءًا من أواخر الثمانينات بدأت التقارير تتوالى عن وجود العديد من الاضطرابات النفسية الانفعالية والسلوكية في مرضى برادر ويللي ومن بينها نوباتُ الهياج الشديد المتكررة، واضطرابات المزاج والاضطراباتُ الذهانية إضافةً إلى اضطراب الوسواس القهري واضطرابات نطاق الوسواس القهري، وقد بينت الدراساتُ التي اهتمت بنوعية الأعراض القهرية في الأطفال المصابين بزملة برادر ويللي عدم اختلاف تلك الأعراض من حيث الكيف مع الظواهر القهرية العابرة في الأطفال الطبيعيين.

وإن كانت الأفكار التسلطية أقلَّ وضوحًا في مرضى برادر ويللي نظرًا لانخفاض قدراتهم المعرفية (Clarke et al.,2002)، وتمثلت الظواهر القهرية في العَدِّ والتحقق (التأكد) والتنظيف القهري، كما بينت مقارنة كمية الظواهر القهرية ومعدلات انتشارها في مرضى برادر ويللي بكميتها ومعدلات انتشارها في ذوي القدرات المعرفية ومنسبات كتلة الجسد المماثلة من غير مرضى برادر ويلي، أن الظواهرَ القهرية أكثر شيوعًا في مرضى برادر ويللي عنها في غيرهم من مرضى الزملات الأخرى المصحوبة بالنقص العقلي والبدانة (Clarke et al.,2002)، وكذلك بينت مقارنةُ نوعية الأعراض القهرية في مرضى برادر ويللي بنوعية الأعراض القهرية في مرضى عيادات الوسواس القهري أن التخزين القهري، والحاجةُ للاعتراف أو للسؤال بشكلٍ متكررٍ أكثرُ شيوعًا في مرضى برادر ويللي مقارنة بغيرهم بينما كانت أفعالُ التحقق القهرية أقلَّ في هؤلاء المرضى(Dykens et al.,1996).

أكل الطين "الاسم العربي القديم للعقعقة":
وأما "أكل الطين"، وهو الاسم العربي التراثي لظاهرة العقعقة، فقد تبينَ لي ما يشيرُ إلى أكثرَ من أن العرب والمسلمينَ انتبهوا لوجود ظاهرة أكلِ ما لا يؤكل، بل هم لم ينتبهوا فقط وإنما ربطوها بالوسواس!

وجدتُ على مواقع الشيعة المسلمين العديد من الآثار والأحاديث التي تتناولُ تحريم أكل الطين، بل وأكثر من ذلك كما يتبينُ من الحديث التالي، فقد جاءَ في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ابن أبي طالب كرمَ الله وجهه ما يلي: قال صلى الله عليه وسلم :" يا علي، ثلاثة من الوسواس: أكل الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان، وأكل اللحية" (محمد العاملي 2003)، ولهذا الحديثِ روايةٌ أخرى تعد أربعةً من الوسواس كما ورد في كتاب بحار الأنوار إضافةً إلى الرواية السابقة للحديث (بحار الانوار:73) روايةٌ أخرى نصها "أربعة من الوسواس: أكل الطين وفَتُّ الطين، وتقليم الأظفار بالأسنان وأكل اللحية".

كما جاءَ في موضعٍ آخرَ من بحار الأنوار (بحار الانوار:59) ما يلي: "وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أنه نهى عن أكل الطفل الطين والفحم، وقال: "من أكل الطين فقد أعان على نفسه، ومن أكله فمات لم يصل عليه، وأكل الطين يورث النفاق"، وجاءَ في كتاب منهاج الصالحين (منهاجُ الصالحين: ج 3ص 289ص 312) ضمن بعض المسائل الفقهية ما يلي: "يحرم أكل الطين وهو التراب المختلط بالماء حال بلته، وكذا المدر وهو الطين اليابس، ويلحق بهما التراب والرمل على الأحوط وجوباً، نعم لا بأس بما يختلط به حبوب الحنطة والشعير ونحوهما من التراب والمدر مثلاً ويستهلك في دقيقهما عند الطحن، وكذا ما يكون على وجه الفواكه ونحوها من التراب والغبار إذا كان قليلاً بحيث لا يعد أكلاً للتراب، وكذا الماء المتوحل أي الممتزج بالطين الباقي على إطلاقه، نعم لو أحست الذائقة الأجزاء الطينية حين الشرب فالأحوط الأولى الاجتناب عن شربه حتى يصفو".

وجاءَ على موقع مؤسسة أهل البيت في عرض كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى (إعلام الورى بأعلام الهدى ج2 ص 89 ـ110) ما يلي: "قال أبو هاشم: ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت له: جعلت فداك، إنّي مولع بأكل الطين، فادع الله لي، فسكت ثم قال لي بعد أيّام ـإبتداءً منه : «يا أبا هاشم، قد أذهب الله عنك أكل الطين». قال أبو هاشم: فما شيء أبغض إليّ منه، ويشيرون إلى وجود هذا الأثر بنفس الرواية في العديد من المراجع الشيعية (الكافي1:414|5، إرشاد المفيد 2 : 293، الخرائج والجرائح 2 : 644 ـ 665 | 1و2و3و4، المناقب لابن شهر آشوب 4: 390، كشف الغمة 2: 361، ونقله المجلسي في بحار الانوار 50 : 41 | 6و7) (اعلام الورى باعلام الهدى ج2 ص 89 ـ110) ، وقد ورد في المجلسي (المجلسي: 57/151) بعد ذكر الحديث بروايته الثانية مرفوعًا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام،

الشرح التالي :"أي من وَسْوَسة الشيطان، أو من الشيطان المسمّى بالوَسْواس.. والحاصل أنّها من الأعمال الشيطانيّة التي يولع بها الإنسان ويعسر عليه تركها"، كما ورد في كتاب أكل الطين في الكافي أنه يروى عن الإمام أبي جعفر أنهُ قالَ: "إن التمني عمل الوسوسة وأكثر مصائد الشيطان أكل الطين وهو يورث السقم في الجسد ويهيج الداء ومن أكل طينا فضعف عن قوته التي كانت قبل أن يأكله وضعف عن العمل الذي كان يعمله قبل أن يأكله حوسب على ما بين قوته وضعفه وعذب عليه"، وعن علي ابن أبي طالبَ رضي الله عنهُ أنهُ قالَ: "من انهمك في أكل الطين فقد شرك في دم نفسه".

وأما ما ورد في الطب النبوي لابن القيم الجوزية (إبن القيم الجوزية، ج1، ص260) "فهوَ طين: ورد في أحاديث موضوعة لا يصح منها شىء مثل حديث من أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه ومثل حديث يا حميراء لا تأكلي الطين فإنه يعصم البطن ويصفر اللون ويذهب بهاء الوجه وكل حديث في الطين فإنه لا يصح ولا أصل له عن رسول الله إلا أنه رديء مؤذ يسد مجارى العرق وهو بارد يابس قوى التجفيف ويمنع استطلاق البطن ويوجب نفث الدم وقروح الفم"، ولكي لا ندخلَ أنفسنا في الخلافات الفقهية بين الشيعة والسنة ونحنُ غير معنيين بذلك،

وإنما كل ما أريدهُ هو أن أظهرَ انبهاريَ الشخصيَّ بذلك الربط الذي ظهرَ في الفكر الإسلامي منذ قرونٍ بعيدةٍ بينَ العقعقة أو أكل الطين وبين قضم الأظافر Onychophagia، ونزع الشعر Trichotillomania وبينَ الوسواس وهو الربط الذي لم يظهر في الفكر العلمي الغربي قبل العقد الأخير من القرن الماضي، صحيحٌ أن المقصود بالوسواس مختلفٌ في الحالتين لكن طريقةَ الفهم والتناول هيَ التي تعنيني.

وفي إحدى الدراسات الغربية الحديثة (Stein etal.,1996) ذكرَ الباحثونَ وصفَ خمسةٍ من المرضى لسلوك العَقْعَـقة الذي يمارسونه بأنهُ جزءٌ من طقوسهم القهرية التي يشعرونَ بأنهم مقهورونَ أو مجبرون على أدائها، وأن أكل المادة التي يشكل أكلها عقعقةً هو السبيلُ الوحيد لتخليصهم من الضيق والإلحاح الذي يعانونَ منهُ عند منع أنفسهم من ذلك، وبين الباحثونَ في تلك الدراسة بعد ذلك كيفَ تم علاجُ هؤلاء المرضى بنفس طرق علاج اضطراب الوسواس القهري باستخدام العلاج السلوكي المعرفي والعقَّاقير من مجموعة الماسا، وكيفَ أن التصوير الطبقي بقذف الفوتون الفردي Single Photon Emission Computed Tomography SPECT قد بينَ نقصًا في نشاط الفص الجبهي للمخ، كما بينت دراسة قياس نواتج استقلاب السيروتونين Serotonin في السائل المخي الشوكي Cerebrospinal Fluid نقصًا في تركيزات هذه النواتج مشيرةً إلى نقص تركيز مصدرها وهو الناقل العصبي السيروتونين ، واستنتجُوا بعد ذلك أن بعضَ حالات العَقْعَـقة على الأقل تقعُ داخل نطاق اضطرابات الوسواس القهري.

والحقيقةُ أن حالات اضطراب العقعقة (وليس عرضَ العقعقة ضمن اضطراب نفسيٍّ آخر) التي قابلتها أثناءَ عملي قد تحسنَت أعراض العقعقة في أصحابها بعد عدة أسابيع من استخدامهم لأحد عقَّاقير الماسا، إضافةً إلى بعض جلسات العلاج المعرفي السلوكي، وهو ما يجعلني أكثر اقتناعًا بانتماء العقعقة إلى نطاق الوسواس القهري.

واعتبارُ العَقْعَقة جزءًا من نطاق اضطراباتِ نطاق الوسواس القهري لا يمكنُ أن يستقيم مع الأوضاع التصنيفية الحالية في الطب النفسي الغربي، لأن جوهرَ الاضطرابات المُحتواة داخل هذا النطاق هوَ الإلحاحُ والشعورُ بالقهرِ والجبر على إتيان سلوكٍ معينٍ وهذا السلوكُ قد يكونُ المقصود منهُ أو الناتجُ عنهُ هوَ تقليلُ أو التخفيفُ من الإلحاح المزعجِ والضيق المصاحب لذلكَ الإلحاح (وذلك كلما اقتربنا من ناحية التحكم على متصل التحكم/ التسيب) أو قد يكونُ الناتجُ عنهُ هوَ تعظيمُ اللذةِ عند إتيان السلوك المعين (وذلكَ كلما اقتربنا من ناحية التسيب على نفس المتصل أي كلما كنا أقرب لاضطرابات التحكم في الاندفاعات أو اضطرابات العادات والنزوات)، فمن الواضح إذن أن الجانبَ المتعلقَ بالاشتهاء أو التوق الملح من الأعراض الموجودةِ في مرضى العَقْعَقة والذي أهملتهُ التصنيفات الغربيةُ الحالية للاضطرابات النفسية هو الجانبُ الذي سيلقى الاهتمامَ في المرحلة المقبلة، ويستلزمُ ذلك توسيعُ مفهوم العَقْعَـقة ليشمل الاشتهاءَ والأكلَ المستمرين وليسَ الأكل المستمرُّ فقط.

المراجع العلمية

1. Lacey EP(1990):Broadening the perspective of pica: literature review. Public Health Rep;105:29-35
2. Luiselli JK. (1996) : Pica as obsessive-compulsive disorder. J Behav Ther Exp Psychiatry1996;27:195-6.
3. Zeitlin SB, Polivy J.(1995) : Coprophagia as a manifestation of obsessive-compulsive disorder: a case report. J Behav Ther Exp Psychiatry 1995;26:57-63.
4. Clarke , D.J., Boer , H. , Whittington, J. , Holland , A., Butler , J. and Webb , T. (2002) : Prader-Willi syndrome , Compulsive and Ritualistic Behaviors :The First Population Based Survey. British J. Psychiatry , V. 180 , Page : 358-362.
5. Dykens ,E.M. , Leckman , J.F. and Cassidy, S.B. (1996) : Obsessions and Compulsions in Prader-Willi syndrome . Journal of Child Psychology and Psychiatry, Volume 37 , Page : 995-1002.
6. محمد بن الحسن الحر العاملي: كتاب تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج 2 ص121ـ 140عن موقع الإنترنت التالي : http://www.rafed.net/books/hadith/wasael-2/was2007.html
7. بحار الانوار :(73): عن موقع الشيعة نقطة كوم ، على http://www.al -shia.com/html/ara/books/behar/behar73/ 112.htm
8. بحار الأنوار :(59) : عن موقع الشيعة نقطة كوم ، على http://www.al -shia.com/html/ara/books/behar/behar73/ 112.ht
9. منهاجُ الصالحين : ج 3 ص 289 ـ ص 312 عن موقع شبكة الرافد " مؤسسة أآل البيت "على العنوان الإليكتروني التالي : http://www.alrafed.net/books/fegh/menhaj3/menhaj14.html
10. إعلام الورى بأعلام الهدى ج2 ص 89 ـ110 عن موقع مؤسسة آل البيت على العنوان الإليكتروني التالي : saved from http://www.alrafed.net/books/hadith/ealam-2/2vara005.html
11. المجلسي: 57/151 عن موقع شبكة الحديث على العنوان الإليكتروني التالي : saved from http://www.hadith.net/arabic/products/books/gharib/gharib_4/ghrb-ar-02.htm
12. إبن القيم الجوزية : كتاب الطب النبوي، الجزء 1، صفحة 260 عن: http://www.ulamah.com/Taimiya.asp?book=10&ID=260
13. Stein DJ, Bouwer C, van Heerden B.(1996) : Pica and the obsessive-compulsive spectrum disorders. S Afr Med J 1996;86(12 Suppl):1586-8, 1591-2.


اقرأ أيضا
أكل التراب عقعقة Pica / ماذا نفعل مع الطعام في الأوقات الحرجة ؟ / أكل الثلج : عقعقةٌ ، ربما/ اضطرابُ العقعقة Pica من أين جاءَ الاسم؟


 



الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 21/08/2006