إغلاق
 

Bookmark and Share

أكلُ الحشرات؟ هل هو عقعقة؟ ::

الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/08/2006

أكلُ الحشرات(Entomophagia Insect Eating)؟ هل هو عقعقة؟
من القصص التي يرويها لك الكثيرات من الأمهات ما فعلنه عندما ضبطن أحدَ أطفالهن يمسكُ بإحدى الحشرات ويأكلها فمن الذباب إلى الخنافس حدث ولا حرج، وليسَ الفعلُ دائمًا ناتجًا عن عدم معرفة الطفل الصغير بذلك، فمن الأطفال من لا يمتنع رغم تعرضه للضرب عن ملاحقة حشرةٍ ما والإمساك بها وأكلها في السر بعد ذلك لسببٍ بسيطٍ بالطبع هو أنهُ يحبُّ طعمها!، ومن هؤلاء الأطفال من يصبحُ أكلُ حشرةٍ معينةٍ عادةً له وكثيرًا ما تكبرُ معه، ولما كان الاستمتاعُ بأكل الحشرات هو الترجمة الصحيحة لكلمة Entomophagia فإن سماعنا لقصص من بلاحقُ الخنافس ومن يفضلُ لحم الجراد إلى آخر ذلك أمرٌ يحتاجُ إلى بعض المناقشة، ولا توجدُ دراساتٌ عربيةٌ حسب بحثي تتناولُ هذا الموضوع، لكنني لا أستطيعُ نسيان الحالة التالية:

"آكل الخنافس"
"كانت أم عدوي واحدةً من مريضاتي العربيات تتابع علاجها معي من اضطراب الوسواس القهري منذ ستة أشهر وقبل بداية إحدى جلسات العلاج السلوكي طلبت مني كطبيب أن أبين لابنها ما يمكنُ أن يصيب الإنسان من الضرر إذا أكل الذباب! وعندما سألتها عن أهمية ذلك قالت لي: عدوي هو أكبرُ أولادي كما تعلم وهو الآن على مشارف البلوغ فعمرهُ اثنا عشر سنة رغم أنهُ قليل البنية كما ترى، وقد كانت له عادةٌ غريبةٌ منذ طفولته، فقد لاحظت وهو في الرابعة من عمره أنهُ يمسكُ الذباب ويضعهُ في فمه، ورغم أنني شرحتُ له ما أعرفه من أضرار ذلك بل إنني ضربتهُ أكثر من مرة لكي يكفَّ عن ذلك، وكان يعدني دائمًا بأنهُ سيكف عن مثل هذا الفعل لكنني أكتشفُ من حينٍ لحينٍ أنهُ ما زال يفعل.

وأما الأغربُ فهو ما حكاهُ لي أخوه الأصغر وتأكدتُ منه وهو أكله للخنافس أيضًا! بل إنهُ يجمعُ الخنافس في علب الشاي ويخبؤها في دولاب ملابسه في البيت ليأكلها بعد تقشيرها ونحن نيام!، كان ذلك مفاجأة كبيرةً لي عرفتها فقط منذ أسبوع ولا أدري إن كان بإمكانك تغيير أفكاره كما تفعلُ معي؟ أو على الأقل أخبره بخطورة ذلك، لستُ أدري كيف أن ابني رغم ذكائه وتفوقه الدراسي لا يستطيعُ منعَ نفسه من مثل هذه العادة المقززة، وأنا بالفعل خائفةٌ عليه خاصةً وأنهُ يبدو مقتنعًا بما يفعل لأنهُ عندما رآهُ أخوه وهو يضعُ الخنفساء في فمه راح يحاول إقناع أخيه بأن يجرب طعمها الذي لا يقاوم!

وعندها طلبتُ منها أن تخرجَ وتتركَ ابنها معي قليلاً، ففعلت، وعندما سألتهُ عن تعليقه على ما قالته أمهُ قال أنهُ صحيح لكنهُ لا يستطيعُ منعَ نفسه من فعله رغم استقذار الآخرين له، وقال بالحرف الواحد "لقد حاولت ولكن صدقني يا سيدي إن رؤية الذبابة وهي تطير تحرك فيَّ رغبةً شديدةً في الإمساك بها وبلعها، مع أنني لا أكادُ أجد لها طعماً، ربما يكونُ هنالك بعض الإحساس بالدغدغة في حلقي وهي تحاول الإفلات وهذا هو كل ما هنالك.

وأما طعم الخنافس فلا أظنُّ من يتذوقه مرةً سيستطيعُ مقاومته، أنا أعرفُ جيدًا أنه سلوكٌ غريبٌ ومشينٌ، لكن رغبتي في فعله وتكراره أكبرُ من قدرتي على المقاومة"، ولم تكن لديه ولا لدى أمه أي شكاوى أخرى تتعلقُ بالسلوك عدا أنهُ عندما تقتربُ مواعيد اختباراته وينهمكُ في المذاكرة، كثيرًا ما يأكلُ أظافره أو ينزعُ بعض شعرات رأسه وهو شارد الذهن في استذكار ومراجعة دروسه غيبا، وكذلك عندما يندمجُ في متابعة برامج التليفزيون، لكنهُ أول الفصل وله صداقاتٌ عديدة وعلاقاته طيبةٌ بالجميع.

وكنتُ قد لاحظتُ أنهُ يرمشُ بعينيه كثيرًا، وعندما سألتُ أمهُ عن ذلك قالت لي أن هذا لا يحدثُ إلا عندما يكونُ في موقفٍ صعبٍ عليه نفسيا وقد ورثَ ذلك عن أبيه، ولم يكنِ الأمرُ يمثلُ أيَّ مشكلةٍ في رأي الأم".

ماذا يكونُ تشخيصُ مثل هذه الحالة يا ترى؟ فعندنا سلوك هو: أكلٌ لما لا يؤكل بل لما يستقذره الناس، وعندنا ما يشبهُ الأفكار التسلطية التي تجعلُ فعلَ الأكل التالي لها بمثابة الفعل القهري، لكن فعل الأكل يُمتعُ المريض، وعندنا أشكالٌ غير مكتملةٍ على الأرجح من قضم الأظافر ونتف الشعر والعرات أو اللوازم الحركية المتمثلة في الرمش بالعينين، ثم أن الأم تعالجُ من اضطراب الوسواس القهري والأب تعتريه أحيانًا بعضُ العرات، ألا يجعلنا ذلك نفكرُ في نطاق الوسواس القهري؟

والحقيقةُ أن البحثَ عن تاريخ الإنسان في أكل الحشرات يبينُ أن العديد من بلدان العالم تعرفُ هذه الظاهرة، وإن كانَ الحديثُ عن حشراتٍ أو ديدانٍ مقليةٍ أو مطبوخةٍ -وليسَ عن حشراتٍ تؤكل حيةً أو نيئة- هو الغالب، وأشهرُ دول العالم اليوم في ذلك هيَ تايلاند حيثُ توجدُ مطاعمُ تقدمُ أطباقًا عديدةً من الحشرات، ولكنها ليست تايلاند فقط فمعلبات النحل والجندب أو القبوط Grasshoppers واليُسْروع Caterpillars (نوعٌ من اليرقات الدودية) المعدةُ للقلي تباعُ أيضًا في الصين وفي اليابان وفي لندن(Miranda et al.,2003)، وفي غيرها من البلدان الغربية(Giroux,1996) وهناك كثيرٌ من الأبحاث التي تجري حديثًا لتبين القيمة الغذائية العالية للعديد من أنواع الحشرات (McRae,1995).

ومن يريد أن يتأكد من ذلك فليدخل على شبكة الإنترنت باحثًا عن Insect Eating، ليكتشفَ وجود أكثر من سبعة عشر ألف صفحة إنترنت تتحدثُ في الموضوع وذلك حتى يناير عام 2003 ومن بينهم من يشرح لك كيفية الإعداد والتجهيز ومن بينهم من يدلك على المطاعم التي تقدم لك أفضل أنواع الحشرات جاهزةً أو الكتب التي تشرح لك فوائدَ وطريقةَ تناول الحشرة، ومنهم من ينصحُ فقراء العالم الثالث بأكل الحشرات بدلاً من تركها تأكل المحاصيل الزراعية (Miranda et al.,2003).

ويقودنا البحثُ عن أكل الحشرات في تراثنا العربي إلى الأحكام الفقهية المتعلقة بما يحلُّ وما لا يحل أكله كما يقودنا البحثُ عن أكل الذباب وابتلاع الذباب إلى الأحكام الفقهية المتعلقة بما يُفطرُ الصائمَ وما لا يفطرهُ ويوجد في البلدان العربية من يأكلُون الجراد حتى يومنا هذا فهو حلال، وقد أجمع الفقهاء على جواز أكله، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أُحِلَّتْ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكَبِدُ والطَّحالُ)صدقَ صلى الله عليه وسلم، أخرجهُ أحمد وابن ماجه والدارقطني.

أما بقية الحشرات غير الجراد فقد ذهب الأحناف إلى حرمتها كلها لأنها تعد من الخبائث وذهب المالكية إلى حلها لمن لا تضره، ولبقية المذاهب تفصيلات في هذه المسألة، فقد قال النووي في مذاهب العلماء في حشرات الأرض كالحيات والعقارب والجعلان وبنات وردان والفأرة ونحوها: "مذهبنا أنها حرام، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود" وأما قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعمٍ يطعمهُ إلا أن يكونَ ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحمَ خنزيرٍ فإنهُ رِجْسٌ أو فِسْقًا أهِـلَّ لغير الله به فمن اضْطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنَّ ربَّكَ غفورٌ رحيم} صدق الله العظيم الآية 145 من سورة الأنعام.

فقد قال الشافعي وغيره من العلماء: معناها مما كنتم تأكلون وتستطيبون، وقال الشافعي: وهذا أولى معاني الآية استدلالا بالسنة والله أعلم..." إلا أن الزاويةَ التي أودُّ تناولَ أكلِ الحشرات منها هيَ زاويةُ متى نعتبرها عقعقةً ومتى لا نعتبرها كذلك، لأن كونَ الحشرات (بعيدًا عن كون بعضها سامًا) مكونةً من مواد غذائية (بروتينات ودهون غير مشبعة) يجعلُ من تعريف العقعقة بأنها أكل مواد غير مغذيةٍ تعريفًا يحتاجُ إلى مراجعة، ويصبحُ الأفضلُ بعد حصر كلامنا على مجتمعٍ معينٍ في زمنٍ معين هو أن نقولَ في تعريفنا الطبي النفسي وعلى منهج الشافعي الفقهي أن العقعقةَ هيَ الأكلُ المستمرُّ لمأكولٍ غير ما يأكلهُ ويستطيبهُ الناسُ في مكانٍ ما وزمانٍ ما".

المراجع:
1. Miranda , E.D. López ,M.G., Escamilla-Santana , C. and Barba de la Rosa A.P. (2003) :Characteristics of Maize Flour Tortilla Supplemented with Ground Tenebrio molitor Larvae . J. Agric. Food Chem., 50 (1), 192 -195, 2002. saved from url=(0058)http://www.pubs.acs.org /hotartcl/jafcau/jf010691y_rev.html Aguilar.
2. Giroux, M. (1996) :Eating insects is a long-standing tradition in many cultures. Raising Mealworms 9, 1.
3. McRae, T. (1995) :Insects in the human diet; 1995; Saved From :http://www.biologie.uni-halle.de/bzopon/leating1.html.

اقرأ أيضا
أكل التراب عقعقة Pica / ماذا نفعل مع الطعام في الأوقات الحرجة؟ / أكل الثلج: عقعقةٌ، ربما / اضطرابُ العقعقة Pica من أين جاءَ الاسم؟ / العقعقة Pica في نطاق الوسواس القهري / ظاهرة الوحام في النساء وعلاقتها بالعَقْعَـقة / علاجُ العقعقة



الكاتب: أ.د وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/08/2006