هل هو المرض؟ توهم المرض؟ أم شماعة أعلق عليها كسلي وفشلي الدراسي؟
مرحبا، أنا طالبة طب عمري 27 على أعتاب التخرج، أشعر بأنني فقدت السيطرة على حياتي وتوقفت عن الذهاب للجامعة والمستشفى منذ عشر شهور وانعزلت عن العالم الخارجي ولم أخرج من البيت إلا نادرا خلال هذه الفترة!
بعدما بدأت الكتابة وجدت أن رسالتي طويلة جداً جداً فحاولت الالتزام بالارشادات المقترحة ولكنها لازالت طويلة فاعذروني.
1- أعلم أن دوركم إرشادي ولن يكون أبداً بديلاً للعلاج النفسي ولكنني أقيم في منطقة محددة جداً ولا أريد أن أعرّض نفسي للـ "Stigma" خاصة أنني في وقت ما أردت العمل والتخصص في مجال الطب النفسي وإن تحسنت أتمنى أن أكون طبيبة نفسية لذا لا أظن أن معرفة "الناس"، "الزملاء"بمرضي أو مشاكلي سيساعدني في الاتجاه لهذا التخصص أو حتى غيره من مجالات الطب.
2- هناك الكثير من النقاط التي قد تشير إلي وأتمنى أن تحذفوا ما ترونه واضحاً ومحددا جداً وأتمنى "بأنانية" أن تردوا علي بسرية إن أمكن وإن كنت أتفهم أن من شروطكم أن تنشروا ما ترونه مناسبا دون تعديل!
العائلة:
- عائلتي مكونة من أب، أم، عشر أبناء، ترتيبي الرابع.
- علاقتي بوالدي سطحية في الماضي وحاليا أعمل كممرضة له! كان ضيفاً يأتي للمنزل للنوم وتناول الطعام (بمفرده) وتبديل الثياب، لا يتحدث معنا إلا نادراً ولم يسبق لي رؤيته غاضبا أو ضاحكا أو غيره لم يكن يملك أي تعبيرات، شخص انطوائي قليل العلاقات وكان يرفض تواصلنا مع الأقارب ويرفض زيارتنا لأصدقائنا "لأن كل الناس سيئون" في نظره، كان يعمل بجد صبحا ومساء، كريم جداً وفر الكثير من الطعام والملابس والمقتنيات الفاخرة وكنت دائما أمتلك مصروفا جيدا، تقاعد منذ سنوات عند إصابته بمرض عصبي جعله مقعداً
.
- علاقتي بوالدتي معقدة، كانت جيدة في الماضي عندما كنت أوافقها الرأي، وأستمع إلى شكاويها المستمرة عن والدي الذي تصفه "بالاناني"، وعن أقاربنا وحماتها جدتي (التي كانت فعلا لا تطاق) وعن ظلم مديرها في العمل ومكائد زميلاتها وزملائها، عندما توقفت عن الاستماع والتعاطف معها وموافقتها – قبل بضع سنوات- غيرت معاملتها معي كثيراً وصارت تتهمني بالأنانية والعقوق
.
- علاقتي بإخوتي وأخواتي جيدة أنا وأختي التي تكبرني شاركنا في تربية إخوتنا الصغار، بسبب غياب والداي المستمر في العمل، كانت أختي تهتم بنظافة البيت وترتيبه أكثر وأنا أهتم بالأطفال أكثر، تعلمت تغيير الحفاظات وأعداد الحليب وعمل البيض المقلي منذ كان عمري تسع سنوات وتحضير طعام الغذاء والطبخ عندما كان عمري 11 سنة، بالإضافة إلى الاهتمام بالأطفال الرضع كنت أهتم بالأكبر سنا كاسكاتهم وحل نزاعاتهم أثناء وقت قيلولة والداي لا سمح لهما بأخذ قسط من الراحة، وأعدادهم للذهاب للمدرسة والاستحمام وحل الوجبات وتدريسهم بعد عودتهم وأعدادهم للنوم في الليل
.
كانت والدتي تقوم بالطبخ فقط بسبب ضيق وقتها، البيت كان غالبا غير مرتب وغير نظيف فهي كانت مرهقة طوال الوقت تحاول تدريس هذا وغسل ملابس ذاك وتطبيب مرض الآخر وكثيراً ما تتهمنا بالتقصير وعدم مساعدتها، أتذكر أقتراح والدي جلب خادمة تساعدها ولكنها رفضت لأنها لا تريد أن يدخل البيت غرباء
.
كنت ولازلت دائما أشعر بالأسف وتأنيب الضمير حيالها وأتعاطف معها ولكني أكتشفت إنني مهما فعلت وبذلت من جهد لا أستطع إرضاءها ومهما اقترحت عليها من حلول لمشاكلها في العمل وتحسين حالها وتعويض ما فاتها لم تأخذ بها، دائما تتحدث عن كون جميع الناس سعداء وناجحين ولكنها الوحيدة التي فشل زواجها وأبناؤها والحزن يغمر بيتها! مع العلم أن أخوتي جميعهم يبلون جيدا دراسيا وعمليا واجتماعياً باستثنائي أنا وآخر فقط ولكنها تحب التركيز على الجانب الفارغ من الكوب!
التاريخ المرضي لعائلتي:
الأمراض العضوية:
الأب: ارتفاع الضغط ومرض عصبي نادر
الأم: ارتفاع ضغط العين والسكري
الأخوة: لا يوجد
الأمراض النفسية:
عمى: مصابة بانفصام الشخصية (تم تشخيصه وكان يتناول علاج لا أعرفه) توفي منذ سنوات، ابنه انتحر بحرق نفسه قبل موت والده بفترة قصيرة، وابن آخر يقال أنه مصاب بنفس مرض والده خرج في أحد الأيام ولم يعد.
ابن عم آخر توفي/انتحر بجرعة مخدرات زائدة.
التاريخ المرضي لحالتي:
- لا أشكو من أي أمراض عضوية، تحاليل تعداد كريات الدم الكامل ووظائف الغدد الدرقية جيدة، لم أجرِ تحاليل لنقص الفيتامينات بسبب غلاء ثمنها، طولي متوسط ولدي زيادة في الوزن ولكن لا أعاني من السمنة.
- الأعراض الرئيسية: اكتئاب وقلق و عزلة.
- الاكتئاب:
بدأت أعراض الاكتئاب، الحزن الشديد منذ الطفولة، لا أتذكر شعوري بشي في حياتي غير الحزن، فمثلاً لم أكن أشعر بالحماس للذهاب إلى نزهة أو أي مكان ترفيهي للأطفال، ولم أكن أبتهج بالألعاب والملابس الجديدة، ولم أكن أفرح بنجاحي الدراسي، دائما أشعر بأنني "أتحمّل" حياتي ولا "أعيش" حياتي، بدأت الأعراض بالتأثير على أدائي الدراسي عند التحاقي بالجامعة في عمر 18 سنة فبالإضافة للحزن أصبح هنالك قلة الحيلة، ضعف التركيز، ضعف الحافز وعدم الرغبة بفعل شيء، الشعور بالتعب والأرهاق وألم متقطع في ظهري وكتفي، الشعور بالغباء والفشل وأنه لا مستقبل لي، الرغبة في الموت، التفكير في الانتحار، عدم الاهتمام بالصحة والنوم والنظافة الشخصية (تمر أسابيع وشهور دون أن أغتسل أو أمشط شعري مثلاً)، الانقطاع عن الصلاة، زيادة الشهية والأكل، الأرق وصعوبات النوم وازدياد ساعات النوم لتصل إلى 16 ساعة لا يغلبني النعاس إلا بعد أن أقرأ شيئا أو أتابع شيئا على التلفاز من المستحيل أن أنام بدون إحداهما إلى هذا اليوم.
رسبت لثلاث مرات خلال دراستي في الجامعة أما اعتزالي للمناسبات الاجتماعية والحفلات فكان في عمر 21 سنة.
بعد سنتي الثالثة في الطب مع زيادة وعيي وقراءتي عن الاضطرابات النفسية- لاحظت "نمطا موسمياً شتوياً" للاكتئاب، يبدأ الاكتئاب غالبا في شهر نوفمبر وويتصاعد ليصل أعلى درجات حدته "التفكير في الموت والبحث في الانترنت عن طرق مضمونة للانتحار" ، "الانعزال" في يناير ثم يتضائل تدريجيا بداية مارس وبدء الربيع ليختفي في أبريل فأعود لنشاطي العادي وهذا هو السبب الرئيسي في كوني استطعت أن أنجح خلال سنوات دراستي، فعلى الرغم من تغيبي وعدم مذاكرتي المستمرين طوال فترة الاكتئاب، دائما يتبقى لي بعض الوقت قبل موسم الامتحانات ليسمح لي بتدارك الأمر على الأقل والمذاكرة والنجاح بدرجات سيئة.
- القلق والتفكير المستمر:
أتذكر أن التفكير المستمر وإعادة تذكر أحداث اليوم وتحليل المواقف بالتفصيل بدأ في مراهقتي ربما في عمر 15 سنة؟ كان أي موقف بسيط في المدرسة أو حدث غير مهم يجعلني أعيد التفكير فيه مراراُ وأجد نفسي أبحث بين السطور عن معاني أخرى، بالإضافة للتفكير الدائم في الماضي، التفكير في المستقبل، التفكير في الموت، نظرتي للعالم متشائمة "لمَ يبذل الناس كل هذه المجهودات إذا كانوا سيموتون في النهاية؟"، السخط تجاه ربي الذي ابتلاني بشي أراه أكبر من قدرات تحملي، بحثي المستمر في الانترنت عن الحكمة من ابتلاء الأطفال، الخوف من حدوث شي سيء أو وفاة لأحد أفراد الأسرة، إذا رأيت أحد منهم نائما لا بد أن أتأكد من كونه لازال يتنفس، دائما متيقظة وحذرة وأراقب الوضع من حولي وأجفل بشدة لأي حركة أو صوت مرتفع، أتأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ بعد نوم الجميع، أطفيء الفرن ولكنني لا أرتاح حتى أعود لأتاكد من اطفاءه، الشعور بأن الجميع ينظر إلي أو يتحدث عني عند دخولي لمكان به مجموعة من الناس، الإكثار من قول كلمة "شكرا" ، "آسفة" لأتفه الأسباب.
الخوف من الفشل، الخوف من الاختبارات الشفهية، بطريقة ما اقنعت نفسي بفكرة أنني إذا لم أذاكر ودخلت الامتحان ورسبت فهذا لا يعني أنني "حمارة" وفشلت وإنما الفشل هو أن تذاكر وترسب بعد مذاكرتك لهذا كثيرا ما أتجنب المذاكرة كي لا أتبث لنفسي أنني "حمارة"!
الرثاء لنفسي وحالي "لماذا يحدث هذا لي؟"، "كيف أعود إلى سابق عهدي" "هل يمكن أن أصبح سعيدة في يوم ما" "هل أنا فاشلة أم كسولة أو هو المرض النفسي أو الكل مجتمع معا؟" ، "البحث المستمر والنقاش الدائر في عقلي عن تفسير
لحالتي وإيجاد أسباب مشكلتي وطرق حلها"
- محاولاتي البائسة في الشفاء؟:
القراءة عن الأمراض وقصص الناس واستشاراتهم وكتب أنماط الشخصية ساعداني في فهم الكثير والبدء في محاولة احتواء المشكلة والتعامل معها.
وجدت أن الإجابة قد تكون أنني أعاني من مشكلة نفسية ما قد يكون "اكتئاب موسمي" أو ربما "اكتئاب ثنائي القطب من النوع الثاني" أو نوع آخر من الاكتئاب بالإضافة إلى "القلق" أما الصعوبات الاجتماعية فقد عزوتها لطبيعة شخصيتي الانطوائية.
بدأت أحاول الاهتمام بنفسي (نظام غذائي، تنظيم مواعيد النوم وممارسة للرياضة)، الصلاة في وقتها، قراءة القرآن، لفترة قصيرة كنت أعبد الله لأني أحبه وليس لخوفي من جهنم.
جعلت علاقتي بصديقاتي المزعجات محدودة وتقربت ممن أراهن مفيدات، بدأت ألحظ تصرفاتي ومشاعري لأجل التنبه لأي علامة إنذار قبل الاستغراق في مشاعر الاكتئاب والقلق، كان الأمر متعبا وأظن أنه فاقم من حالة القلق والتيقظ عندي ولكن النتيجة كانت جيدة الاكتئاب دام لشهر واحد بعد أن كانت يدوم 3-6 شهور ولم أتغيب عن الجامعة سوى أسبوعين! نجحت بدرجات لا بأس بها في بعض المواد، وبدأت أفكر في المستقبل بشكل ايجابي نوعا ما وبدلت فكرة كرهي لمجال الطب بحبي لمجال الطب النفسي، دام هذا "التحسن" لسنة ونصف كانت تلك هي نفس الفترة التي بدأت فيها بالتهرب من حديث والدتي "السلبي" ففاجأتني باتهامها "بالعقوق" ، "التقصير في مساعدتها" وهو ما حدث فعلا لكوني قد قللت من عملي في البيت و جعلت الأولوية للنفسي ودراستي، فبدأت أشعر بتأنيب الضمير وتأنيبها لي كل يوم جعل كل تفكيري أني "ابنة عاقة وأنانية" وبدأ الاكتئاب يسحبني إلى أن دخلت في انتكاسة، كانت مشاعر الاكتئاب والحزن وقلة الحيلة والغضب كلها مجتمعة في داخلي شعرت بأنني حبيسة وأنني قيدت نفسي بفشلي في السابق وتحملي لجزء كبير من المسئولية في البيت وكأن الجميع يريدني أن أستمر في البقاء على هذا الحال حتى أقوم بخدمته ومساعدته، تذكرت قول والدي لي بسخرية "نظام غذائي؟ أسبوعين وترجع حليمة لعادتها القديمة "تذكرت قول والدتي لي عندما رسبت في الماضي."
الطب صعب عليك انتقلي لتخصص أسهل "تذكرت عندما كان يوقظني أحد أخوتي من نومي كي أعد لهم الطعام مع أنهم يستطيعون أعداده لأنفسهم" نحن نريد أن نذاكر ولكنك غير مشغولة فأنت لا تفعلين شيئا سوى النوم "شعرت بالكره والإزدراء تجاه نفسي، وأنني السبب فيما حدث ويحدث لي، لم أعد أطيق نفسي كانت الانتكاسة في الشتاء أيضاً وفي فترة اختبارات كانت أول مرة أشعر فيها بالغضب الشديد خلال حالة الاكتئاب وكنت أحاول بصعوبة تجميع تركيزي المتشتت بين الغضب والبكاء والرغبة في الموت (ليس الانتحار) للمذاكرة وتحاشيت جميع أفراد أسرتي بقدر الإمكان، قضيت شهرين في البيت في عزلة احضر للاختبارات، عندما وصلت للجامعة يوم الامتحان شعرت بشعور غريب "أنا موجودة هناك وكأنني لست موجودة كل شيء يبدو غير حقيقي ووهمي الألوان والأصوات وكأن الجميع شخصيات تقوم بالتمثيل وكأنني أتابع فيلما! هل أنا حقيقية أم خيالية؟.
هل هم حقيقيون أم خياليون؟ كانت زميلاتي يتحدثن إليّ و لكنني لم أرد عليهن لأنني ظننت أنني لست موجودة إلى جانبهن" كان شعوراً غريباً جداً ولكنني عزوته إلى عزلتي الطويلة عن العالم الخارجي ولم أهتم به كثيراً لكوني في فترة اختبارات، قرأت في وقت لاحق عن"Derealization" ، "Depersonalization" وشعرت أنه قد يكون تفسيرا مناسبا لما حدث ولكن ربما أبالغ؟
دامت تلك الانتكاسة طوال العطلة التالية ومن حظي أنه كان آخر امتحان وتحسنت قليلاً ثم بدأ العام الدراسي التالي، كانت الدراسة في المستشفى، استعددت لتحمل التفاعلات الاجتماعية المتوقعة ووعدت نفسي بالاستمرار والصبر، تحملت جلسات الغيبة والنميمة بين الممرضات، الحرب الباردة بين الأطباء، والمنافسة الغير شريفة بين الطلاب لأجل الظهور بمظهر الأذكياء المتقنين لعملهم كان شعارهم الغير معلن "أظهر زميلك بمظهر سيء كي تبدو أفضل منه"، كنت أذهب للمستشفى وكأنني ذاهبة إلى ساحة حرب، وأعود للبيت لأسمع شكاوي أمي وأطبب والدي الذي لم يكن يهتم به أحد غيري ووالدتي، حاولت أن "أتحمل الحياة" كما وعدت نفسي مسبقاً ولكنني انهرت ودخلت في انتكاسة في شهر مارس 2017 لقد تحملت بضع شهور فقط، ياللي من ضعيفة كان طبيبي المشرف كثيرا ما يصفني "بالغباء" ، "الجهل" وكان يستمتع باحراجي بالأسئلة أمام زملائي لأنه يعرف أنني لن أجيب، وإذا حدث وإن أجبت زاد تنمره شد، ضحكات الزملاء، الغمز واللمز، أجواء ذكرتني بالماضي لم أرد أن يشعر بالانتصار فتحملت بابتسامة متصنعة "تنمر" طبيبي المشرف، صحيح أنني لا أملك خلفية علمية جيدة بسبب مستواي الدراسي، ولكنني لن أسمح له بأن يجد ثغرة في عملي، فكنت أعمل بجد، كنت أول من يحضر وآخر من يغادر وبمجرد لم أرتكب خطأ واحداً، واتبعت جميع التعليمات بدقة وحذر، ولكن ما أن انهيت فترة الدراسة والتدريب في قسمه وبدئي في قسم آخر انهرت، ولم أستطع الإكمال، دخلت في اكتئاب عميق مرت الأيام والأسابيع والآن 10 شهور مرت وأنا في نفس النقطة لقد "عادت حليمة لعادتها القديمة" كما تنبأ والدي ، "الطب صعب عليّ" كما قالت والدتي ولكنني أعاند؟!
التفكير في الانتحار:
رغبتي في الموت وتمنى أن أنام وألا أستيقظ شيء شعرت به منذ سنوات طوال ويلازمني طوال فترة الاكتئاب،.
رغبتي في إنهاء حياتي والانتحار: فكرت به للمرة الأولى في سنتي الأولى في الجامعة، فكرت في رمي نفسي أمام السيارات أو قطع شرايين معصمي ولكنني خفت ألا أموت واضطر لمواجهة عائلتي
.
المرة الثانية قبل بضع شهور خلال انتكاستي الحالية، كانت طريقتان في ذهني أما القفز من مبنى عال أو الشنق، نسبة النجاة من القفز أعلى من الشنق لأن المبنى الذي فكرت فيه ليس عاليا بما فيه الكفاية ولكنني لم أرد أن أشنق نفسي في البيت فبحثت في الانترنت عن طرق انتحار أخرى فوقعت على مواقع مناهضة للانتحار وكان كلامهم كافيا لجعلي أشعر بالغباء والسذاجة والجبن، فابعدت الفكرة عن رأسي واستغفرت ربي، بعدها بفترة قصيرة سمعت بانتحار فنان أعرفه وقرأت رسالة انتحاره كانت الكثير من كلماته تصف ما أشعر به بالضبط مما جعلني أستغرق أكثر وأكثر في اكتئابي وفكرت مجدداً في الانتحار أقول لنفسي "أتخسرين دنيتك وآخرتك؟" فيرد صوت "وهل ما تفعلينه الآن سيدخلك الجنة؟" ليرد صوت ثالث" إذا كانت جهنم هي مصيري لم أطيل عذابي؟" أستغفر الله العظيم.
- سأبدأ بسرد التفاصيل التي أظنها مهمة منذ الطفولة ترتيباً تصاعدياً:
- في عمر الخمس سنوات تعرضت لحادث سيارة (صدمتني سيارة أثناء عبور الطريق)، لم تكن أصابتي بليغة ولكنني لا زلت إلى الآن أخاف عبور الطريق وأشعر بالضيق والتوتر أثناء ركوبي في السيارة (تعرق في اليدين خفقان جفاف الشفتين والشعور بالعطش) كما أنني لا أستطيع قيادة السيارة..
- في عمر الست سنوات كانت والدتي على وشك الولادة فأرسلتني إلى بيت جدي في الريف، هناك تعرضت لتحرش/اعتداء جنسي من قبل ابن خالتي الذي كان يبلغ من العمر 16 سنة، في المرة الأولى لم أفهم ما يحدث ولم أقاوم ولكنني فهمت أن هنالك خطبا ما وأنه شيء غير طبيعي لهذا بدأت في تجنبه والتهرب منه، في المرة الثانية عندما حاول استدراجي بنفس الطريقة حاولت التهرب ولكنه أخذني عنوة، حاولت المقاومة ولكنه كان عنيفاً ولسبب ما ذكرياتي متقطعة لا أستطيع تذكر جميع تفاصيل ما حدث كل ما أتذكره هو محاولاتي الفاشلة في الهرب والاستجداء وقوة أطباقه بيده -ذات رائحة التراب التي لن أنساها مدى الحياة- على فمي وقوله لي "انتظري قليلا فقط قليلا فقط" وأصوات أبناء أخوالي الآخرين وهم ينادون علي ثم لا شيء لا أتذكر شيئا هل أعتدى علي؟ هل توقف عند سماعه لمن يناديني؟ هل هذا كله وهم ومن مخيلتي؟
لاحظت ابنة خالتي "ابنة خالة أخرى ليست شقيقة المعتدي" التي تكبرني بسنوات "إنني تغيرت" ، "إنني أتهرب من ابن الخالة ذاك" فسألتني لمَ أفعل ذلك "فرددت عليها أنني لا أرتاح له وحسب ولم أخبرها بما حدث" لا أعرف لم لم أخبرها؟ وإلى يومنا هذا أظن أنها ووالدتها تعرفان بما حدث! لم أخبر والدتي بما حدث ونسيت ما حدث تماماً لسنوات.
- في عمر الست سنوات التحقت بالمدرسة لازلت أتذكر أول يوم لي في المدرسة شعرت بالخوف والغربة ولم أستطع التحدث إلى زملائي وكنت أقضي وقت الحصص الدراسية في الفصل ووقت الفسحة مع شقيقتي التي تكبرني ولم أقض أي وقت في اللعب مع أقراني وكانت تواجهني صعوبة في الاندماج معهم
.
كنت أجد الدراسة سهلة جداً ولم أفهم معاناة أقراني في الكتابة والحفظ لأنني كنت قد تعلمت القراءة والكتابة مسبقاً مع شقيقتي التي تكبرني وهو ما كان يحدث في كل عام لهذا كنت متفوقة جداً دراسياً دون بذل مجهود كبير في الدراسة مما جعلني أشعر بأنني أكثرهم "ذكاءً" وأنهم كثيراً ما يتصرفون "بطفولية".
- من الصف الأول إلى الرابع –تحسنت علاقتي مع أقراني وإن كنت أفضل الحديث واللعب مع الأولاد أكثر من البنات لأنهم يشاركونني نفس الاهتمامات "نفس الرسوم الكرتونية" و"العاب الفيديو" بينما البنات اهتماماتهن كانت باللباس وتتبع آخر صيحات الموضة والمسلسلات والأغاني التي لم أكن أعرف عنها شيئاً وكنت أعتبرها سخيفة وتافهة.
- من الصف الخامس إلى الثاني الإعدادي تعرضت للتنمر من زميلاتي، كانت هنالك الكثير من الشائعات حولي التي لم أعرف ما هي؟ كان هنالك السخرية من شكلي، طريقة لباسي، كذلك الضحك والتغامز الغير مفهوم كلما حضرت أو جلست معهن، كن يطلبن مني حلول الواجبات وتغشيشهن في الاختبارات فأرفض وأقول لهن أنه غش فيصفنني بالشريرة والأنانية، كنت كلما صرت مقربة من إحدى الزميلات قامت – رئيسة المتنمرات- بالتقرب إليها وأبعادها عني تماماً، عندما واجهتهتن لأجل فهم سبب كرههن لي "رئيسة المتنمرات" أخبرتني بغضب أنني فتاة "منحرفة" ، "صايعة" وأنني على علاقة حب بفلان وعلان في نفس الوقت وهو شيء لم أستطع استيعابه لأنه حدث في الصف الخامس!! (كنا أطفال ولكنها تتحدث عن الحب والخيانة ومواعدة شخصين في نفس الوقت لم أكن أتابع المسلسلات وقتها لأفهم قصدها!! ولم أعرف معنى "صايعة" فسألت والدتي عند عودتي فأخبرتني بأنها كلمة "سيئة" ولايجب علي ترديدها.
)
في إحد المرات صفعتني "رئيسة المتنمرات" على خدي فرددت الصفعة ودخلنا في شجار جسدي ومن حينها زادت حدة التنمر، فكان كثيراً ما يسرق طعامي ومائي ومالي ولا أعرف من سرقه؟ كراساتي تضيع ولا أعرف كيف وأين؟ أصبحت وحيدة تماماً في المدرسة وكنت أدفن وحدتي في قراءة القصص والكتب ومجلات الأطفال وكونت صداقة مع بعض الشخصيات التي كانت في القصص وكنت دائما أتحدث إليها في ذهني.
البعض من الأولاد كان ينضم إلى "سرب" المتنمرين والآخرين بدأت علاقتي تقل بهم خاصة مع بداية المرحلة الاعدادية واقتراب البلوغ.
في المرحلة الإعدادية انضمت إلينا زمليتان جديدتان، كانت صديقتان مقربتين لبعضهما فقامت "رئيسة المتنمرات" بفصلهن والتقرب لأحداهن، الأخرى أصبحت فريسة التنمر الجديدة مما أزال عبئاً كبيراً عني، كانت الشائعات تنتشر والكل يغتابها والفتاة "المسكينة" لا تعرف، فقررت أخبارها بما يحدث فأخبرت والدتها فانقلبت المدرسة رأسا على عقب، الكثير من البكاء والاعتذارات، ومع الوقت ضمت "رئيسة المتنمرين" الفتاة التي ساعدتها لسرب المتنمرين وعدت لكوني الفريسة ثم انتقلت وصديقتها من المدرسة في العام التالي، كنت أشعر بالغضب والغباء والسذاجة وقطعت عهداً على نفسي ألا أساعد أحداً ولن أتقرب لأحد ولن أكثرت لأحد إلى يوم الدين!
كثيراً ما طلبت من والديّ نقلي من المدرسة ولكنهما لم يهتما، أخبرت والدتي عما يحدث في المدرسة وما مررت به وكيف انضمت الفتاة التي ساعدتها للمتنمرين فلم تفعل شيئاً، بل وجدتها في إحدى المرات تحكي لخالاتي عما يحدث معي فشعرت بالغضب الشديد تجاهها.
- فترة التنمر كانت نفسها الفترة التي تذكرت فيها حادثة التحرش مما جعلني أتعامل مع ذكرى مشتتة لم أفهمهما وأستوعبها تماما وشعوري بالثلوت والغضب في البيت بالاضافة لتحملي للتنمر في المدرسة، في وقت قصير سمعت بغشاء البكارة ولكم أن تصفوا ما يمكن لمراهقة جاهلة أن تشعر به أضفت العار وخوفي ألا أكون عذراء للقرف والتقزز والتلوث والغضب الذي كنت أشعر كل يوم!
- في الصف السادس زميلي الذي كان يشاركني نفس المقعد لمدة ثلاث سنوات، انتحرت والدته بشنق نفسها فتغيب عن المدرسة لفترة وعاد وكان عادياً، بعد بضعة أشهر تزوج والده من معلمة كانت تدرسنا في إحدى المواد، كانت عصبية ومخيفة يتحول وجهها للون الأحمر والبنفسجي عند الغضب، لهذا كثيرا ما كانت عقاباتها شرسة، تضرب الجميع أربع ضربات بالعصا أما زميلي ابن زوجها فكانت تضربه لفترة طويلة على وجهه، يديه، ظهره، ورجليه إلى أن يسقط على الأرض فتبدأ برفسه بأقدامها، كان المشهد يتكرر كثيراً لهذا كنت أحاول مساعدته كي لا يتعرض للعقاب فأتعرض بدوري للعقاب وأحيانا يتعرض هو لعقاب مضاعف لمساعدتي له فأشعر بتأنيب الضمير، لم أخبر أحدا ولم يخبر هو أو أي من الطلاب أحد بما يحدث واستمر "العنف" حتى أنهينا السنة الدراسية! هذا الزميل نفسه أصيب بورم خبيث وتوفي بعد بضع أسابيع من تشخيصه أثناء دراستنا في المرحلة الإعدادية فأصبت بحزن شديد!
- في المرحلة الثانوية التحقت بمدرسة جديدة، قررت ألا أختلط بأحد ولا أصادق أحد، اخترت مقعدا فردياً وعلاقاتي بالزميلات محدودة جداً، ولم أكن أهتم بكلام أحد، هناك من يتهمني بالأنانية والشر لعدم مشاركتي للواجبات ومشاركتهم الغش، وهناك من يصفني بالمعقدة وغرابة الأطوار لقلة كلامي، الكثير يخبرني في تلك المرحلة (من الزميلات والأقارب) أنني أبدو وأتحدث بشكل "أكبر من عمري" وإن حديثي ينم عن "نضج كبير" لهذا وجدت نفسي أحيانا أستمع لفضفضة فلانة وعلانة وأساعدها في حل مشكلة تمر بها، كان لدي الحلول لكل شيء، لم أكن سعيدة ولكنني مرتاحة، كنت متفوقة دراسياً، وازداد تعلقي بقراءة الروايات والكتب وجدت شخصية أخرى كنت أحدثها كثيرا في ذهني وأناقشها عن يومي.
- في المرحلة الثانوية حضرت خالتي التي أظن أنها تعرف بما حدث معي وكنت أشعر بها تنظر إلي بطريقة غير مريحة، في اليوم التالي لمغادرتها بيتنا أصبت بألم شديد في منتصف صدري كنت أبكي وأنتحب وأصرخ بأعلى صوتي نقلني والدي إلى المستشفى ولكن لم يجد الأطباء شيئا حقنوا بعض المسكنات وعدت للبيت
تكررت هذه الحالة ثلاث مرات أخرى ولكنني لم أبكي وأصرخ كالمرة الأولى وكنت في كل المرات أذهب لتلقي حقنة مسكنة وأعود للبيت، لم أربط بين زيارة الخالة وبدء هذه النوبات سوى مؤخراً.
- في المرحلة الجامعية واجهتني مشكلة في الاندماج مع عالم الجامعة، كان الازدحام في الجامعة والقاعات يوترني ولا أستطيع الجلوس بين شخصين لابد أن أجلس في الجانب، كان لدي عدد محدود من الزميلات المقربات وصديقتان مقربتان فقط، بدأت أعراض الاكتئاب تزداد شراسة لم أستطع التركيز ولم أستوعب ما يحدث معي وبدأت أتدهور نفسيا ودراسيا كما أسلفت في البداية.
.
- في المرحلة الجامعية بدأت الانسحاب من الأوساط الاجتماعية، كما قاطعت عائلة خالتي التي كان ابنها "المعتدي"، والكل يظن أن السبب هو تكبري وغروري لأنني أدرس في الطب.
- ما هو تصوري لنوعية المساعدة التي ستقدمونها لي؟
- مساعدتي في تحديد هل هي"مشكلة نفسية" أم "فشل دراسي" هل أبحث عن شماعة أعلق عليها فشلي؟ أم ما هذا الذي يحدث معي؟
- أظن أنني أحتاج إلى دعم ومتابعة، هناك جزء مني يدرك وجود مشكلة جدية ويعرف بعض الحلول، جزء يتمنى التحسن والنجاح والعودة إلى العالم الخارجي
وهناك جزء خائف يمنعني من التقدم والتحرك، كلما عزمت على الخروج والعودة للدراسة يقنعني بأن انتظر قليلاً، إذا فكرت في الذهاب غدا أقنعني بطريقة ملتوية إذهبي بعد غد إذهبي في الأسبوع المقبل وهكذا، ذهبت بضع مرات خلال الـ10 أشهر إلى الجامعة والمستشفى وكنت أشعر بصعوبة شديدة في الحديث مع الناس والتركيز وكنت أرغب في الهروب والعودة إلي البيت فأخرج قبل موعد الانصراف وأعود للبيت وأنا في غاية الإرهاق ليخبرني هذا الجزء "هل رأيتِ؟" "لا يمكنك التعامل معهم"
أشعر بأنني أدور في حلقات مفرغة منذ سنوات وأريد كسرها للأبد.
شكرا
7/1/2018
رد المستشار
السلام عليكم ورحمة الله أختي "عُلا" ومرحباً بك في موقع مجانين للصحة النفسية.
رسالتك كانت طويلة وغنية بالتفاصيل وقلما نجد رسالة منظمة بهذا الشكل، أحييك. وأحييك على تحمل المسؤولية منذ طفولتك فهذا شيء يبني الشخصية ويساعد على النّضج، لكن للأسف قد حُملت أكثر من مجرد تدريب، بل كان تقاسماً حقيقياً للمسؤولية بين طفلة وأمّها، ولم يكن تربوياً أيضا لأنه لم يكن يحمل المسؤولية لأصحابها، بل يحمّل المسؤولية للبنات دون الذكور ! وكأن الذكور لا يستهلكون شيئا ولا يوسخون، وكأنهم ضيوف ولكن دائمون وثقيلون ! فهي لم تتوانى في توزيع المسؤوليات على من يجب أن يكوّن نفسه، لكنها ترفض أن يدخل غريب لبيتها حتى يرتاح أهله ! فلم يدخل الغريب تسلّلت الغرابة للبيت !
المهمّ، كانت تلك إشارة لم أحب أن أفوّتها علّ من يقرأ هذه الاستشارة من الآباء والأمهات ينتبهون لأخطائهم المتكررة، وأن الأطفال مسؤولية آبائهم الذين أنجبوهم، وبعد أن يكبروا قليلا يصيرون مسؤولين عن أنفسهم ويعينون ويساعدون، وكلما كان التوازن النفسي والتربية الحسنة والاحترام في البيت كلما قدم الأبناء المساعدة دون خوف نكران جميل أو تنمّر ألامبالين من إخوتهم.
يجب أن تتخلصي من الإحساس بالذنب والتقصير مع أمّك مع محاولة مساعدتها في هذه الحياة، فأنت تصفينها وتقولين (كنت ولازلت دائماً أشعر بالآسف وتأنيب الضمير حيالها وأتعاطف معها ولكني اكتشفت أنني مهما فعلت وبذلت من جهد لا استطيع إرضاءها ومهما اقترحت عليها من حلول لمشاكلها في العمل وتحسين حالها وتعويض ما فاتها لم تأخذ بها. دائما تتحدث عن كون جميع الناس سعداء وناجحين ولكنها الوحيدة التي فشل زواجها وأبناؤها والحزن يغمر بيتها!) مع الأسف هذا يوضّح عجز وضعف النصائح الموجهة للأبناء دائماً وأبداً حتى يرضوا آباءهم ويفنوا أعمارهم من أجل انتزاع اعترافاتهم، ويحمّلون الأبناء كل الفشل والتقلبات. من الأمهات ما لا يمكن إرضاؤهن، وكذلك الآباء، فماذا يفعل الابن المسكين أو البنت المسكينة التي تعلّمت أن البرّ هو الطاعة والإرضاء وإفناء الذات والرغبات من أجلهم؟ ! فهو بين تمرّد يتجاوز فيه حدوده، وتأنيب ضمير، وبين تفان يتجاوز فيه حدود طاقته (نفسياً وبدنياً) فلا يحق له غضب ولا استياء ولا شكوى نظرا لتهمة "العقوق التي تنتظره جاهزة"، وأيضاً يتآكل بتأنيب الضمير هو أيضاً !! فهل هذه حالة إحسان صحية أم علاقة مرضية ؟
ماذا لو كان الأبوين يستنزفون الأبناء بسبب أمراضهم أو شخصياتهم أو سوء تصرفاتهم وقلة وعيهم؟ هل ينتحر الأبناء من أجل مجد البر والطاعة ؟ نحن نعي أن الآباء يعانون في الدنيا ومتاعبها، لكن الأبناء أيضا يعانون وجزء من معاناتهم راجعة إلى معاناة الآباء وتبعاتها عليهم، حتى أنّك لما وجدت الطريق للتحكم في الاكتئاب كان من أسباب الانتكاسة تحميل أمّك لك مشاعر الذنب والتفريط والخيانة نظرا لتمنّعك عن سماع شكاويها السلبية، وكان إجراء جيدا ذكياً، لكن للأسف انقضّ عليك مفهوم البر الذي يصدره الآباء والمجتمع معاً ويتحامل على الأبناء فيه ما تبقى من الوعاظ ! أمّك لن ترضى أبداً، وها أنت تلاحظين أنها تحب ولو لا شعورياً أن تجتر آلامها بأن رفضت الحلول لمشاكلها، تريد أن تشعركم أنها تعاني تريد الاهتمام من زوجها، لكنها تفعل ذلك بالطريقة الخاطئة، بدل الحوار تلجأ لطرق ملتوية ومتعبة لها ولأسرتها، هي من النوع الذي يكون ممتنّا في أعماقه، لكنها لا تعترف بذلك، لأن اعترافها ينزع منها صفة "المسكنة" التي تحب أن تمارسها دائما حتى تحنّوا عليها، فتخلصي من مشاعر الذنب اتجاهها، وبرّيها فيما يخصها ويريحها، وما يخصك لا تفرطي فيه فذاك حق مشروع لك من ربّك ودينك وعقلك.
بالنسبة لاحتمالية وجود اضطراب ثنائي القطب من النوع الثاني (يعني بهوس خفيف) فإني أستبعد ذلك، لأنك لم تشيري إلى نوع من أنواع الهوس الخفيف. لكن مما لا شك فيه أنّك مصابة باكتئاب مضاعف، بعد عسر مزاج دام وقتا طويلا، وعندك أيضا قلق اجتماعي وربما يُضاف إليه قلق متعمم، (كان أي موقف بسيط في المدرسة أو حدث غير مهم يجعلني أعيد التفكير فيه مراراُ وأجد نفسي أبحث بين السطور عن معاني أخرى) وتأكيد ذات منخفض، ربما كان سمة في الشخصية أو مرتبطا بالاكتئاب فقط، ويبدو اضطراب تأكيد الذات واضحا في عباراتك (، الشعور بأن الجميع ينظر إلي أو يتحدث عني عند دخولي لمكان به مجموعة من الناس، الإكثار من قول كلمة "شكراً" و"آسفة" لأتفه الأسباب) وأيضا شعورك بالغضب في اكتئابك الأخير والذي من الواضح أنّك لا تعطين نفسك الحق فيه ! لا تغضب الفتاة المهذبة والتي تشعر دائماً بأنها مفرطة ومذنبة في حق الآخرين فكيف تغضب !
القلق المتعمم قد يكون جزء من شخصية قسرية anankastic (دائماً متيقظة وحذرة وأراقب الوضع من حولي وأجفل بشدة لأي حركة أو صوت مرتفع، أتأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ بعد نوم الجميع، أطفئ الفرن ولكنني لا ارتاح حتى أعود لأتأكد من إطفاءه) لم تخبرينا هل هذه الأفعال القهرية تأتي فقط في حالات نوبات الاكتئاب أو هي عندك دائمة.
كانت تجربة المستشفى تجربة قاسية، ولا نستطيع أن نتحدث عن الضعف البشري هنا في أوساط مريضة تحطم كرامة الإنسان وتزيد معاناته، خصوصاً أنك أعلم بمعاناتك التي أخفيتِها كبرياء، فما أدراك بما يعانيه الآخرون مع تلك الأوساط والضغوطات والتوترات وسط قانون الغاب؟ إن ما ضغط عليك هو مستواك العلمي الضعيف كما قلتِ فقد كانت فترة التدريب مسرحاً لتقليب أوجاعك ومخاوفك يومياً، ولم يساعد الطبيب المتنمر في الأزمة، فقد تصرف بطفولية لا تليق بالمشرف فضلاً عن الطبيب الذي يعرف أوجاع الناس ! أو يُفترض به أن يكون كذلك، مع أننا نفهم أنّ الإشراف الأكاديمي على الطلبة يقتضي شيئاً من الصرامة ولكن بعيداً عن التهريج والأذى النفسيّ والتنمر لأنه لا ينفع ولا يرفع مستوى الطلاب، يحطّم الحساسين فقط.
لكن من جهة أفهم أن التضايق من مجالس الغيبة وأجواء التنافس فيه مبالغة نوعا ما، وهو الاكتئاب والحالة النفسية تأخذ تبريرات من ذلك لتتجنب أو تفسر نفورها، مع أننا لو فكرنا قليلا لوجدنا أن ذلك لا يعنينا نحن، وينبغي فقط أن نمضي لأهدافنا وحتى إن تأذينا من الأكاذيب فثباتنا على طريق أهدافنا كفيل بتبديد الشكوك حولنا، خصوصاً إن نسجنا علاقات جيدة مع الناس ولم نفتح الباب على اللئام بانعزالنا الذي يكون أكبر معين لهم لخلق الأساطير ونشر الأكاذيب.
الميل للانتحار، أراه طبيعياً في حالة الاكتئاب المرضي، ولعلّ الوعي بطبيعية تلك المشاعر السلبية وغير الواقعية (أقصد حب توديع الدنيا) يخفف من وطأتها، مثل أن نعي بنوبات الهلع، لكن التفكير المستمر في الموت والانتحار نذير حالة يجب أن تعالج.
التحرش غالبا سيكون حقيقة وليس مجرد وهم، لكنّه لم يكن اعتداء كاملاً ولله الحمد، ولم يترك آثارا واضحة على شخصيتك، لكن الحمولة السلبية بقيت بعد التحرش لا من جهة التحرش نفسه (في رأيي) بل من جهة مشاعر الذنب والعار والخزي (مع أنّك كنت ضحية التحرش وليس المتحرش)، التي لم تحتمل نظرات خالتك (التي قد تكون مجرد حملقة) لذلك حصلت لك نوبة هلع، حتى أّنّك شعرت بالضغط ولم تحاولي أن تواجهي خالتك، لكن كل ذلك تحرر وكل التجلّد ذهب عند مغادرتها. لذلك من المهم عدم الهروب من المشاكل النفسية. والشيء نفسه نقوله عن الرهاب النوعي من السيارات وقيادتها، فما وصفت أعراض قلق واضحة (تعرق جفاف حلق ضربات قلب متزايدة). لم يُعالج أثر الحادثة وبقي مرافقا لك.
أنت الآن تحت وطأة الاضطراب النفسي ولا تستهيني به، فكل خطوة نريد الإقدام عليها متناسين العائق النفسي والمرض النفسي هي مجرّد إحباط سيظهر عاجلاً أم آجلاً نصنعه بأيدينا، إذ نفترض أننا يمكن أن نتجاوز الحالة لأنها مجرد حالة عابرة وتحتاج الوقت فقط وقليلا من العزيمة ! ضعفك الدراسي تتداخل فيه تأثيرات الاضطرابات النفسية، وهي اكتئاب وقلق ورهاب اجتماعي وتوكيد ذات ضعيف وانزعاج بحضرة الآخرين، وأيضا ضعف تنظيم الوقت والتسويف (والذي قد يكون نابعا من الإحباط والاكتئاب والقلق).
وهنا نعود لفكرتك عن زيارة طبيب نفسي أو مختصّ، فهي فكرة خاطئة جداً، فمعظم الأطباء النفسيين لهم زملاء يتعالجون عندهم أو يتابعون معهم. أظنّ أنّ ما يضر طبيبا ممارسا أو أي مختص هو معرفة مستواه العلمي ونقاطه ومساره، وهذا بالذات ما ستقعين فيه بفكرتك الخاطئة هذه، وهي تجنب طلب العلاج ! وقد كان في حقك واجبا منذ زمن بعيــــد ! فما تخافين منه الآن من سمعة في المجال الذي تحبين أن تتخصصي فيه، تحفرين قبرها بيديك، فتوكلي على الله وتابعي عند طبيب نفسي، فمجموع اضطراباتك ومشاكلك النفسية تتجاوز طاقتك التسييرية لها ولا بد من معين وموجّه. وعسى أن تتحسني قليلا بعد شهرين من بداية العلاج فتعودي للكلية بنفس جديد وعقلية جديدة (علاج معرفي سلوكي)
وفي الحقيقة، بعد كل قصة معاناة مع كلية الطب، أحب أن أرى ذلك الإنسان سعيداً مرتاحاً ولو في كلية متواضعة أو معهد، يبدع فيه ويعطي فيه ويشعر بالحيوية ولعله يقدّم لنا أكثر مما يقدمه لنا إنسان مسحوق في نظام الطب والبدلات البيضاء. لا أقول لك أن الطب لا يصلح لك، فما هو إلا تخصص يتعايش معه الطلاب بجهد كبير وزهد في المُتع أكثر من غيرهم، لكني أدعو الناس من هذا المنبر إلى ترك الرمزيات والتركيز على الفرد وليس سحقه وإسقاط عقد المجتمع وغروره على حياته ومساره، فلن تدوم له إلا نفسه، أما نظرات المجتمع المعجَبة وتصفيقاته، فإنه يعطيها بشروط قاسية، وقد ينزعها بسرعة بأقل من تلك الشروط
وأتمنى لك الشفاء أختي عُلا.
واقرئي أيضًا:
النفس...والطب!!
طالبة الطب والخوف من الفشل
طالبة الطب والخوف من الفشل م. مستشار
كلية الطب ومعاناة بلا مداواة !
الطب يا طالب الطب
ويتبع >>>>: بين التوهم والمرض ...هل من علاج م