العلاج الذاتي قد لا يكفي
متحير بسبب هذه المعصية التي تقضّ مضجعي..
بسم الله الرحمن الرحيم، سائل.. أكتب إليك بدمع العين والدم وكلي أسى وتشتت وغرق في بحر اليأس والظلام وخاضع لبحيرة القذارة والدنس وسائر الألفاظ الدالة على السوء والتعب والألم الممض. أنا أب لدي ثلاثون سنة أرى عمري يتسرب مني أراقبه من خارجي فأرى نجاحا باهرً ماجستير ووظيفة وراتب الحمد لله والشكر وأبحاث وفكر وقلم عذب وقصص قصيرة منشورة في مجلات وصحف. نجاح باهر ظاهري من يراني يظن أنني نموذج له يحسدني أو يغبطني على هذا الألق الذي تألقته وعلى سلم النجاح الذي ارتقيه وما زلت
كل هذا شيء أحمد الله تعالى عليه وأشكره على دوام نعمه غير أن معاصي المؤرقات تقض مضجعي ومرقدي وتطيل سهادي وغفلتي وتوهاني وإصراري على الذنب عجيب مع معرفتي التامة بأن هذا شيء تأنف منه النفوس الطاهرة المرتفعة العالية السابحة في جو السماء.
أتمنى أن أتخلص من هذه المعصية تخلصا تاما وأحقق ذاتي كما أريد لذاتي أنا لا كما يريده الآخرون
أريد أن أتخلص منها وأفر فراري من الأسد الرابض المرتقب قفزة هائلة وينقضي أمر فريسته في لمح البصر أريد أن أبتعد عنها وأنئى وأفر بنفسي وأنجو حتى لو قالوا لي إن هذا أمر مباح وحتى لو كانت أمرًا مباحا أو مشروعًا فأريد أن أتخلص منها أنقطع يومًا أو يومين أو أسبوعًا ونادرًا شهرًا ثم أرجع باكيًا منتحبًا إليها كأني مربوط بحبل يقودني منْ لا أعرفه إلى حيث لا أريد لا أريد لهذه المعصية أن تحيط بي أخشى أن يكون الله تعالى يستدرجني ويمهلني ثم في لمح البصر يعاقبني عقابًا شديدًا أوأقوى على عقاب الله تعالى
غير أني يائس همتي صفر وعزيمتي واهنة وطموحي في تغيير حياتي ووضعي كبير فوقعت في هوة سحيقة أريد لروحي ونفسي وذاتي أن ترتقي في العلم والعمل والنجاح وتريد لي شهوتي أن أبقى كما أنا عاصيا لله تعالى ومتجرئًا عليه. لمْ أبق وسيلة إلا استخدمتها حتى أتخلص من هذه المعصية. لا أريد منك سيدي أن تحيلني إلى سؤال سابق أريد أن تهزني هزًا عنيفًا وتوقظني من سباتي العميق ومن لذتي المحرمة. أعرف أنها لذة محرمة تعقبها الندامة والسآمة ويتبعها الملل والتعب الطويل.
إنني واقع في براثن العادة والنظر إلى المقاطع الإباحية بهذه المعصية التي أود لو تكون بيني وبينها ألف باب ستقترح علي بأن أقضي أوقات فراغي وأرتب يومي. أخبرك بأني قارئ نهم أنهي في الشهر الواحد نحو 8 كتب وأعمل في إحدى الجهات ولدي زوجة أحبها وطفلة هي أحب الناس في عيني غير أني مشدود بحبل إلى تحت إلى دون إلى أسفل كأني معصوب العين في قعر مظلم. أنظر إلى المقاطع المحرمة وأنا أستغفر الله تعالى كيف لهذا التناقض أن يسير في حياتي
ما الحل يا سيدي؟
أصلي ولا أقطع الصلاة أبدًا ولله الحمد والمنة لدي ورد ثابت من القرآن الكريم ولي حظ طيب في التعلم والعلم بقدْر طاقتي غير أن هذه المعصية تهد حيلي وتقصم ظهري وتكسر إرادتي وأملي في حياة لا معصية فيها لا أريد لهذه المعصية بالذات أن تنال مني. كل ابن آدم خطاء يوحي الشيطان إلي بهذا الحديث النبوي الشريف كي يهون علي الأمر ويزين لي المعصية ويمهد لي الطريق كي أنزل إلى الطابق السفلي من النفس والروح وأرتكبها خائفًا وجلا مرتقبا عقاب الله تعالى.
غير أن هذا الذنب بالذات لا أريده. كيف أطلقه لو كان زوجة لطلقتها. لو كان كتابا لمزقته. لو كان صاحبا لقليته. لو كان بابا لخلعته. غير أنه أصبح ممزوجا في دمي ولحمي وعصبي وأصبحت معه سهل الاستثارة والتحفز أشعر بأن أعصابي مبرمجة أشعر بأن أعصابي مرْهقة. أشعر بأن أعصابي تعين الشيطان علي هل هي السبب أراني أنساق انسياقا عجيبا إلى المعصية أخشى بأن أندم بأن أدفع ثمن المعصية غاليًا صرت أخاف على زوجي من أن يعاقبها الله تعالى بسبب معصيتي.
أخشى بأن أقول يوم لا ينفع الندم "يا ليتني قدمت لحياتي" أخشى بأن أظل هكذا حتى تحين وفاتي منذ أن كنت في السابعة عشرة حتى ناهزت الثلاثين ثلاث عشر سنة لم أراع فيها حق الله تعالى وقد كان لهذه المعصية تبعات خطيرة لم أرعو معها ولمْ أتأخر عنها. مال هذه النفس التي أحملها بين جنبي أريد لها بأن تعلو وتسمو وتريد لي بأن أهبط وأنزل ليست هذه قطعة أدبية أبتغي من ورائها أن تستمتع بلغتها وأسلوبها سيدي الكريم غير أني ضائق صدري حرج كأنما أصعد في السماء وأخشى أن تهوي بي معصيتي إلى مكان سحيق ولا نصير ولا معين
سيدي قد أطلت عليك الكلام وأخشى بأن أتمادى فيه فأتقاطر دما حارا ودمعا ساخنًا فهل لديك من حل
مع دعائي لك ودعائك لي والسلام.
26/2/2019
رد المستشار
السلام عليكم ورحمة الله أيّها السائل، وأهلا بك على موقع مجانين للصحة النفسية.
لن يمنعني ما قلتَ من الاستمتاع بكلامك المسجوع وفصاحتك وبراعة أسلوبك، وأدعوك بدوري للتأمل بعقل شاغر واستبصار ساخر ما سأقوله لك ولمن هو في وضعك، وأرجو أن تتحلى بدفاعات أقلّ اتجاه ما ستسمعُ وربّما ستُنكر، وبأحكام أكثر مرونة مما ألفتْ نفسُك. لذا سأهزّك هزا لا شك، لكنه هزّ من نوع آخر، سأزعزع قناعاتك المتجذّرة وهو هزّ أشد وقعا من هزّك وإعادتك لنفس قناعاتك.
كل جملة وكل تعبير يحمل في طيّاته الكثير عن رؤيتك لنفسك ولدينك وللعالم كله. واللغة هنا بوّابة حقيقة لعالمك الداخلي، فمنذ بدأتَ مقدمتك الطويلة عن حالتك الوجدانية ووصفك لما تعيشه من معاناة "المعصية" وإمعانك في ذمّها وذمّ نفسك، قلت في نفسي سيتحدّث عن العادة السرّية مصاحبة للإباحيات، وقد كان. وأستشفّ من مقدمة مدبّجة مثل هذه محاولة للدفاع والتبرير عن نفسك (ولو لا شعوريا)، وكأنك قبل أن تخبرنا بما تفعل تخبرنا كيف تعاني مع ما تفعل وتدلّل على أنك لست مستهتراً ولاً مستلذاً لها تماماً!
سأبدأ معك رحلة لداخل أعماق وعيك الفردي الذي لا ينفك عن الوعي الجمعي عند كثير من المسلمين، وبالذات المتدينين منهم. فشد حيلك... واعلم أنّ أول التغيير والخلاص يبدأ بتغيير التصورات القابعة في دهاليز النفوس، وكل مقاومة واستنكار لما استجدّ من حقائق ولو كانت مفزعة هو إجهاض لكل محاولات الانعتاق، ومجرد استماتة في الثبات على المألوف بدعوى أنّه الأحق (والأحرى أنّه أكثر أماناً ودفئاً!) وأنّ كلّ استجداء لحلّ على مقاسنا وبشروطنا إنّما هو عزمُنا الخفيّ على هدر أقل طاقة في سبيل التغيير، أو أخطر من ذلك هو الإبقاء على المشكلة وعيشها بطريقة مختلفة فقط!
نبدأ جملةً جملةً وتعبيرا تعبيرا، قولك (وكلي أسى وتشتت وغرق في بحر اليأس والظلام وخاضع لبحيرة القذارة والدنس...) لا يدل على حال مؤمن يفعل صغيرة، هذا حال مكتئب يائس صاحب صورة ذاتية محطّمة، نعم هي صغيرة رغم أنفك وأنف المتدينين، الذين يقولون ليل نهار بأن الشريعة هي الحاكمة، ثم يُحكّمون أهواءهم في هذه القضايا بحثاً عن اللذة والراحة النفسية، بهذا ينظّرون لتوجهات فكرية ونفسية واجتماعية ما أنزل الله بها من سلطان! فتأمّل قولك "حتى لو قيل لي هي مباحة" هذا يدل على أنّ صراعك نفسي ولا تكترث لما يقوله دينك الذي به تُفسّر حالكَ كلها! وتُلزِم به نفسَك وتُقيّم به سلوكَك.
وهذه نقطة مُهمّة جدا، لأنّ ما يصنع العقل الجمعي للمتدينين، هي ثقافة الوعظ عموماً (وهي أقل صرامة من المنهج العلمي الاستدلالي، الذي لا يقبل توسعات الوعظ على حساب مراد الشرع) وثقافة الوعظ هاته، تخبرنا دائماً أن الذين يتبعون أهواءهم هم أولئك الذين يسعون لتحقيق شهواتهم المحرمة، وكأن الهوى (وهي آليات نفسية بالتعبير الحديث) له وجه واحد ويخدم هدفاً واحداً؟! ويحلو لهم وصف العصاة بـ"أتباع الهوى"، لكن أين نحن من هوى "المثاليات"؟ والتي تعُجّ بها رسالتك هاته في أشكالها الأكثر وضوحاً وشدّة...
عُبّاد الهوى يا صديقي أصناف كثيرة، وتذكّر النّفر الذي جاء للنبي عليه الصلاة والسلام، فكان دافعهم "هوى التورّع" في الجانب الآخر تماما من "هوى المعصية" لكنهما يحتكمان للآلية نفسها: وهي اشتهاء النفس لشيء ما ووضع "شريعة نفسية" بدَل الشريعة المنزّلة. منهم من اعتزل النساء ومنهم من هجر النوم ومنهم من حرَم نفسه من الفطار! وكل هذه طاعات، لكن النبي الكريم زجرهم وقال لهم أنا أتقاكم لله وأخشاكم له وأني أفعل ما دون هذا،
طبعا كان تبريرهم لهذه الآلية الخفية هي قولهم "أين نحن من رسول الله وقد غُفر له..." لكن الدافع الحقيقي هو اشتهاء تلك "الشفافية الروحية" التي يشعرون بها إذا ما زهدوا بذاك الشكل، قد ضمن لهم الله المغفرة والثواب بسنة نبيهم فأبوا إلاّ تشددا، فهل هناك هوى أكبر من أن يقال لك سأغفر لك بهذه ثم لا ترضى بها وتزيد عليها! ربّما ستقول لي أنكر عليهم من باب "عدم الابتداع".. لكن ليس هذا هو مربط الفرس هنا، لأن ما نبحث عنه ليس هو حُكم الشرع في النتائج (ما فعلوا) بل نظرُنا في الميكانيزمات والدوافع الخفية لهم (لماذا فعلوا).
وإن كانت هذه المثاليات في السلوكات والشعائر ظاهرة ويُمكن معرفتها بسهولة، تبقى المثاليات الفكرية أكثر فتكا وخفاء، فمثاليتك بخصوص "كيف يجب أن أكون كشخص" هي سبب يأسك واكتئابك وتحطّم ثقتك وتقديرك الذاتي، بكلمات أخرى إنّ ما تُعاني منه ليس جراء المعصية لكن هو نتيجة "طريقة تفاعلك مع المعصية". وقد تفهم هذا من بعض تعبيراتك (لا أريد لهذه المعصية بالذات أن تنال منّي) فهو صراع نفسي وحرب لاسترجاع تقديرك لذاتك وإحساس الاحترام اتجاهها، بغض النظر عن عظمة المعصية،
وإن كُنت صادقا مع نفسك ستلاحظ أنّ تفويتك لصلاة الصبح حتى يخرج وقتها هو أكبر من فعلتك، مع ذلك لن تتفاعل بـ"اشمئزاز ونفور من نفسك" مع تفويت الصلاة... لتعلم أنّ لنفسك منطقا آخر غير منطق الشريعة. وهذا هو ما لا ينتبه له الناس، ويُسقطون مشاعرهم وحالاتهم النفسية على دين الله... وبذلك ظهرت تيارات تدافع عن مثاليات وميولات سيكوجتماعية ارتبطت بكثير من الآيات والاحاديث ووقائع السير حتى صارت تلك الآيات والأحاديث دليلا على صحّتها، والحديث يطول في هذا الباب.
لا يعني قولي أنّها صغيرة افتقادَها للأثر! أبدا، بل من جهة فقهية تُصنّف كذلك، والمؤاخذة الدينية تكون حسب هذه التصنيفات وليس حسب الأثر النفسي، فقد تقتل أحدا خطأ وأنت غير مؤاخذٍ البتّة من الناحية الشرعية، مع ذلك قد لا ترى النوم لأيام وأسابيع ولن تتجاوزها ربما مدى حياتِك، لتفهم معنى "المنطق النفسي" الذي أتحدث عنه.... وبالطبع نتفق على أنّ تركها إن لم يكن من باب التدين فهو من باب الصحة النفسية على الأقل.... لكن المشكلة تكمُن في أن طريقة تعاملك مع إدمانك عليها هي نفسها ما يجعلك أضعف في طريق التغيير!
وخطأك وخطأ الكثيرين أنهم يتعاملون مع ذواتهم على أنّها "كيانات منفصلة" (من الانطباعات الخاطئة عند الناس) فأنت تجلس وتنظر لنفسك التي تريد الكرامة والطاعة، وكيان قابع هنالك يريد أن يجرّك للأسفل... فمن أين لك بهذا التقسيم الميتافيزيقي لذاتك؟ هو مجرد تقسيم على أساس وظيفي، وكأنك تقول لي مثلا أنّك إن مددت أصابع يدك فيدك تصير "كيانا يُحب التمدد" وإن جمعت أصابعك بسبب التعب من مدّ الأصابع ووضعية واحدة، تصير يدك "كيانا يُحب الضمّ"! فهل تلاحظ كيف تخدعنا أذهاننا؟ يدك هي نفسها وهي تحتاج لمد أصابعها وضمّها حسب الحاجة والدوافع والملابسات، كذلك هي نفسك، نفس لها حاجيات وشهوات تقضيها بشكل معيّن، ولها أوقات تحب التخلص من رقّ تلك النزوات بسبب مللها أو اكتفائها أو نزوعها للكمال وما شابه. وهي شاءت أم كرهت تتقلب بين هذه الحالات.
ورُبّما هناك سبب آخر لهذا التقسيم الافتراضي، وهو تجنّب الاعتراف بحقيقة قاسية على النفس، وهي أن الشخص الذي يتمرغ في وحل الإباحيات هو نفسه الذي يرفرف في دعاء القنوت، هذه صورة مرعبة للذات المفكرة تريد إقصاءها أو التلاعب بها بطريقة تتجاوز فيها التنافر المعرفيّ وتحطيم الصورة المحترمة للذات.. ونعلم جميعا أن رمي المسؤولية على "شيء ما" في حالة الخِزي، هو من الآليات الدفينة عندنا، أو نضطر لاختراعه إن لم يكن أصلا. ففي داخلي نفسٌ ونفس!! فإذا عُدنا للحالة التي نرضى بها على أنفسنا (طاعات، إنجازات، وقار..) نشعر أنّنا انسلخنا من تلك "النفس الأخرى" أو "الشخص الآخر" (كأني مربوط بحبل يقودني منْ لا أعرفه إلى حيث لا أريد) أو وضعناها جانبا أو غادرتنا إلى حين..
والخطر في هذا هو خلق نوع من اللامعقولية والعبث في فهم المشكل ومواجهة الحقائق، والحيرة التي تكتب بها رسالتك لهي خير دليل، فأنت تتساءل وتتحسر كيف لي أن أكون هكذا؟! كيف أريد أن أسمو و"تُريد" نفسي أن أنحطّ؟! وما هذا إلا نتيجة هذا التقسيم البريء في نظرك ونظر الكثيرين.
في حين لو عرفتَ أنّك أنت هو هو في كل الحالات وأنّ "نزغ الشيطان" ما هو إلا شهوات وحاجيات تُروضها إلى حين تزأر داخلك فتكسّر القيود لتخرج مرّة أخرى ستكون أكثر ثباتا واستبصارا وستسعى لإيجاد الحل بعد فهم المشكلة دون تزويق ولا تجميل يشوّه الحقائق... ربما ستقول لي وأين الشيطان من كل هذا؟ الشيطان عمله التزيين فقط، وتأمل قول الله تعالى: {فزيّن لهم الشيطان أعمالهم} فقد عملوا يا أخي... هناك عمل، فما هي دوافع ومحركات العمل قبل أن يخرج للعلن؟
لتلاحظ مرّة أخرى كيف تميل عقولنا لنسب الشرّ ابتداء للشيطان وكأنه يتكونّ على يديه، ورمي المسؤولية عليه والتساؤل الساذج بتعبير "لا أعلم ما حصل لي، إنه الشيطان لعنه الله"! وها هي الآية شاهدة على كذب هذا، لكن النفوس لا تحتفظ من الآيات والأحاديث إلا بما تُحبّ وتُملي عليها آلياتُها، نتشبّث بالآية، نهرول لها نستنجد بالمقدّس لنُضفي على تصوراتنا وسلوكاتنا هيبة وحصانة لتبقى وتبقى.
إنّ فهم ذاتك ودوافعك والاعتراف بها، هي الخطوة الأولى للتخلّص مما تريد التخلص منه، سواء كان ذلك من باب التديّن أو لأسباب أخرى. إن فهمك مثلا أنّ إدمانك على المخدرات هو إدمان حقيقي واختلال في احتياجات الجهاز العصبي عندك، وأيضا هو بسبب إفراز مواد تُريحك أو تُنسيك مشاكلك، أو تقدم لك سعادة اصطناعية مؤقتة عجزتَ عن خلقها بطرق سليمة واعتيادية ودائمة (وليس لأنّك حقير ووضيع وخبيث)... يجعلك تتبع خطوات منهجية لعكس المفعول. أمّا لو جلست تلوم أصدقاء السوء وتنسُب لهم قدرات خارقة من التأثير والسحر وسلب الإرادة وأضفيْت جوّا من الغموض وانتفاء الوعي بالقرارات في تلك المجالس، فتُغفل السبب الحقيقي وتبدأ معركة دونكشوتية مع عدوّ وهميّ.
ربما تقول هذه أمثلة وقياسات مع فوارق، وأفهمك لأنك ببساطة لم تألف النظر من مثل هذه الزاوية للمواضيع المتعلقة بالدين، غالبا ستبقى منحصرا في "أحكام القيمة" أي "ما يجب أن يكون" التي تُؤطر نظرتك وفهمك لواقعك، متغافلا عمّا هو كائن.
ولا أنسى تلك الثنائية dichotomie التي تتعامل بها مع نجاحاتك وإنجازاتك، فأنت "فلان الدارس الناجح الكاتب المفكر".. وفي جهة أخرى "فلان الحقير الضعيف الخبيث المتلوّن"! وأقول لك مثل ما قلت عن نفسيتك،
فتعاملك مع إنجازاتك وتلك النعم على أنّها موضوعة في كفة وإدمانك على الإباحيات في كفّة أخرى تقزيم لشخصك واختزال لك بين أمرين، وهي قسمة ضيزى، لأنك تجمع كل الإنجازات والنجاح والاستقامة والتخلق والطاعات في كتلة واحدة لها الحجم نفسُه لكتلة الإباحية والعادة فهل يُعقل هذا؟! فبدَل أن تضعَ إدمانك هذا بحجمه الطبيعيّ وسط ذلك الركام الكبير من المحاسن، لتصير صغيرة كما هي فتتعامل معها بثقة واحترام وقوة منك، تضعها وكأنها تشكل شطرك الآخر... وكأنك تستلذّ بجلد ذاتك دون أن تشعُر! تأنيب ضمير وتباكٍ على النفس وتحسّر يكاد يكون مرضيّا من أجل الحفاظ على "قلب حيّ" كما ستقول أو يقولون،
لأن التعامل ببرود مع المعاصي يجعل النفس تستمرئُها وتألفها، لذلك تسعى لتضخيم إحساسك بالذنب، فمجرّد فقدك لإحساس الذّنب شيء مفزع بالنسبة لك، صحيح؟ لأنك طالما سمعتَ أنّ الذي لا يشعر بهزة ورعشة ولا يصفرّ وجهه عندما يقوم بمعصية فهو في عداد المغضوب عليهم! ولأنّك تُفسّره على أنّه استدراج لك أو غضب رباني فتصير ممن نسوا الله! ولا تفسره ببساطة بكثرة الممارسة والتعايش مع الأمر منذ 13 سنة مضتْ وهذا طبيعي، لكنها المثالية كما قُلنا، وإلفُك لها لا يعني عدم سعيك لتغييرها كما تتخيل.
فمن كثرة ما تسعى للحفاظ على شعور الذنب والاستنكار كوّنت آلية مرضيّة في التعامل مع إدمانك وما زدتَ إلا ضَعفا وهوانا! والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وها أنت صرتَ ضعيفا النفسية مبعثَر العَزْم في هذه النقطة.. فضع فِعلتك بحجمها الطبيعي وسط خريطة حياتك ولا تجعلها قارة مستقلّة.
إذن نتفق على نقطة "كيفية تعاملك مع المشكل" لننتقل لنقطة أخرى لا تقلّ أهميّة وهي أساليبك في البحث عن حل لذاك المشكل.
تأمل معي أنّك تعذب نفسك وتجلدها وتحتقرها، ومع ذلك تنتظر مني وتطلب أن أهزّك هزاً عنيفاً حتى تستفيق. فهل أفقتَ أنت بعد ثلاثة عشر عاماً من اللطم والجلد؟ وتنتظر من هزة واحدة أن تفعل ذلك... أتفهم اقتراحك مثل هذا الحلّ أو اعتقادَك في نجاعتِه؟! المتدينون يسعون غالبا لإيجاد الحلول في الارتماء في أحضان "الوعظ".... شيْخٌ يصرخ بحماسة، أو يطبطب بلطف وابتسامة، يرغّب ويرهّب، يعطي وعودا (كذّبها الواقع طبعا) بحل الآفات والمشكلات بمجرد الإكثار من الطاعات وترك الملهيات أو الاستغفار والأذكار،
وأبدا لن تسمع منهم تحليلا منطقيا غير رومانسي للمشكلة والنزوع البشري، فهم يصوّرون الناس على أنّهم آلات تستجيب للنهي والأمر متى صدقت وعزمتْ فقط، دون النظر لمعيقات تغيير الحال والقدرة على اتباع الأوامر واجتناب النواهي حتى مع الإيمان بها والصدق في التقيّد بها، يفترضون (ويفترض معهم المسترشدون بهم) أنّ المتدين يحتاج فقط لوعظ وإرشاد وتذكير حتى تتغير حاله، وأنّه الوحي هو خير شفاء وخير دليل يُتّبع لمعالجة النفوس (ومن هنا العداء لكثير من العلوم الإنسانية) فيشعر بالحلاوة والحماس ثم يخرج ليعود بعد مدّة تطول أو تقصر إلى عادته،
ثم يعود ليسمع المواعظ باحثا عن قشعريرة أو دمعة يستجديها في عالم بارد ماديّ مرعب (كما يتصور) وهكذا حتى يُدمن المواعظ ويُكوّن مثالياته ونظرته للعالم والأحداث بمنظارها. لا يكفي الصدق ولا البكاء ولا حتّى العزم إن افتقدت لآليات حلّ المشكل، فلو جلست تبكي وتنتحب أمام شخص شرب سُمّا وسيموت في بضع دقائق فلن ينفعك صدق العالم كله ولا عاطفة الناس أجمعين.. لن ينفعك إلا معرفتك بكيفية كبح انتشاره وترياقُه.
أما قولك: (وإصراري على الذنب عجيب مع معرفتي التامة بأن هذا شيء تأنف منه النفوس الطاهرة المرتفعة العالية السابحة في جو السماء) هذه حدّوتة أخرى تحملني على الابتسام بتهكّم واسمح لي، فما هي هذه النفوس الطاهرة المرتفعة العالية السابحة في جو السماء؟ هل تقصد الملائكة؟ لأن هذه هي أوصافهم بالضبط، أما البشر فيعيشون على الأرض ونفوسهم تنزع لملذاتها ونقائصها وأمراضها وعنفها وعبثها أحيانا كثيرة، بل هي تجري في دمائهم وتقبع في جيناتهم... هذه النفوس التي تتصورها أنت وتهيم بها ما هي إلا نفوس افتراضية يحلو للوعاظ رسمها في أذهان المسلمين،
قائلين بأنّ شحذ الهمم يحتاج "قدوات" فجعلوهم قدوات خارقة وأساطيرَ ضاعت معها حكمة التقارب المنطقي والضروري بين النموذج المتّبع والفرد التابع. تلك الضرورة التي جعلت الرسل بشرا ولم تجعلهم ملائكة، لكني أرى أنّنا حوّلنا مطالبة كفار قريش بنزول ملك عليهم، وهي مثالية طُرِحتْ للتّمرد، حولناها لمثاليّة طُرحتْ للتعبّد والانقياد! فهم طالبو بملاك فرُفض لهم ذلك، ونحن مقتدين بهم طالبنا بملاك مجرّد وزرعناه في العقل الجمعي للمسلمين!
لعلّ ما سهّل رسم هذه الصورة الخارقة "للنفوس الطاهرة المحلقة في السماء"، هي كون الوحي يتحدث غالبا عمّا يجب أن يكون ولا يعالج طباع النفوس كما هي ولا يبرّر لها، بل يأمر بالصبر والتعالي عن النزوات والميول الفاسدة، وفُهم من ذلك أنّ القرآن يُنكر مثلا ضعف المخاطَبين (الصحابة) وبشريّتَهم، أو يدّعي أنها بشريّة ليست كغيرها وينزع عليهم ثوب القدسيّة!
والسبب الثاني هو المنهج المناقبيّ لدى المشايخ والوعاظ، فيأتيك برجل ويخبرك عن أفضل مناقبه وفي زمن أفضل مما أنت فيه (ظروف تسهّل ظهور مثل تلك المناقب) ويتجاهل نقاط ضعفه، هذا إن وجدها في الكُتب أصلا، لأن الكل يتستّر عن نفسه ولو كان من الصالحين. ثم يأتيك برجل آخر ذو منقبة في مجال آخر وهكذا دواليك.. فتتكون ببطء صورة مجردة خيالية من أجزاء مبعثرة لتصنع لنا "صالحا مجردا خارقا" فما دام ذو المنقبة الأولى معروفا بها فلا بد أن يكون خاليا من العيوب الأخرى (عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بالعدم)، ثم الثاني.. ثم الثالث...
ثم تتراكم تلك التحيّزات المعرفية لتصنع الأسطورة التي لخّصتها في سطرك ووصفك بوفاء! ولن أطيل في هذه النقطة، لكني أضيف عليها "أخشى أن يعاقب الله زوجي بمعصيتي" وأقول لك أنّ هذه من الوساوس الأفكار التعذيبية التي تتقاطر على المتدينين حال تكسيرهم لصورة "المؤمن المتعبد الصالح على طول الطريق".. فالله تعالى أعدل من ذلك وأكبر من تصورات ساذجة أفرزتها نفوس تحت تأثير وخز الضمير! وأنت الذي تقرأ كل مرة "لا تزر وازرة وزر أخرى" ثم تسمح لنفسك أن تنسُب الظلم والعبث لرب العالمين بسبب "أنانيتك" في التعامل مع الأمر، بسبب أنّ توقعك الأسوء يجعل منك عبدا أكثر صلاحا وأكثر إشفاقا وهذا يريحك، لكنّه عمل غير صالح... العقاب الذي ستتلقاه سيكون منك وأنت تحت تأثير الإباحيات وما لها من أثر على صفاء عقلك ونشاطك الجنسي وتقبّلك لها (بسبب المقارنة) ... إلخ.
وتعريجا على سيئة أخرى من سيئات المنهج الوعظيّ، نذكر الطريقة الاندفاعية التي يعالج بها التغيير، فتجدُك تنفر من الإباحيات ورغباتك كلها بعد ممارستها، ثم تريد أن تفرّ فرارا عشوائيا ينبض بالكراهية لما خلّفتَه وراءك... لكنّك تكتشف أن ذلك بين جنبيك وأنه من احتياجاتك ونزواتك لا كما تتخيّل من التبرّؤِ منها بهذه السهولة كأنها "أنت أخرى" (كما أسلفنا) والنتيجة أنّك تعود مشحونا أكثر، راغبا بعد تلاشي إحساس النّدم وانتعاش اللذة، لأنك تركتها جملة ولم تتّبع خطوات الإقلاع الصحيحة، لأنّك ترى أن المعصية لا تتجزّأ وليس جزء منها مفيدا ولا نافعا فهي معصية ولا يجعل الله في بعضها خيرا كما لم يجعل في كليّتها! ربما هكذا تُفكّر، وتعتبر أنّه من صدقك يجب أن تترك كل شيء.. ربما يكون هذا نافعا في حالة عدم تمكّن الإدمان منك، لكنك مدمن حقا بالمعنى النفسي للمصطلح، وليس الديني كما تحب أن تركّز عليه. والمدمن يعالج دائما بخطوات ثابتة وممنهجة، ويعالج بنفس المادة التي يُدمن عليها بجرعات مدروسة.
بمعنى أنّك ستفعل ما تفعله دائما لكن بمنهجية علاجية وليس بمنهجية "استمتاعية"، هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تفتّت أفكارك وتفصِل ارتباطاتك التي تكوّنت على مرّ 13 عاما.. وإن تعجّلت النتيجة والإقلاع بدافع التورّع عُدت ذليلا كلّ مرة كما تقول... يجب أن تفتّت وتحلل مضمون أفكارك وملذاتك وخيالاتك الجنسية حتى تعرف كيف تحاربها، وأيضا أساطيرك بخصوص الحياة الجنسية والمتعة، (التي لن تخلو منها) لأنّ مشكلة الإباحيات هي الانتقائية التي يمارِسُها المدمن عليها، فيختار ما يحب حتى يُخيّل له أن ما يُحب هو الواقع وهو الطاغي لدرجة يضيع معه كل حسّ نقدي اتجاه ما يشتهيه ويُدمن عليه، وكأنّه يكذب الكذبة ويصدّقها.
المقاربة النفسية لإدمانك هي الحلّ ودع عنك أساطير الوعظ ومثالياته، ودع عنك إسقاطات المتصوّفة ووجدانيّاتهم، كل تلك الخطوات التي نصحتك بها لن تستطيعها وحدك، يجب أن تزور مختصا لتعالج معه إدمانك وتلتزم معه في برنامج علاجي.
ولا أنسى أن أنصحك ألاّ تلعب دور "الوقور ذو السمت الإسلاميّ" فيما يخصّ نزواتك المظلمة مع زوجتك، لأنه لو كنتَ تفعل هذا في حياتك الجنسية فهذه مصيبة أكبر، لأنّك لا تكاد تعترف بنزواتك وتمارسها بطريقة ملتوية مما يزيد الهوّة بين حياتك الحقيقية وعالمك الافتراضي،
لأنّك لم تجد حلا واقعيا وعمليا بسبب كبريائك أو محاولة منك لحفظ صورتك "كرجل محترم" أمام زوجتك... وطبعا لا يخفى عليك أن الزوجات في ثقافتنا، يعانين من أضعاف أضعاف عُقد الدّنس بخصوص أنوثتهن ورغباتهن الجنسية وأيضا رغبات أزواجهن. (وقد يكون هذا سبب تمنع الرجال من الإفصاح بسبب مثالية المرأة عن الرجل "المحترم") لا أقصد أنّ الكبح الجنسي عند زوجتك هو السبب، فلا أستطيع أن أجزم، وحتى إن كان، فلا يمكن تحميلها مسؤولية إدمان كان قبل زواجك بسنوات، ولأن التجربة توضّح انتفاء العلاقة بين الزواج وبين الإباحيات، فالكل يسدّ حاجة في نفوس البشر.
ربّما سيتساءل القرّاء وأنت معهم، عن كون جوابي عن طريقة العلاج لا يُمثّل إلا جزء يسيرا من ردّي كلّه، وأقول أنّ تلك النقاط كان لا بد من نقاشها لأن مُكوثَها يُهدد أي محاولة للعلاج فهي تشكل مغالطات وآليات دفاعية سميكة جدا، وحاولت فقط زعزعتها قليلا وإلا فهي تحتاج لمجلّدات وبعدها لسنوات حتى يقبل الناس التخلي عنها.
أتمنى أن تأخذ خطوة جادة في العلاج من إدمانك، وألا تقدم عذرا أقبح من ذنب قائلا لا يمكنني أن أزور مختصا أكشف له عورتي وأفضح عنده نفسي لتحافظ على صورتك الاجتماعية... وإن أبيت إلاّ أن تعالج الأمر كما عالجتَه من قبل وعلى شروطك ومقاساتك... فاعلم أنّك اخترت أن تحرُث في الماء.
وأهلاً بك إن أحببت أن توضّح بعض النقاط، وأتمنى لك الشفاء العاجل، ولا تبخس نفسَك قدرها. وسلام الله عليك.