الإخوة المشرفون على زاوية "استشارات مجانين"، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أحكي لكم معاناتي وقد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت. أكتب لكم عن غربتي وأنا في بلدي وبين أهلي، سأحكي لكم عن شعوري بالوحدة القاتلة، سأحكي لكم عن مجتمع مفكك، كل فرد فيه يعيش فيه لنفسه ولا يشعر بالنار التي يكتوي بها غيره. أحكي لكم عن مجتمع هيمن عليه ديكتاتور شيطان يمنع كل خير ويشجع كل شر. هل خلقنا فقط لنأكل ونشرب ونتناكح؟ هل خلقنا لنعيش كما تعيش الديدان؟ يا سادة والله لقد انهالت عليَّ الهموم والغموم وما عدت أطيق لها احتمالا.
أبي سحقه الطاغوت وأنا في الثانية من عمري، وأمي المسكينة أصيبت بالمرض النفسي جراء هذه المصيبة، ناهيك عن السنوات العجاف الطويلة التي عشناها في خوف وإرهاب من "الطاغوت"، ولم يكتفوا بسجن أبي وقتله، بل أوقفوا الراتب الذي كان يأخذه، وبقينا نعيش على صدقات الناس ومساعدتهم، وهكذا مرت الأيام والسنوات العجاف التي لم تنتهِ حتى اليوم، ويزيد الفقر همنا همًّا، وكبرنا وقال الناس: ما شاء الله أبناء فلان كبروا وصاروا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم، ولكن يبدو أنهم نسوا ما فعلته هذه الأحداث بنا.
أنا أكبر أشقائي، وتكونت شخصيتي في هذا الجو من الخوف والرعب، فنشأت خائفا، فاقدا الثقة بنفسي، خطواتي في الحياة ثقيلة جدا، وكلما مرت الأيام زادت سوادا، واليوم عندما أردت أن أحل المشاكل وجدتها معضلات، وأمي المسكينة كلما عدت إلى البيت وجدتها في زاوية تبكي وهي ترى ابنها عاجزا لا يستطيع فعل شيء، تقول لي: يا بني، تزوج وأدخل الفرحة إلى البيت، وهي لا تدري أنني محطم من الداخل، فهل "أزيد الطين بلة"؟.
وربما أضفت مشكلة إلى مشكلاتنا، وبصراحة نفسي عازفة عن الزواج؛ لأني أعاني نفسيا معاناة رهيبة، وخاصة أنني لا أملك أي شيء.. لا مال.. ولا شهادة.. ولا خبرة، حتى هويتي المهنية لا أعرفها، ثم أنني إذا تزوجت سيكون هذا على حساب أشقائي وسينتظرون طويلا. بالله عليكم في ظل هذه الفوضى العارمة، والمعضلات الكبيرة ماذا أصنع؟ ماذا أفعل؟ كيف أتصرف وأنا أعيش في مجتمع وكأني أعيش في صحراء لا أنيس فيها، أو غابة تفترس فيها الوحوش المفترسة الحيوانات الضعيفة؟.
لم يبق بيني وبين أن أنهار وأفقد صوابي إلا القليل، ولا أدري كم يدوم هذا القليل، فأنا كمن يقف فوق سقف هش سيقع في أية لحظة، وإذا سقط فتحته هوة سحيقة مهلكة، لقد مر علي يوم وأنا أشتاق إلى لقاء ربي حبا له وشوقا إليه، واليوم أتمنى الموت يأسا من حياتي.أرجوكم ساعدوني، وأعينوا أخا لكم في الله قبل أن يضيع ويضيع من معه.
8/2/2023
رد المستشار
لن أسترسل مع تأملاتي، ولكنني أضع رسالتك تحت أعين القراء الأعزاء، ومنهم وفينا "جهابذة" تتعالى أصواتهم بين الحين والآخر ليشيروا -لا فض فوهم- على المهاجرين العرب والمسلمين إلى أقطار الصقيع والشتات والغربة هنا وهناك، بالعودة إلى "ديار الإسلام" فرارا بدينهم من بلاد الكفر، وبعضهم إنما خرج من بلده فارا بدينه إلى بلدان فيها حد أدنى من احترام شيء اسمه "القانون"، وشيء آخر اسمه "الإنسان"، وقيمة مهدرة عندنا -هي فتاة أحلام كل مناضل- اسمها الحرية، ومطلب أساسي وبسيط اسمه "الآدمية"!.
تحياتي للجهابذة هداني الله وإياهم، وأعود إليك لأقول: يا أخي، هون عليك فقد أوشك ظلام الليل أن يزول، وفجر الحرية قادم طالع من البيوت، ومن المصانع، والمدارس والمزارع، وعندي أمل أن الغد أفضل من اليوم، لكن السؤال هو كيف نجتهد في التعجيل بالتغيير لنعيش في أوطاننا موفوري العزة والكرامة كما يريد لنا خالقنا عز وجل؟ الطواغيت يتساقطون، ومستقبل آخر يولد في مخاض عسير بين النار والدواء والأشلاء، وأدعو الله أن يشهد القرن الحادي والعشرون عالما عربيا مختلفا عما نراه، والله معنا جميعا.
حتى يحدث هذا فإنك تحتاج إلى دعم نفساني يعالج آثار ما حدث لك ولأسرتك، وما يسيطر على نفسك ومشاعرك من أعراض "اكتئابية" مفهومة على خلفية ما تعرضت له من مآسٍ جعلها الله في ميزان حسناتك، وحشرك مع أهل البلاء يوم القيامة، أولئك الذين يحسدهم أهل العافية في الدنيا حين يرون ما ينزل بهم من فضل الله سبحانه يوم القيامة.
ما نزل بوالدك رحمه الله، وما نزل بك وبأسرتك هو من ثمن العزة والحرية الآتية لا ريب، وقد لا يعرف أبوك، ولا تمنحك جهة ما "نوط شرف" أو "قلادة تكريم"، ولكن الله سيلبسه –إن شاء الله- تاج الفخار فوق رؤوس الأشهاد يوم القيامة حشرنا الله معه ومع الصديقين النبيين، ويومئذ يفرح المؤمنون، وسيقولون يومئذ لك ولأسرتك: "هنيئا لكم بما أسلفتم في الأيام الخالية، ذلك اليوم الحق، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا، وقد فعل والدك فلا تندم أنت على ذلك، ولا تبتئس".
اليوم أنت تحتاج إلى دعم نفسي واجتماعي قد تتلقاه من متخصص، وقد تتلقى بعضه من المحيطين بك، وقد تفكر مثل غيرك وأمثالك في الخروج من بلدك إلى العالم الفسيح بحثا عن حياة أكثر فرصا وآدمية، مع الأخذ في الاعتبار أن بلدان الغربة ليست جنة الله في أرضه، ولكن فيها أيضا مشكلات وسلبيات، ليس هذا مجال الخوض فيها، وفي كل الأحوال يلزمك ترتيب نفسك وبيتك وأحوالك.
وأنت لم تذكر معلومات واضحة عن دراستك أو عملك، والزواج يفيدك فقط إذا كان يضيف إليك وضعا اجتماعيا أو عصبة عائلية تضمك في جوارها، وتكون أساسا أو منطلقا لعمل أو تجارة أو ما شابه، إذا لم يكن لديك وظيفة أو أملاك أو... إلخ.
وإن كانت نفسيتك منهارة نتيجة لظروفك، فماذا عساك أن تعطي في إطار علاقة زوجية؟ إلا أن تكون زوجتك وأهلها على علم بظروفك ويقبلون بها، وعلى استعداد لدعمك فيها؟
على كل حال كن على صلة بنا لنفكر معا في شؤونك، ولا تخزن فالصبح قريب، وبين الهزيمة والنصر صبر ساعة كما كان العرب يقولون، ولعنة الله على الظالمين.