بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, تحية طيبة وبعد: أنا طالب بكلية الطب وأبلغ من العمر 18 عاماً وأدرس بالفرقة الثانية. مشكلتي غريبة بعض الشيء فأنا أعاني من نوع من الوسواس القهري على هيئة صور ذهنية مستمرة تفقدني التركيز والاستقرار (لا أدري إن كان هذا فعلاً وسواساً أم لا). منذ طفولتي, كنت كلما أرى منظراً مقززاً أو قبيحاً فإنه يعلق بذهني أطول مدة ممكنة ويفرض نفسه على عقلي ووعيي من حين لآخر لكني كنت أنجح في طرده ولم يكن هذا الأمر يؤثر على تركيزي أو تفكيري أو أي شيء آخر حتى أني لم أكن ألاحظ هذا الأمر أو أبالي به البتة.
أيضاً كنت عندما أبدأ المذاكرة أو القراءة لا أستطيع البدء والتركيز والاستغراق فيها حتى أقوم بالبسملة عدة مرات وأقوم بعدة حركات بسيطة بيدي ولكن هذا بدوره لم يكن يؤثر البتة.
ولكن, منذ العام الماضي توحدت تلك الصور الذهنية في صورة ذهنية واحدة فقط وهي صورة الله –عز وجل- فوق عرشه وسماواته (سبحانه وحاشاه عز وجل) وراحت تلك الصورة الذهنية تفرض نفسها على ذهني باستمرار وإلحاح شديدين وأصبحت أصعب في طردها إذ أنها تفرض نفسها على ذهني فأقوم بطردها وبعد ثانية أو أقل تعود فأطردها ثانية فتعود فأطردها وهكذا دواليك. وبالتالي, أفقد استقراري وأعجز عن التركيز في أي شيء حتى عندما يحدثني أحد أصدقائي لا أنتبه لكلامه لأني مشغول بطرد تلك الصورة والتي أشعر أنها تحتل جزءاً كبيراً من عقلي وتركيزي. هنا, يجب التنبيه على أمرين هامين, أولاً: تلك الصور مجرد صور ذهنية فقط بدون أي دوافع أو أفكار. ثانياً: أنها كانت تأتي عادة في صورة نوبات حيث تزيد بشدة يوماً أو اثنين في الأسبوع مثلاً ثم تنكسر حدتها نوعاً ما باقي أيام الأسبوع لكنها الآن أصبحت أسوأ حيث أنها تقريباً موجودة دائما وأصبحت أعجز عن طردها. أتمنى سيدي أن تخبرني بالعلاج المعرفي والسلوكي لهذه الصور لو كان هناك واحداً.
لكن المشكلة الحقيقية بدأت مؤخراً- منذ شهرين تقريباً- حيث بدأت أشعر بشيء غريب لا أدري كيف أصفه ولا أدري هل له علاقة بتلك الصور الذهنية أم لا, تخشب في التفكير, حيث أجد صعوبة شديدةً في بدء التفكير في أمر ما أو في بدء تذكر أو تخيل شيء ما أو موقف ما, فعندما أحاول التفكير في أي شيء -أو حتى البدء في قول بعض الأذكار الدينية أو الدعاء أو الصلاة- تفرض تلك الصورة الذهنية نفسها على عقلي وأقوم بطردها حوالي عشرين مرة قبل أن أبدأ وأحاول تجاهلها وحتى بعد ذلك-أو بغض النظر عن ذلك- أجد عسراً في التركيز والاستغراق في التفكير وفي عملية تسلسل الأفكار وغير ذلك كأن عقلي مجمداً أو مقيداً بسلاسل. شيء آخر,أحياناً عندما يحادثني شخص ما في أي موضوع أجد عسراً في استيعاب كلامه, أو بمعنى آخر لا أشعر بأي معنى لكلامه, فمثلاً عندما يقول لي صديقي " بعد أن أنهي دراستي في هذه الكلية أريد أن أكمل تعليمي في الخارج لأن دراسة الطب هناك أفضل بكثير " أو أقرأ ملصق مكتوب عليه"اللهم تقبل أعمالنا في رمضان" أو "ربنا هيوفقك إن شاء الله" أعيد التفكير في الجملة وأمررها على عقلي عدة مرات حتى أشعر في النهاية أن لها معنى ما وأني أفهمها- وأحياناً أجد نفسي مضطراً لهذا حتى لو لم أكن مهتماً بإدراك الأمر-(وأحياناً أستغرق خمس أو عشر دقائق كاملة لاستيعاب أو تخيل فكرة بسيطة مثل فلان هيسافر بره) .
وهكذا أجد عسراً في متابعة أي محادثة أو حتى المحاضرات إذ يستحيل علي بعد كل جملة يقوله المحاضر أن أستغرق ثلاث أو خمس دقائق في تكرارها في ذهني حتى أستوعبها وأحياناً أشعر بنوع من القلق والتوتر(أبقى مش قاعد على بعضي) وأنت تعرف أنهما أعدى أعداء التركيز وأيضاً أجدني عاجزاً أحياناً عن إدراك كنه الأشياء والبيئة من حولي (كأني مش فايق أو مشغول بأمر ما أوكأن عقلي توقف تماماً عن العمل ولم يعد يستطيع متابعة أي شيء) وأثناء هذا كله أشعر بنوع من الألم النفسي الخانق اللاسع - يختلف عن الاكتئاب- كأن عقلي يختنق أو كأن شيئاً ما في رأسي يؤرقني بشدة ولا أدري أهذا الشيء هو الصورة الذهنية أم لا أو كأني متضايق جداً من أمر ما (كأن فيه شوكة في رأسي أو سوسة بتنخر في دماغي) مع أنه لا يوجد حينها ما يستحق كل هذا الضيق وهذا الإحساس هو أسوأ من أن يحتمل البتة و ربما أسوأ ما في الموضوع إذ أنه الآن تقريباً لم يعد يفارقني و أيضاً أشعر- أحياناً- أثناء ذلك أن تنفسي لم يعد لاإرادياً بمعنى أنه إذا لم أتنفس إرادياً تنفساً عميقاً أشعر بنوع من الاختناق ومن جديد لا أدري هل له علاقة أم لا بالصور الذهنية وطردها.
والأغرب أني أجد صعوبة في قراءة أي قصة أو كتاب فحتى لو قمت بالبسملة وطرد الصور الذهنية عشرون مرة فإني أشعر أن عيني تجري على الكلمات بدون أن تمر حتى على ذهني وأجدني عاجزاً تماماً عن التركيز والمتابعة, أيضاً نفس المشكلة عندما أتابع أي فيلم أو نشرة أخبار على التلفاز أو نشيداً ما أو حتى لعبة كمبيوتر أحبها فإني أشعر بنفس القلق والتوتر مع عجز تام عن الانتباه والمتابعة والاستيعاب, وهذه المشكلة بدورها تأتي في هيئة نوبات تزيد أحياناً حتى تصبح الحياة مستحيلة وأشعر أن عقلي قد توقف بالكلية وأني موشك على الموت اختناقا وضيقاً وتختفي تماماً أحياناً أخرى كأن ليس لها وجود.
ولكن ما دفعني حقاً للكتابة إليك سيدي هو أني حائر تماماً في هذا الموضوع , ذلك أني كنت قد عرضت تلك المشكلة- مشكلة الصور الذهنية- على أحد زملاء الدراسة الأكبر سنا والذي أثق به فأخبرني باختصار-وأيده في ذلك والدي- أن هذا كله وهم وأن المشكلة بسيطة وغير مؤثرة ولكني قد ضخمتها بشدة بسبب كوني مقصراً في الدراسة -وقد كنت كذلك فعلاً- وأني ضخمتها لأجد لنفسي عذراً في التقصير وأيضاً لأجد موضوعاً أشغل به فراغي إذ أني لست منشغلاً بالدراسة الجادة أو أي شيء آخر, وفي الواقع, لقد اقتنعت تماما في البدايةً بكلامه - ومما زاد من اقتناعي بهذا أن تلك الصور الذهنية كانت دوماً موجودة-وإن كان محتواها مختلفاً- وأحياناً قليلة بنفس الشدة إلا أنها أبداً لم تعقني عن أي شيء حتى أني لم أكن أشعر بوجودها كما قلت سابقاً- وانشغلت بالدراسة وتداركت -بفضل الله- كثيراً من تقصيري وخفت حدة ذلك المرض نوعاً ما ولكن مع الامتحانات وأجازة نصف العام بعدها عاد أسوأ بمراحل من ذي قبل وبدأت بشدة مسألة عسر التفكير هذه.
مشكلتي أني حائر تماماً, فأحياناً أقول لنفسي- كما يخبرني والدي وكل من حولي- أن هذا كله وهم ولا يستحق كل هذا الاهتمام وأقنع نفسي بهذا ثم أعود فأقول لا لابد أنه ثمة مرض ما أو أنا بحاجة للعلاج ثم أعود ثانية فأقول لا إنه ليس مرضاً وهكذا دواليك, هذا التفكير سيدي هو ما يدفعني حقاً للجنون. وهو ما دفعني للكتابة إليك, ولا أريد إلا إجابة عن هذا السؤال:
هل هذا وسواس قهري أم اكتئاب أم مرض جديد لم يكتشفه الطب بعد أم مجرد أوهام خلقتها ونسجتها لنفسي وأقنعت نفسي بها كي أريح ضميري وأهرب من العمل الجاد الشاق ومواجهة مشاكلي الخاصة ؟!!!
وهل يمكن للأوهام أن تخرج عن سيطرة صاحبها لهذه الدرجة وتكتسب تلك القوة الساحقة ؟؟!!! وإذا كان الأمر كذلك,كيف أستطيع التغلب عليها ؟؟
أعلم أن كلامي يبدو سخيفاً بلا معنى لكني أعاني بالفعل لا أدري حقاً مم؟!! هل من مرض ما أو من أوهام وإيحاءات أو بسبب كوني أضخم الأمور والمشاكل بشدة (أعمل من الحبة قبة) وهذه عيب أعلمه في نفسي جيداً ؟! لا أدري حقاً!!
أرجو سيدي أن أجد عندك جواباً شافياً يريحني من هذا الهم والتفكير إذ أني حالياً قد أهملت كل شيء تقريباً في حياتي ولم أعد أهتم أو أفكر إلا بهذا الموضوع السخيف.
وأخيراً أنا آسف بشدة على الإطالة ولك جزيل شكري وتقديري.
كان هذا تفصيل المشكلة وأود هنا إضافة ملحوظتين:
أولاً: كانت أمي وجدي يعانيان من نوع خفيف من وساوس النظافة والتأكد إلا أنهما-تقريباً- يعيشان حياتهما بصورة طبيعية.
ثانياً: عانيت مؤخراً من بعض الفشل والإحباطات والمشاكل والتي لا أدري هل لها علاقة بتلك المشكلة أم لا.
03/03/2006
رد المستشار
الزميل الأصغر "أحمد"
يبدو أن دراسة الطب قد طبعت شخصيتك بلونها العملي الإكلينيكي، فقد وصفت تاريخك المرضى بسلاسة وإطناب لم يشعراني بملل الإطالة وهذا أحيك عليه.
لكنني أعتب عليك أنك طالب طب ولم تستشر متخصصا من أساتذتك الذين يدرسونك علم النفس الطبي، فقط لو سمع أحدهم جملة مما قلت لي لأجاب على الفور:
إن ما تعانى منه أيها الأخ الأصغر هو وسواس قهري مكتمل الصورة من الطقوس الوسواسية والأفكار والصور الذهنية التي تأباها إما عقيدتك المتدينة أو شخصيتك العلمية وتحاول مقاومتها ولا تستطيع معها صبرا على تحمل أعباء دراستك.
نعم الآفة عندك هي الوسواس الذي يجر بالتبعية وراءه متلاذمتاه اللتان لا تفارقاه وهما الاكتئاب والتوتر اللذان يسلماك أحيانا إلى شلل بالتفكير وأخرى إلى الاختناق والتخشب كما وصفت.
يا صديقي
أنت تدرى الآن مشكلتك ولا تحتاج إلى تشخيص آخر لأن مشكلتك ليست معقدة علميا بل تعقيدها نفسي وشخصي ولا يهمك كثيرا أن نسترسل في تفسير أسباب الوسواس، لكن ما يهمك فعلا أن تتعلم كيف الخلاص من تلك الأفكار الضالة. فلو حدثتك عن لماذا أنت موسوس؟ فهذا يجرنا إلى أمور متشعبة وعدة لكن ما يهمك أن شخصيتك مؤهلة للوسواس بحكم التكوين الوراثي ثم تحت ضغط الظروف المحيطة بك وخصوصا أن لديك الغيرة على مستواك العلمي ولديك الحمية العلمية التي تكلف النفس ما لا تطيق من الجهد في سبيل التفوق، فقد حدث نوع من الخلل في الناقلات الكيميائية بالمخ المسئولة عن ملكية الفكر(Seretonin-Dopamine-Norepinephrine) فمن هنا قد فقدت السيطرة على الفكر ومن هنا أخذك الوسواس في شطحاته إلى رسم صور وسواسية لا تليق بك كمسلم كما أنها شغلتك عن دراستك ومن ثم أسلمتك إلى الاكتئاب.
يا صديقي
هون على نفسك أولا فأنت مريض،ومرضك عصابي لا يسلم إلى الجنون ولكن مشكلته هي المعاناة النفسية، وما دامت هذه الأفكار أنت عنها غير راض فأنت من ذنبها بريء فخف عنك إحساسك بالذنب.
ثانيا ما دامت هذه الأفكار تعوق تقدمك وتضعف من إمكاناتك فلا بد من استشارة طبيب نفسي لتتناول بعض العقاقير التي ستصلح ما أفسده الوسواس من خلل بالمخ.
أما عن قهر الأفكار التي تراودك فلديك طريقتين:
إما الهروب من الفكرة أصلا وهذا أفضل في البداية وذلك بشغل نفسك بأمر آخر أو تغير موضعك الذي يهاجمك به الوسواس، وأن تغلوش على الأفكار بشيء آخر كسماع القران مثلا أو ممارسة هواية أو سماع الموسيقى.
أما الأمر الثاني فهو معادلة الأفكار بأن تحدث نفسك بعكس نص الفكرة الوسواسية، فإذا حدثك الوسواس ورسم لك صورة لا تليق بالمسلم أن يتخيلها أو يفكر بها قل لنفسك ماذا يفيدني ذلك إلا خسرانا وإلحادا وردد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ...... }(المائدة101) وتذكر قول الإمام أحمد لما سئل عن كيفية الاستواء في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه5 فأجاب أن الاستواء معلوم والسؤال عنه بدعة، وهكذا عليك تكذيب الفكرة ومعاكستها واعلم أن التوتر المصاحب لها سيقل تدريجيا حتى يختفي فقد قدره العلماء من 30-60 دقيقة من التوتر عندما يقاوم الموسوس وسواسه فأولى بك أن تتوتر ساعة وتستريح دهرا.
وأخيرا أنصحك بأن تكثر من هواياتك فالرياضة تخلص الإنسان من كبته وتشعره بالسعادة وتهدأ من روع الأفكار في رأسه. وأن اقرأ على مجانين قصيدة (إلى مريض الوسواس واستشارة مجانية في الوسواس القهري).
وعسى الله أن يهيأ لك من أمرك رشدا.
مع تمنياتي بالسعادة