السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
في البداية لا يسعني إلا أن أشكر موقعكم هذا لما يقدمه للقراء من توجيهات وإرشادات عن طريق طاقم مؤهل ومميز. كما أن الاطلاع على هذه الاستشارات يسهم في زيادة ثقافة المطلع بلا شك.
في الحقيقة قد ترددت كثيراً عندما أقبلت على كتابة رسالتي هذه خوفاً من التهميش بسبب كثرة الاستشارات التي تصلكم، أو من استقبال إجابة كالسابق تقول طالع الاستشارات المشابهة السابقة. ولا أخفي عليكم أن هذه الرسالة أعتبرها باب نجاة بعد أن أوصدت كل الأبواب أمامي واشتدت هموم الحياة عليّ وأحكم اليأس قبضته، لذا اعذروني على الإطالة.
أنا طالب جامعي أدرس بكلية مرموقة من كليات التعليم العالي. كنت دوماً من المتفوقين بسبب ذكائي، كما أنني طموح للغاية وعندي بعد نظر في الأمور بشكل لافت. أحب الخير للناس جميعاً وأُسرع لمشاركتهم الأفراح في الدواوين ومساعدتهم عندما يطلبون. كنت أنظر للحياة نظرة تفاؤل وإقبال، ودوماً أرسم في خيالي ملامح حياتي المستقبلية. هناك الكثير من أساتذتي بالمدرسة والجامعة الذين شهدوا بحسن خلقي واجتهادي.
ظلّت حياتي مستقرة حتى أدركت عمق المأزق الذي أنا فيه، وبالتالي أصبحت خطواتي مترددة وغالباً ما تكون للخلف، أصبح صدري مرتعاً للغم والهم والنكد، وبدأت تتغير نفسيتي نحو الشر ومعاداة الناس، صرت فاقداً الثقة تماماً بقدراتي وهانت عليّ نفسي كثيراً حتى فكرت بالانتحار كثيراً قبل سنتين تقريباً. نعم، ارتديت نظارة سوداء لا أرى من خلالها إلا الألم والتعب والغم، وأصبحت أخاف المستقبل وما يخفيه لي من مصائب. هذا التحول في حياتي مردّه عدم قدرتي على مجاراة الناس في أحاديثهم وما رافقه من مشاكل متعلقة بهذا النقص، حاولت الكثير لفتح المواضيع ومجالسة الكبار، ولكن بعد أن ألقي بما عندي من كلام يخيّم عليّ الصمت وبالتالي ألفت انتباه الحاضرين وأصبح عرضة للانتقاد.
عندما استيقظت على هذا الكابوس المزعج أصبحت أميل للعزلة والوحدة القاتلة التي لا أجيدها، بل على العكس يكون الملل حاضر بشكل قوي وبالتالي الأفكار السلبية. أنا أحب الجماعة وأحب الناس ومخالطتهم، ولكن لا أستطيع لأني لا أطيق أن أكون أقل منهم في جلستهم، كما أني لا أجيد الجلوس وحيداً فريسة للملل.
عندما أصبحت على أعتاب التخرج بدأت أنزعج من قرب الزواج وما يصاحبه من علاقات اجتماعية يكون مفتاحها تبادل الحديث والزيارات، أصبحت أنزعج لأنني غير قادر على تشكيل علاقة شرعية مع من خفق لها قلبي بسبب ضعف مهارتي في الحديث، فلم أجد حلاً سوى الهروب من الواقع بالتناسي وبالمكابرة و...، بالإضافة إلى هذه الدوامة، أصابني الأرق من فترة وجيزة -تحصى بالشهور-، وبالتالي أصبحت أجد صعوبة بالنوم ولا أدري ما سببها، حيث أن مشكلة الصمت لديّ من أيام المدرسة وليست وليدة هذه الأيام.
تخيّلوا معي صعوبة يومي من فضلكم؛ النهار ملل والليل أرِق، يالله ما أصعب أيامي لم أعد أستمتع بها، لم أعد أشعر بطعم الأيام، أرى أنها تمرّ مسرعة وهمومي تزيد من سيطرتها عليّ، وبالتالي يعتريني خوف من المستقبل. أرى أيامي تمرّ فقط لكي تنال من جسمي النحيل وملامح شبابي! أنا توّاق لعيش أيام سعيدة بعيدة عن الأفكار السلبية، فلا يقولنّ أحد لي "انسَ وارمي وراء ظهرك" لأني لو كنت قادراً لفعلت. قرأت كتب السعادة وكتباً دينية بلا جدوى، لم أخرج من قرأتي لتلك الكتب ومن فضفضتي مع صديقي إلا اكتساب قدرة على تحمل الألم وإجادة ما يسمى بالصبر، ولكني أتوق لأعيش حياة أحبها وأستمتع بها مثل أي إنسان عادي في هذه الخليقة.
لا أريد أن أسمع من يذكرني بقوله تعالى "إنا خلقنا الإنسان في كبد"، لأن غيري خُلق مثلي ولكن يتحدث بسلاسة مع الآخرين ويشعر بالسعادة!. فأرجوكم اتركوا الروحانيات جانباً لو تكرمتم في ردكم على رسالتي، لأني طرقت باب الربّ كثيراً ودعوت الربّ كثيراً ولم أحصل إلا على مزيد من اليأس والقنوط. أريد حلولاً عمليه، أريد حلاً صائباً، لا أريد كلمات منمّقة تكون بمثابة المسكّن الذي يدوم لبضع دقائق بعد قراءتها، وكلما كان الرد تفصيلياً كان مريحاً أكثر.
أخيراً، أود أن أنقل لكم أن حياتي صارت سيئة؛ خليط من الأرق والملل والأفكار السوداء، ولكن تعلّمت الصبر عليها وأصبحت لا أفرّق بين خير وشر، بين صائب ومخطئ، بين الماضي والمستقبل.
18/08/2009
رد المستشار
أهلاً بك،
هناك خلل واضح في أفكارك؛ فأنت تفكر بسوداوية وسلبية مركّزاً فقط على المصاعب! عملاً بالمثل "تقدير البلاء قبل وقوعه" ومثال ذلك ما تشرحه سطورك من خوفك من ارتباطك وما يتطلبه الارتباط من التزامات لا تقدر عليها. لا شك سأنصحك في النهاية بالتوجه إلى الطبيب النفسي، ولكن لنحاول أن نبدأ من هذه اللحظة العلاج المعرفي فنقول:
ابدأ بتغيير محتوى أفكارك، فمضادات الاكتئاب -وهي أقصى ما سيقدمه الطبيب- دون العلاج المعرفي تكون مسكناً مؤقتاً، وحده تغيير أفكارك سيقربك من الحياة التي تريد، ومع ذلك أعلم أنه ستبقى هناك خطوة فارقة بيننا وبين ما نريد وهي التي تدفعنا وتشحذ طاقاتنا لتحقيق المزيد حتى بعد بلوغنا المستوى الأول من أهدافنا، وهذا السعي الذي يستهلك طاقتنا ويوجه خطواتنا هو ما يساعدنا على الشعور بالرضى.
أصدقّك حين تقول أنك تشعر بالملل، ولكن لا شيء سيزيل عنك شعورك بالملل سوى استغراقك في العمل، خصوصاً إن كنت تحبه. وتذكر أن لا وجود للإنسان الكامل، فكما تعلم لكل شيء إذا ما تم نقصان، فابدأ بقبول نفسك على ما هي عليه من توسط قدراتك الاجتماعية مقابل تفوقك العلمي، ولا بأس في هذا فالتميّز في البعد العلمي سيَجبر قصور الناحية الاجتماعية، خصوصاً أن تفكيرك منظّم وقدرتك على التعبير أكثر من جيدة -كما توحي سطورك-. يبقى لدينا إذن فكرتك المثالية عن التواصل الاجتماعي والتي غالباً ما تتبع درجات عالية من المتطلبات لا يحصل عليها الجميع وليس أنت فقط، فبداية خروجك من اكتئابك هو وضع ما تراه مشكلة في حجمه الحقيقي.
ذكرت بأن الصمت كان رفيقك دائماً وعدت لتقول أنك كنت شخصية نشيطة اجتماعياً! فهل كنت كذلك مع قلة كلامك؟ تقول أن مشكلتك فوتت عليك الحديث مع من أعجبتك من الفتيات، وأعتقد أن انخفاض ثقتك في نفسك وفي قدراتك هي السبب في عدم حديثك وليس عدم قدرتك الفعلية على الحديث، بالمناسبة يرحب معظم الناس بشخص لطيف قليل الكلام يوصف بأنه هادئ وعميق وهي صفات إيجابية.
أحترم رغبتك في الوصول إلى الصورة التي تريدها وهي الشخصية الاجتماعية السلسة، ولكنك لن تصبح هكذا فجأة، فضع من فضلك لنفسك بعض الخطوات الجزئية التي توصلك إلى هذا الهدف وتشغل فراغك وتسلّي وحدتك، وكما رأيت أن كل خطوة تقرّبك من هدفك: فها أنت قد تعلمت من قراءاتك وحديثك مع صديقك مهارة الصبر - ولنقل القدرة على التحمّل وهي مكون أساسي لتحقيق الغايات، والصبر على العثرات في سبيل تحقيقها. مهما فعلت لا تتجنب الناس بل خالطهم وسجّل كل ما يعجبك من أقوالهم وردودهم كي تستعين بها كنماذج محددة للسلوك الذي يعجبك لتتدرب عليها وتسلّي بها أرقك.
ركّز تفكيرك على ما يسرّك من الأنشطة، ولا تستعجل الإجابة بأن لا شيء يمتعك. برأيك كيف يمكن لمعجزة أن تحل مشكلتك؟ فكّر في هذا السؤال وضع جميع الأجوبة على ورقة لأكثر من يوم، ثم عد بعد عشرة أيام لتراجع هذه الأفكار ومن بينها ستجد طريقك إن شاء الله للخروج من معاناتك. من بين أفكارك التي تحتاج لتغييرها أيضاً فكرتك عن الروحانيات، فأنت تخلط بين العبادات والتي هي طريقك للارتقاء الروحي فقط عندما ترتقي بها، بينما لزوم الحد الأدنى منها وجمعها مع نفورك من بعض الشخصيات الداعية لها لن توصلك لاستشعار حلاوة الإيمان والقرب من الرّحمن، وتأمّل معي قول الرّحمن "وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" بهذه الآية أصبح لديك ملجأ قريب تلجأ إليه بكلمات حيثما كنت دون أن تحتاج استشارة منّا لأن لديك من هو أقرب منّا.
ها قد فصلت فأرجو أن تكون قد استفدت.
ويتبع>>>>>>> : الخطوة الفارقة مشاركة