أغرب مكالمة تليفونية
أغرب مكالمة تليفونية رددت عليها في حياتي كانت نهار اليوم!
اليوم في الثالثة عصراً تقريباً بتوقيت القاهرة رنّ جرس الهاتف في مطبخ شقتي.. رفعت السماعة كعادة كل البشر ورددت بكل هدوء قائلة: "ألو"- عادي، كل الناس تقول هذا على ما أظن، أو على ما كنت أظن من باب أولى-، المهم، ردت سيدة وقورة يبدو من صوتها أنها في منتصف الثلاثينات تقريباً وقالت: "مساء الخير" -عادي أيضاً- ثم استطردت قائلة: "من فضلك، أنا مسافرة وعندي كلب، وأود إيداعه لديكم لحين عودتي"..
بكل بساطة وهدوء رددت بسرعة: "آسفة، واضح أن حضرتك أخطأت رقم المطلوب" -عادي حتى الآن-،
لكنها فاجأتني بسؤال لشدة استغرابي لا أستطيع وصفه.. قالت: "أليس هذا بيت الكلاب؟؟" لو كنت أحد في الشقة معي لرأيت علامات في وجهي لا تفسير لها في علم لغة الجسد إلى الآن...!
فكرت بالرد قائلة: "لا يا سيدتي، هذا بيت آدمين...لا لا... الملافظ سعد يا سيدتي.. لا لا... اعذرني لم أسمع جيداً، وواضح أن حضرتك اتصلت بالجهة الخطأ.. لا لا ... أي قلة ذوق هذه؟!" لكن الحقيقة أن عقلي البشري عجز وبشدة عن استيعاب الموقف وحسبتها بسرعة وقلت:
من المؤكد أن السيدة السائلة تعاني من بعض الصعوبات الاجتماعية في التعامل أو تفهم لغة البشر، وبشكل خاص بعض الذوقيات... العلاقة التي تربطني بهذه السيدة هي مكالمة تليفون لا أكثر، تنتهي بوضع السماعة. اليوم عرفة وربنا ينشر الهدى على عباده فيه... فما كان مني إلا أن قلت لها "كنت أتمنى مساعدتك، لكن الرقم المطلوب خطأ"، ردت السيدة بكل هدوء "I’m sorry"! لست أدري بشكل واضح ماذا قصدت بتلك الكلمات التي همهمت بها، لكني مدركة أنها تحتاج إلى الاعتذار عن أكثر مما أدركت...
بعد أن وضعت السماعة انتابتني موجه شديدة القوة من الضحك المستمر، قد يكون سببها الذهول أو الإحراج أو الاستغراب أو ربما من فكاهة الموقف.. لست أدري!.
ردوا عليّ يا سادة،
هل ممكن أن يعاني شخص من محدودية وقصور في القدرات الاجتماعية إلى هذا الحد؟.
نحتسبها عند الله حسبنا الله ونعم الوكيل.
"بجد مش عارفه ذنب باقي الناس اللي في البيت إيه إنهم يسمعوا إن الكلام دا بيتقال.. وعن مين.. بيتنا...
لا إله إلا الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. تبت وأنبت إليك ربي."
26/11/2009
رد المستشار
عندما قرأت هذا الإيميل للمرة الأولى كاد أن يمر على ناظري مرَّ الكرام دون أن يلفت نظري إلى شيء غير عادي، فهي حكاية متكررة وعادية، بل وأنها أقل فظاعة من الكثير من مثيلاتها من المكالمات الاستفزازية...
ثم استوقفتني فجأة هذه المقاطع من حديث النفس..( المكالمات الاستفزازية... متكررة... عادية... فظاعة...)
ياللهول!!! أين نحن إذن... وماذا نكون؟ هل نحن نعيش في مجتمع مسلم؟؟ وهل نحن متخلقون بأخلاق الإسلام؟
كان أول ما جال بخاطري هو أن جهاز الهاتف، ذلك الاختراع البشري الرهيب، هو وسيلة من وسائل الدخول إلى البيوت، فبمجرد الضغط على بعض الأزرار يدق الجرس ثم تفتح لنا بوابة من البوابات المغلقة في مكان ما، قد يكون له من الخصوصية ما لا يمكننا من تجاوزه بوسيلة غير هذا الجهاز العجيب...
ولعلنا نستفيد مما نسمعه ونقرأه يومياً من مهازل أخلاقية تتم أركانها من خلال الهاتف، لتدل على حقيقة كونه مدخلاً واضحاً من المداخل الواسعة للبيوت....
فقد يدق جرس التليفون في حجرة النوم الشخصية مثلاً، أو في مكان أكثر خصوصية من ذلك، ومن هنا فقد استوجب استعمال الهاتف أن يُطبق عليه بعض القوانين –أو كلها- التي تطبق على دخول البيوت، بدءاً من اختيار الوقت المناسب ومروراً بالاستئناس وإلقاء السلام، ثم الاستئذان، فالأدب فيما نقول من اختيار للألفاظ وحتى في نبرة الصوت، هكذا يجب أن تكون أخلاقنا، وهكذا يجب أن تكون سلوكياتنا، لأن هذا هو ديننا، نحن المسلمون، كما نجد في قول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النور 27)، كما نجد أيضاً: { َلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (الأحزاب 32).
ويأتي بعد ذلك تأكيد الإسلام العظيم على وجود حساب دقيق على كل ما تنبس به شفتانا وألسنتنا من أقوال، ولنتذكر قول الرسول الكريم– عليه أفضل الصلوات والتسليم (من كان يؤمن بالله و اليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقوله عليه السلام (من ضمن لي ما بين لحييه وفرجيه ضمنت له الجنة)، وقوله (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)، وقوله عليه الصلاة والسلام (لا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم).....صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أكثر ما ورد في السنة الصحيحة من أقوال ومواقف تؤكد على تميز المسلمين بالمحافظة على أرقى مستوى من التعامل البشرى من حفظ للسان، وأدب في الحوار، وما أكثر ما ورد في ذلك في نصوص القرآن الكريم، كما نجد في الآية الشاملة المانعة؛ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق 18)
كان كل ما ذكرنا فيما يخص المتحدث، فماذا عن المتلقي، الذي تتعرض أذناه للبذاءة في الكلام؟
نجد أن تعاليم ديننا الحنيف من قرآن وسنة كانت حريصة كل الحرص على احتفاظ المسلمين بسلوكهم الراقي حتى لو تعرضوا لما هو متدنٍ من الحوار، ويتجلى ذلك في قول الله عزّ وجلّ:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان 63).
ولنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدوة، وهو من هو، بما هو معروف عنه من شدة وقسوة في الجاهلية، تبدلت باعتناقه الإسلام لتكون حكمة وقوة، عندما داس على قدم رجل عن غير قصد (وهو أمير المؤمنين)، فقال له الرجل هل أنت أعمى؟ فقال عمر لا، فقال أحدهم للرجل ألا تعرف من هذا أيها الرجل إنه أمير المؤمنين فقال له عمر رضي الله عنه وأرضاه إن الرجل لم يخطئ فقد سألني هل أنت أعمى فقلت له لا....
ولنا أن نتخيل ما يكون عليه رد الجاهلية على مثل ذلك الموقف؛ عندما يتعرض أحدهم لمن يقول له: هل أنت أعمى؟... هل يستطيع أن يحولها لصيغة سؤال عادي (على علمه بحقيقتها) كما فعل عمر؟ أم نتوقع منه أن يرد بأغلظ الألفاظ كأن يقول: أنت أو أبوك كذا وكذا... لتستمر المأساة إلى ما نراه ونسمعه يومياً....
إذن الأمر فعلاً ليس بعادي، ولا يجوز أن يكون كذلك، فديننا هو دين الأخلاق، ودين الأدب كما أنه دين العلم، ولا يستطيع علماؤه وخبراؤه أن ينكروا ما في تعاليم الإسلام من وفرة وغزارة يحتاجها العلاج النفسي المعرفي والسلوكي الحديث، سواء علموا بها أم جهلوها...
وأخيراً، أحب أن ألقي التحية على صاحبة الإيميل، وأن أثني على رقيها وأدبها، وأن أهدي إليها الآية الكريمة؛ {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة 263)
وهذه أيضاً؛ {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران 134).