حين سمعت عن الشاب الذي صعد العمارة التي تحوي السفارة الإسرائيلية (21 طابق) تسلقا من الواجهة تخيلت أنني سأرى شابا مفتول العضلات له ميول رياضية واجتاز بطولات عالمية في القفز أو التسلق، وإذا به شاب ريفي بسيط من محافظة الشرقية يبدو عليه ما يبدو على غالبية المصريين من هزال الجسم وشحوب الوجه بسبب ما عرضهم له مبارك وأعوانه من سموم في الأرض والبحر والجو، وما وضعهم فيه من فقر وبؤس لكي تمتلئ حساباته وحسابات أولاده وعصابته بالملايين أو المليارات.
جلست كطبيب أحسبها: إن هذا الشاب الجالس أمامي على شاشة التليفزيون ربما لا يستطيع صعود 21 طابقا على السلم، فكيف إذن استطاع أن يصعدها تسلقا على الواجهة من بلكونة لبلكونة لشباك؟، من أين جاء بهذه الطاقة ونسبة الهيموجلوبين في الدم لديه قد لا تتجاوز 2؟، وإذا جاء بالطاقة فمن أين جاء بالجرأة والجسارة ليتجاوز كل الموانع الأمنية والعسكرية ويتسلق العمارة الشاهقة وكأنه يتسلق شجرة توت في بلدته بالشرقية؟؛
ثم هو حين يصل إلى أعلى العمارة يمشي فوق حافتها وكأنه يتمشى على شاطئ الترعة في ثبات وطمأنينة متجها نحو العلم وكأنه صاروخ موجه لأداء مهمة محددة لا يلتفت إلى سواها؟، وحين ينجح في تنكيس العلم الإسرائيلي ويبدأ في الهبوط ثلاث طوابق يتذكر بأن العلم المصري مازال معه وأنه نسي أن يضعه مكان العلم الإسرائيلي فيعاود الصعود مرة أخرى ليتم المهمة، أي همة وعزيمة وإرادة يحملها هذا الشاب في كيانه وهو الذي صرح أنه لا يفهم في السياسة؟، كم هي كمية الأدرينالين التي أفرزها جسمه في ذلك الوقت؟، وأين مخاوفه الإنسانية الطبيعية وهو يعلم أنه يتسلق عش الدبابير ويتوقع وجود قناصة، أو قوات خاصة ترديه قتيلا في لحظة أو تقبض عليه لتذيقه أشد أنواع التعذيب؟.
ما حدث كله ينتمي إلى الظواهر المصرية التي لا تستطيع قياسها أو تفسيرها بالمنطق العادي المسطح، ويبدوا أنها تنتمي لعمق حضاري أو عمق روحي يتجاوز الحسابات. ولا ننسى أن أحمد الشحات ينتمي إلى نفس المحافظة التي كان منها سليمان خاطر الذي آذاه منظر الإسرائيليين وهم يعربدون على أرض مصر بينما كان هو جندي حراسة فأطلق النار عليهم بلا أوامر وانتهى به الأمر بعد المحاكمات إلى الموت في السجن، وقيل وقتها أنه انتحر ولكن أغلب الظن أنهم "انتحروه". وما فعله أحمد الشحات يذكرنا بعبد العاطي، الجندي المصري الريفي البسيط الذي اكتسب لقب "صائد الدبابات" في حرب أكتوبر حيث استطاع بمفرده وبسلاح بسيط جدا أن يدمر أكثر من 14 دبابة إسرائيلية. وهذا يذكرنا بالبطولات التي كانت أشبه بالمعجزات في حرب أكتوبر على أيدي جنود مصريين بسطاء وهم يعبرون المانع المائي ومن خلفه الساتر الترابي ومن خلفه نقاط خط بارليف المنيعة.
هذا شعب غريب عجيب حيث تراه في لقطات يبدو هادئا أو خاضعا أو مستسلما أو كسولا أو لا مباليا، وفي مواقف الجد تجد نوعا آخر من البشر يفعل المعجزات.
علماء الاجتماع يقولون بأنها نظرية "قوة الضعف وضعف القوة"... بمعنى أنه على الرغم من أن أحمد الشحات فرد واحد ولا يملك قوة بدنية هائلة إلا أن كونه خفيف الجسد رشيق الحركة ويعمل نقاشا، كل هذا سهل له القيام بهذا العمل الخارق ولم تمنعه عوامل ضعفه من هزيمة قوة الحراسة الإسرائيلية المتوقعة داخل وخارج المبنى، بمعنى أن كل ضعف لا يخلو من نقطة قوة، وكل قوة لا تخلو من نقطة ضعف، وقد استطاع أحمد بعبقرية فطرية وبعد دقائق من وصوله لمكان التجمع حول السفارة (بالمناسبة هو ذهب كحب استطلاع لا أكثر) أن يكتشف ما لديه من نقاط القوة، وما لدى الآخر من نقاط الضعف فقرر في لحظات وبلا تردد أن يبادر بالحل الشخصي الفوري والبسيط والقاطع في ذات الوقت، خاصة وهو يعلم مراوغة ومماطلة السياسيين وحساباتهم الملتوية والتي ربما تأخذ شهورا أو سنين لتنكيس العلم الإسرائيلي، فإذا كان هو يستطيع أن يفعل ذلك في دقائق ويعفي الجميع من المسئولية، ويعيد للمصريين إحساسهم بالكرامة، فلم لا يفعلها؟
أما علماء الدين فينظرون إلى تلك الأحداث والأفعال الاستثنائية على أنها تدبير من الله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، فأحمد نوى وقرر وبدأ التنفيذ فأعانه الله وأكمل له مهمته. وفي التاريخ الإسلامي بطولات هائلة قام بها صغار السن مثل على ابن أبي طالب وأسامة بن زيد والقعقاع بن عمرو وغيرهم كثيرون، وفي هذا دلالة على الوعي بالكنز الهائل لدى هذا السن الذي لا يدري عنه الكثيرون.
وأيا كانت قناعاتك أو اعتراضاتك، فالحدث قد تم على هذا النحو المدهش والمبهر، ولا أظنه يحدث في أي مكان آخر غير مصر، ويبدو أن ثورة 25 يناير أعطت جرأة وجسارة للشباب المصري لم تكن ظاهرة فيه قبل ذلك بهذه القوة، وهذا ما أذهل العالم إبان وبعد الثورة، وربما لم يكن هذا ليحدث قبل الثورة، خاصة وأن نظام مبارك دأب على كبت هذا الشباب وترويعه في أقبية مباحث أمن الدولة وأقسام الشرطة، وكان حريصا دائما على خصائه وكسر شوكته في أي تجمع بواسطة العصي الغليظة للأمن المركزي، وإذا تمكن من القبض عليه وضع العصي في مؤخرته أو أزهق روحه واتهمه بابتلاع لفافة البانجو ورماه على قارعة الطريق.
والآن تحرر هذا الشباب من نظام مبارك البغيض واكتسب روحا جديدة شعر معها بأنه لا مستحيل، فانطلقت هذه الروح في جسد شاب نحيل شاحب ينطلق كالسهم متسلقا عمارة شاهقة لينفذ مهمته التي يعتقد أنه ينقذ بها كرامة بلده ويأخذ بها جزءا من ثأر إخوانه المصريين الذين قتلهم العدو غدرا على أرض سيناء بلا أي مبرر.
كنت أنظر إلى أحمد الشحات وأتخيله في عصر مبارك يتعرض لما تعرض له نظراؤه من التعذيب لا لشيء إلا لأنه خرج في مظاهرة تندد بوحشية العدوان الإسرائيلي على غزة وتزعج أصدقاء وأحباء مبارك في تل أبيب والبيت الأبيض.
وفي نهار اليوم الذي نفذ فيه أحمد الشحات مهمته نقلت وسائل الإعلام مشهدا ذا دلالة عجيبة، إذ وقف اثنان من المراهقين لا تتجاوز أعمارهما الخامسة عشر وفي أيديهم عصي أو قطعا من حديد يضربون بها على قطعة من الصاج الذي كان يغطي سور كوبري الجامعة أمام عمارة السفارة الإسرائيلية، وهم يفعلون ذلك بحماس شديد، فجاءهم أحد الضباط مستغربا فعلهم وحاول أن ينهرهم عن هذا الفعل الذي يبدو بلا جدوى، ولكن يبدو أن هذين المراهقين كانا يدركان قيمة ما يفعلانه لذلك عاودا الطرق وبشدة على قطعة الصاج، وفي الأغلب هم يريدان أن تصل هذه الأصوات إلى أذن السفير الإسرائيلي ومن معه، وأن يراهم هؤلاء الإسرائيليين المتغطرسين فيعلمون أنهم يواجهون جيلا جديدا من المصريين لم يتعودوا عليه، وأن مبارك الذي كان يشكل حماية لهم لم يعد موجودا، وأن إسرائيل سترى من هذا الجيل أياما سوداء إن هي استمرت في سياستها العنصرية والعدوانية.
والغريب أن هذا الشاب الجسور المبادر (أحمد الشحات) لم يخش صعود 21 دور تسلقا، ولم يخش النيران الإسرائيلية، ولكن الآن يبدو عليه علامات قلق حقيقي مما يمكن أن يصيبه من أذى على أيدي سلطات الأمن المصرية (وقد عبر عن مخاوفه تلك بصراحة في لقاءاته)، وهذه مهمة الشعب المصري بأكمله أن يمنح أحمد الشعور بالأمان كما منح أحمد حياته لوطنه ولشعبه في لحظة حاسمة.
لا شك أن هذه المشاهد التي حدثت وما زالت تحدث حول السفارة الإسرائيلية ستنال الكثير من الاهتمام وتحظى بالعديد من التحليلات في إسرائيل ليكتشفوا أن حياتهم بعد زوال كنزهم الإستراتيجي (مبارك) ستختلف كثيرا خاصة في وجود قوة وجسارة وقدرة هذا الشباب المصري صغير السن عظيم الهمة، وهو ليس وحده ولكنها حالة مصرية جديدة ولدت مع الثورة في 25 يناير.
تحية لكل طفل مصري وكل مراهق مصري وكل شاب مصري وكل شخص مصري قرر أن يعيد لمصر كرامتها وهيبتها واستقلال إرادتها بعد أن باع مبارك وعصابته كل هذا أو أعطوه هدية للمتغطرس الأمريكي والمستعمر الصهيوني مقابل أن يبقوا هم على كراسيهم ويورثوها لأبنائهم.
واقرأ أيضاً:
مشروع الثورة، والوعي الجمْعي الجديد/ ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ بعد 25 يناير؟/ الأعراض الجانبية للثورة/ فرصة للتصالح الاجتماعي/ 50 % & 50 %، ... فماذا يتبقى لنا؟