حديث يدور بين سجناء طره عن أشباح تظهر في الليل تجوب العنابر وتختفي عند اقتراب أي شخص منها، ويرجح نزلاء السجن أن تكون هذه أرواح بعض السجناء الذين حكم عليهم بالإعدام، والعجيب أن السجناء يستطيعون أن يربطوا بين كل شبح والشخص الذي يمثله. وصلت هذه الأخبار إلى إدارة السجن فلم تعرها اهتماما واعتبرتها مبالغات وحكايات يسلي بها المسجونون أنفسهم وينشغلون بها عن الواقع الذي يعيشونه، ولكن مع الوقت بدأ المسجونون يحتجون على الإقامة في بعض الزنازين والعنابر خاصة تلك التي يسمونها منتجعات الأكابر إشارة إلى رموز النظام السابق الذين أقاموا في تلك الأماكن. ولم يقتصر الأمر على الأشباح بل زاد الطين بلة انبعاث روائح خاصة من تلك الأماكن... روائح لا تستطيع أن تسميها ولكنك لا تستطيع تحملها ولو لدقائق، فهي مزيج رائحة بقايا آدمية وبقايا حيوانية وأسماك متعفنة.
ووصل الأمر إلى بعض الصحف المعارضة فنشرت الموضوع على صفحات كاملة، وأخذت رأي المتخصصين في الدين وعلم النفس والباراسيكولوجي، وتباينت الآراء وكانت أغلبها تصب في اتجاه أن تلك هلاوس أو شبه هلاوس بصرية وشمية ربما تظهر لدى المساجين بسبب الوحدة والعزلة، وربما يساهم في تناميها تعاطيهم لبعض المخدرات المهربة، ولهذا تم عمل تحاليل لجميع المساجين فلم يثبت تعاطيهم لشيء من ذلك.
وتم تشكيل لجنة علمية متخصصة ومحايدة لدراسة الموضوع، وقضى أعضاء اللجنة عدة ليال يرصدون العنابر والزنازين بالعين المجردة إضافة إلى تثبيت كاميرات خاصة ذات سرعة فائقة وتلتقط الأطياف الضوئية المتنوعة، وكان تقرير اللجنة مفاجأة: هناك فعلا أشباح تظهر وترى بالعين ولكن الكاميرات لم تستطع رصدها ربما لأسباب فنية أو لأسباب خفية لا يعلمها أحد.
وحضر كثيرون ممن يدّعون تحضير الجن وتحضير الأرواح وحاولوا صرف هذه الأشباح بكل الطرق المعروفة لديهم ولكن دون جدوى، وهنا قرروا أن هذه الكائنات لا تنتمي إلى عالم الجن الذي يعرفونه جيدا.
وما هي إلا أسابيع حتى أصبحت الأشباح، أو ما كانت أشباحا، تشاهد في وضح النهار، في البداية كانت تظهر لحظات خاطفة ثم أصبحت تستغرق وقتا يطول شيئا فشيئا، إلى أن أصبحت موجودة طول الوقت، وجاء الناس من كل حدب وصوب يشاهدون هذا المنظر الغريب والعجيب، وتم إخلاء العنابر والزنازين من المساجين، وطرحت فكرة جريئة لتنشيط السياحة في مصر، وهي تحويل سجن طره إلى حديقة أشباح، أو بالأدق "حديقة أشباح الحيوانات"، وإليكم وصف لبعض مناطق الحديقة وما يسكنها من كائنات:
القفص الأضخم في مدخل الحديقة مخصص لحيوان يشكل ظاهرة محيرة فتارة يأخذ شكل البقرة الضخمة مع اختلاف عن سائر البقر في أن العينين تخلو من طيبة البقر بل هي تمتلئ شرا وشررا، والفم متسع بشكل مبالغ فيه لدرجة أن من يراه يعتقد من بعيد أنه يضحك في حين أنه متسع ليلتهم أي شيء في طريقه، والشفتان غليظتان وعريضتان وتبدوان وكأنهما فرغا من الأكل لتوهما، وفي أحيان أخرى تتحول هذه البقرة الوحشية إلى فيل ضخم عجوز ذو جلد سميك وحركة بطيئة واستجابة بليدة ويختلف عن بقية الأفيال في كونه غير مستأنس ولديه رغبة في أن يدهس كل شيء في طريقه ويقضي أغلب الوقت يعبث في منخاره بطريقة مقززة؛
أما التحول الثالث والأخير فهو تنين ضخم ذات أذرع ملتوية وقاتلة وليس له رأس، أو كأن رأسه قطعت. ولهذه التحولات التي تحدث في هذا الكائن يتحير المشرفون على حديقة الحيوان في تسميته، فتارة يسمون القفص "بيت البقرة" وتارة يسمونه "بيت الفيل" وتارة أخرى يسمونه "بيت التنين العجوز"، أما الأطفال والشباب والقرويون فيسمونه "قفص البقرة الضاحكة" أو يختصرون الاسم على عادة المصريين في كلمة واحدة هي "لافاشكيري"، ويعترض المثقفون على هذه التسمية وحجتهم في ذلك أن هذا الكائن يخلو من براءة وعطاء وسخاء البقر، كما أن ضحكته غير حقيقية وغير مبهجة، بل هي حالة استعداد للإلتهام والابتلاع.
كما أن هذه البقرة تخلو من الضرع (محل اختزان اللبن) الذي تتميز به إناث البقر كما تخلو أيضا من أعضاء الذكورة، ولهذا فهو كائن خنثى لا تتضح له أنوثة من ذكورة. ويشكو المسئولون عن هذا الحيوان من شراهته الشديدة في الطعام، فهم طول الوقت يقذفون إليه بكميات كبيرة من اللحم والبرسيم والذرة إضافة إلى مخلفات القمامة النتنة فهو مغرم بتلك الأشياء.
ويحيط بقفص التنين الكبير أقفاص أخرى أقل حجما أحده يسمونه قفص "التنينة الهانم" والآخرين لأولاده، فإذا تأملت التنينة الهانم فسترى وجها مصطنعا وكأنه من الجبس مع ابتسامة بلاستيكية مقلقة وجسدا متخشبا، وعلى يمينها الابن الأصغر يقف متعاليا متغطرسا ومتحفزا وتبدو في عينيه كل علامات الطمع، أما الابن الأكبر فيبدو حائرا متململا في القفص لا يعرف ماذا يريد.
وبعد عدة خطوات من قفص التنين الضخم وأقفاص أسرته ترى ثلاث أقفاص متتالية تشكل في مجموعها ما يسمى بيت الثعالب حيث يحوي كل قفص ثعلبا عجوزا كل منهم من فصيلة مختلفة، ولا يجمعهم إلا تلك النظرة الثعلبية التي تعطيك الإيحاء بالسكون والأمان بينما يدور من تحتها كل أنواع التدبير والتآمر الدنيء. وأمام قفص الثعالب تنتاب الزوار حيرة: أيهم أكثر مكرا ودهاءً وخسة، وهنا تجري مراهنات بين الشباب للوصول إلى إجابة هذا السؤال من خلال مراقبة سلوك الثعالب الثلاثة. ويبدو أن ثمة علاقة هامة تربط بين التنين الكبير وأسرته من ناحية وبين الثعالب الثلاثة من ناحية أخرى وذلك من خلال إشارات متبادلة بين أقفاصهم لا يفهمها أحد غيرهم. وبالقرب منهم قفص لكائن عبارة عن هجين لوحيد القرن والثعلب، ولهذا يسمونه أحيانا "وحيد التعلب" وهو يقوم بالربط بين التنين الكبير والثعالب الثلاث وتنسيق العمل بينهم خاصة في أوقات الأزمات.
وإذا انحرفت يمينا ومشيت حوالي مائة متر فستجد قفص الكلب العقور، وسبب التسمية هو الوحشية الهائلة لهذا الكلب فمعروف عنه ميله الشديد للعض وتمزيق الأجساد، وهو يروح ويجئ في القفص بينما عيناه ثابتتان ومسلطتان على زائري الحديقة وكأنه يحلم بتمزيق أجسادهم والتلذذ بمص دمائهم، وبالمناسبة كثيرا ما تظهر بقايا الدماء في جوانب فمه . وعلماء الحيوان يشككون في كونه كلبا ويؤكدون بأنه هجين من الكلاب والذئاب، ولهذا فمن الأصوب أن تسميه "كلبا ذئبيا" أو "ذئبا كلبيا". وفي نفس القفص يمكنك أن ترى من خلفه مجموعة من الكلاب الأصغر حجما ولكن بنفس درجة الشراسة والعدوانية.
فإذا أكملت السير إلى وسط الحديقة فستجد ساحة دائرية خضراء وواسعة موزع على أرجائها صور شهداء 25 يناير ولهذا يسمونها ساحة الشهداء، وهناك اعتقاد راسخ لدى الناس أنه لولا هذه الصور في الحديقة لخرجت تلك الحيوانات إلى الطريق العام ولهددت الحياة الآدمية في مصر كلها. وهناك مشهد بديع لن تراه كزائر للحديقة نهارا، ولكن يتحدث عنه المسئولون عن الحديقة، وهو يحدث كل ليلة، حيث يسيل من صور الشهداء ما يشبه الدم فيسقي الزهور والأشجار في ساحة الشهداء ويمتد أثره في بقية الحديقة وربما في سائر المدينة، وهذا السائل له رائحة لا يمكن أيضا تسميتها فهي مزيج من المسك والفل والورد وسائر الروائح الزكية. وكلما حاول حرّاس الحديقة أن يجمعوا هذا السائل في آنية لا يستطيعون، فهو غير قابل للاحتواء ويعرف طريقه ووظيفته دون تدخل من البشر.
وبعد تجاوز هذه الساحة الخضراء يمكنك أن تنزل نفقا لترى حيوانا يجمع بين صفات القرد والنسناس والثعلب والذئب، فعلى الرغم من قصر قامته وضآلة حجمه إلا أنه حيوان جبار، ولهذا وضعوه تحت الأرض لفرط خطورته، والناس في الحديقة يسمونه "القصير الجبار" نظرا لحيرتهم في توصيفه كحيوان، فكما قلنا يبدو أنه هجين ملوث من عدة حيوانات تجمع صفات الدهاء والعدوانية والمكر والمباغتة والخداع. وأحيانا يتحول هذا الحيوان إلى ثعبان صغير الحجم ولكنه شديد السمية، وهناك حكايات أقرب للأساطير عن ضحايا هذا الثعبان أو هذا الحيوان القصير.
وحين تخرج من نفق بيت القصير الجبار وتتجه يسارا فستجد بيت "البغلة" وهي قصيرة وممتلئة وتتحرك يمينا ويسارا ممسكة بقطعة قماش قديمة تمسح بها أرضية القفص، ولديها عادة أخرى مشهورة بها وهي أنها تقبل الأيادي، ولهذا يتسلى الأطفال والشباب وحتى الكبار بمد أيديهم لها لتقبلها في مذلة واضحة، ويبدو أنها مستمتعة بهذه المذلة أو على الأقل تعودت عليها من طول سنين الخدمة في الحظائر.
وعلى الرغم من هذا الخضوع وتلك المذلة الظاهرين إلا أنها تغدر أحيانا فتعض أو تأكل اليد الممتدة خاصة الأيادي الغضة الصغيرة، وهي لا تفعل ذلك أبدا في أيادي الكبار. وللأمان في التعامل معها يقول الزائرون لها "بوسي إيد الهانم" وكأن هذه كلمة سر تجعلها في منتهى الخضوع والاستسلام. وأحيانا يحتاط الزائرون من غدرها فيمدون لها أحذيتهم فتقبلها في شغف ونهم.
وإذا كان لديك وقت إضافي فيمكنك زيارة بيت الأفاعي وبيت العقارب والسحالي وحظائر البغال والحمير والجمال، وكلب البحر وكلب البر والقطط البرية والقطط السمان ومستنقع الحيتان. ولكن لن ترى في هذه الحديقة أسد أو غزال أو نعام أو طيور.
وهناك قسم خاص في الحديقة للحيوانات المتحولة (أو الممسوخة)، حيث ترى كلبا قد تحول لثعلب، أو ترى ثعلبا تحول لذئب، أو ترى ديناصورا تحول لثعبان، أو ترى كلب البحر وقد تحول لسمكة قرش، أو ترى هجينا لا تستطيع تسميته لأنه مختلف عن كل الحيوانات التي تعرفها أو حتى يعرفها علماء الحيوان.
والجزء الأخير من الحديقة مقسم إلى ثلاث ساحات كبيرة، الأولى هي عبارة عن سيرك كبير ملئ بحيوانات أشبه بالبهلوانات وهم لا يعملون إلا بعد أن يدور أحدهم على الزائرين فيجمع منهم مالا (على طريقة الحاوي الذي يقوم بألعاب سحرية في القرى والأحياء الشعبية)، وعند الوصول إلى مبلغ محدد تجد البهلوانات بدأت في الرقص والقفز والحركات الخليعة والبذيئة لكي ترضي دافعي الأموال.
أما الساحة الثانية فتسمى ساحة "سيد عبود" وتمتلئ بأعداد هائلة من البغال والحمير والجمال وبعض البشر الممسوخين في أشكال يصعب تصنيفها في مملكة الحيوان. وهذه الحيوانات معروضة للإيجار ومن يدفع أكثر يركب أكثر. أما الساحة الثالثة والأخيرة فهي ساحة روكسي وتحوي عددا كبيرا من الببغاوات التي يتم برمجتها بكلمات تقوم بترديدها بشكل مثير للضحك وأحيانا للاشمئزاز والغضب.
وقرب باب الخروج سترى خيمة كبيرة مكتوب عليها "خيمة الثقافة القومية"، إذا دخلتها فسترى على اليمين "حمار الحكيم" وبعده "الثعبان الأقرع" وأمامه "الحرباء" يليها "الجحش"، وفي الواجهة تمثال كبير لمسيلمة الكذاب يليه تماثيل عديدة مكتوب عليها "سحرة فرعون"، وينتشر في أنحاء الخيمة أعداد كبيرة من الببغاوات قبيحة الشكل تحدث ضجيجا هائلا طول الوقت.
والمشكلة الكبيرة التي ستواجهك في هذه الحديقة العجيبة هي تلك الرائحة المنبعثة من الحيوانات التي تقطنها خاصة قفص التنين الأكبر، تلك الرائحة التي تجعل غالبية زوار الحديقة يغادرونها بعد عدة دقائق حيث يصابون بالقرف والغثيان وأحيانا بالغضب. وقد عرف زوار الحديقة كيف يتغلبون على تلك الروائح ويستطيعون إكمال الجولة وذلك بطريقتين: الأولى هي استخدام قطنة مبللة بالخل أو البيبسي واسنشاقها من وقت لآخر، والثانية بأن يأووا إلى ساحة الشهداء من وقت لآخر حيث النسيم العليل والخضرة الخلابة والرائحة العطرة.
وعلى الرغم من غرابة هذه الحديقة واجتذابها لأعداد هائلة من الزوار والسائحين إلا أن علماء الحيوان لديهم تخوفات كثيرة بسبب التحولات التي تجري لهذه الحيوانات والتي ربما تشكل خطرا مباغتا في أي وقت، وقد حدث فعلا أن تضخمت وتوحشت بعض هذه الحيوانات وتكاثرت بصورة سرطانية وكسرت القفص وكادت تفتك بكل من يقف في طريقها لولا أطياف نورانية هبت من ساحة الشهداء أحاطت بها فأعادتها إلى حجمها الطبيعي ومكنت الحراس من السيطرة عليها.
ويحكي حرّاس الحديقة عن حركة ليلية لتلك الأطياف النورانية المنطلقة من ساحة الشهداء والتي تقوم كل ليلة بإحكام إغلاق الأقفاص وتأمين مداخل ومخارج الحديقة وكبح جماح الحيوانات الشرسة. أما أهل المدينة المحيطة بالحديقة فهم يتلهون بحكايات الحيوانات المسخ العجيبة المحبوسة في الأقفاص، وكرامات الأطياف النورانية المنبعثة من ساحة الشهداء، وفيما عدا ذلك فهم عما يدور بينهم وحولهم غافلين.
واقرأ أيضاً:
المستقبل الدستوري لصاحب السيادة/ ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ منظومة الحرية/ الرؤية المستقبلية لمصر