إن الذي يظن أنه قادر على خداع الشعب المصري والسيطرة عليه وامتطائه بعد قيام ثورة 25 يناير لا يحتاج إلى تنبيه أو محاسبة وعقاب فقط ولكن يحتاج بجانب ذلك إلى اختبار ذكاء واختبار قدرته على التعلم من خبرات من سبقوه. فيبدو أن الذين تفتق ذهنهم عن بناء الجدار العازل حول السفارة الإسرائيلية لم يعرفوا أبسط قواعد التاريخ أو الجغرافيا ولم يفهموا التركيبة النفسية للمصريين بعد، ولم يصل إلى إدراكهم خبر قيام الثورة وهم أبعد ما يكونون عن فهم المعاني وراء الأشياء. هم فقط تصرفوا بناءا على اعتبارات أمنية سطحية (كما أنشأوا الحواجز الحديدية في شارع الأزهر وميدان التحرير) فظنوا أن بناء جدار عازل سيحمي السفارة الإسرائيلية من تجمعات الغاضبين والمحتجين من المصريين الذين تستفزهم سياسات إسرائيل العدوانية التي تتجاوز العدوان السافر إلى الإهانة للكرامة الوطنية، وقد ظل هذا السلوك الإسرائيلي لسنوات طويلة على مدى حكم حسني مبارك، وبما أن مبارك كان رجل إسرائيل في مصر والشرق الأوسط لذلك كانت إسرائيل تقتل المصريين وتهين كرامتهم الوطنية وهي مطمئنة إلى أن مبارك سيكبت أي رد فعل شعبي فتمادت في غيها معتمدة على كنزها الإستراتيجي.
هذا كان قبل ثورة 25 يناير، فإذا رأينا بعد الثورة نفس النهج الحكومي في التعامل مع العدوان الإسرائيلي، ونفس سياسة الانبطاح والخضوع للإرادة الإسرائيلية والأمريكية، ونفس التفريط في الكرامة الوطنية المصرية ونفس الازدراء للإرادة الشعبية، وفوق هذا بناء جدار عازل لحماية السفارة الإسرائيلية من سماع أصوات المصريين المحتجين على قتل أبنائهم وانتهاك كرامتهم، فإن هذا يحتاج لتساؤلات كثيرة.
هل فكر من بنى الجدار في معناه الرمزي في وعي المصريين؟... إن هذا الجدار يستدعي صورة الجدار العازل الذي بنته إسرائيل في فلسطين لتقطع أوصال الأراضي الفلسطينية وتحاصر الفلسطينيين في كانتونات معزولة وتحد من تواصلهم كشعب، ذلك الجدار الذي ساهم نظام مبارك فيه بإمداد إسرائيل بكميات هائلة من الأسمنت والحديد، كما ساهم بالصمت على بنائه رغم أنه جدار عنصري بغيض كان يستدعي الرفض والإدانة والمقاومة على كل المستويات الممكنة. كما أن الجدار العازل يستدعي صورة الجدار الفولاذي الذي كان النظام السابق قد بدأ في بنائه على الحدود بين مصر وغزة لتتم محاصرة غزة بأقصى قوة ممكنة وليتم هدم الأنفاق التي أنشئت لإنقاذ سكان غزة من الجوع بسبب الحصار الظالم الذي تواطأ فيه الإسرائيليون مع نظام حسني مبارك لإزهاق روح الشعب الفلسطيني في غزة.
وهذه الجدران تستدعي صورة الطوائف المعتدية من اليهود في القرآن الكريم "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ...." (الحشر:14)، وهذا ينشط ذاكرة الصراع التاريخي والتآمر من تلك الطوائف على مدى التاريخ الإسلامي الممتد.
إذن فمن أمر ببناء هذا الجدار العازل على كوبري الجامعة بين القاهرة والجيزة لم يفهم هذه المعاني ولم تصل إلى وعيه هذه الارتباطات المعاصرة والتاريخية، ولم يمتد بصره ليرى تمثال نهضة مصر على بعد خطوات من هذا الجدار العازل البغيض، ذلك التمثال الرائع الذي صممه الفنان العالمي الشهير محمود مختار وبني بتبرعات المصريين ليعبر عن معنى النهضة المصرية وهو مليء بكل معاني الوطنية والعزة، فإذا بهذا الجدار البغيض شكلا ومعنى يأتي ليمحو جمال وجلال تمثال نهضة مصر.
وقد حاول من بنوا هذا الجدار البغيض أن يخففوا من وقعه على أعين المصريين ووعيهم فتفق ذهنهم عن فكرة غاية في السطحية وهي أن يرسموا على الجدار علم مصر وكأنهم يحاولون أن يمحوا سوءة صنعتها أيديهم بهذه الحيلة الساذجة التي لم تنطل على المصريين.
وقد جاء الرد المناسب من الشعب المصري يوم 9 سبتمبر حين توجه الآلاف من المصريين نحو الجدار العازل وقاموا بهدمه بطرق مبتكرة على الرغم من وجود قوات أمن بأعداد كبيرة، تلك القوات التي رأت أن مواجهة هؤلاء الغاضبين من الجدار ستكون عواقبها وخيمة لذلك انسحبوا واكتفوا بتأمين مدخل العمارة التي تقع بها السفارة وخيرا فعلوا.
وهنا نعيد قراءة معاني الأحداث: لقد ثبت أنه مازال ثمة شرخ كبير بين القرار السياسي والعسكري فيما يخص التعامل مع الصلف الإسرائيلي وبين الإرادة الشعبية، فما زال القرار الرسمي يتبع المدرسة القديمة التي أسسها مبارك والتي تميل إلى غض الطرف عن العدوان الإسرائيلي والتفريط في الكرامة الوطنية، وقد ظهر هذا الأمر جليا حين وقفت تركيا موقفا حازما من إسرائيل وطردت السفير الإسرائيلي وعلقت التعاملات مع إسرائيل بكافة أشكالها ردا على عدوان إسرائيل على سفينة مرمرة التركية، وكان السؤال البديهي: لماذا لم تتخذ الحكومة المصرية موقفا مشابها أو قريبا؟... هل الدم المصري أرخص من الدم التركي؟.. وبدلا من محاسبة إسرائيل على عجرفتها وطغيانها نقوم ببناء جدار عازل من أجل توفير الأمن والحماية لسفارتها.
ولماذا لا تستجيب السلطات الرسمية للإرادة الشعبية بطرد السفير الإسرائيلي أو تعليق العلاقات حتى تعتذر إسرائيل وتقوم بمحاسبة المتورطين من قواتها وتعويض أهالي الضحايا؟... وإذا كانت الإرادة السياسية الرسمية لا ترقى إلى ذلك المستوى فلماذا لا يتم نقل السفارة إلى مكان بعيد عن الكثافة السكانية العالية بين القاهرة والجيزة بحيث تكون في منطقة معزولة تليق بوضعهم في الوعي المصري العام؟
بالتأكيد وصلت الرسالة لإسرائيل حين صعد أحمد الشحات ونكس العلم الإسرائيلي ورفع مكانه العلم المصري، وبالتأكيد وصلت الرسالة حين تجمع المصريون وهدموا الجدار الذي بنته الحكومة المصرية لحماية السفارة من غضب المصريين، بالتأكيد إسرائيل تفهم الآن أن من كانوا يحمون سفارتها ويحمون مصالحها ويتسترون على عدوانها ويخضعون لإرادتها لم يعودوا قادرين الآن على فعل تلك الأشياء، فقد استيقظ المصريون مع الثورة وأصبح هناك إرادة شعبية لا يقف في طريقها أحد، وعلى إسرائيل أن تعرف حجم وتأثير هذه القوة الشعبية من الآن، وأن كنزها الاستراتيجي قد ذهب.
إن من فكر وقام ببناء الجدار العازل ينقصه الكثير من الإدراك والفهم، وينقصه الاتساق مع الوعي الشعبي ومع الإرادة الشعبية، ولهذا جاء الرد الشعبي القوي بهدم الجدار لكي تصل الرسالة إلى أولي الأمر: أنتم لم تفهموا بعد هذا الشعب، وأنتم تتحركون في عكس اتجاه مطالبه وإرادته، وأنتم لم تدركوا أن ثورة قامت في مصر ووضعت الشعب في موضع القوة والسيطرة والسيادة، وأنتم تكررون نفس أخطاء النظام السابق في التعامل مع الغطرسة الإسرائيلية وفي التعامل مع إرادة الشعب، فإلى متى نظل ندور في نفس الدائرة التي تشعل الثورات لتغير العقول والأفهام قبل أن تغير الأشخاص والأنظمة.
واقرأ أيضاً:
وصايا "فوق دستورية".. كأننا نُستعبد من جديد/ 50 % & 50 %، ... فماذا يتبقى لنا؟/ تشكيل الوعي المصري الكوني الجديد (الحرية 1-)/ حديقة حيوان طره وما حولها