(387)
إلى صديقي الغائب منذ سنين
بداية أعتذر عن عدم الرد على إيميلك الذي وصلني قبل شهرين وكان ذلك لأمر خارج عن إرادتي، أما بعد؛
كتبت صديقي لائماً، كيف لي أن أؤويد هؤلاء "الخـ.." ومعذرة صديقي إذ أردد على مسامعك ما قلته لي عنهم. تقول أنك كرهتهم فلم تعد قادراً على الخروج للتنزه والتمشية. تقول أنهم أوقفوا حال الجميع، وأنهم لاقوا ما يستحقون من أهالي العباسية. وتحكي أنهم فكروا يوماً أن يعتصموا في السوق المتاخم لمنزلك القريب من ميدان التحرير، فأوسعهم التجار والأهالي ضرباً ففروا كما فروا فيما بعد من العباسية. تقول أنك قررت رغم أنفهم النزول للتمشية، وتمنيت أن يعترضك أحدهم لتفعل به ما كنت به دوما تحلم أن تفعل، ولكن لحسن حظهم أن لم يعترضك أحدهم، وجلست على المقهى في ميدان باب اللوق لتحتسي الشاي منهم غاضبا. وأنهيت رسالتك صديقي فتقول بأن هؤلاء "الشواذ" سيأتون بالإٍسلاميين ليستولوا على الحكم، ليذيقونا ما لم نذقه من قبل وأنهم سيندمون حينها أشد الندم على ما فعلوا، ودعوتني في ختام الرسالة أن أفيق من سبات نومي وأن أكف عن تمجيد هؤلاء "الـشواذ".
صديقي الغائب؛
مضت سنوات ولم نلتقي، ويبدو أن الكثير فينا قد تغير، ولكن حيث أني أعرف من هو أنت؛ فدعني أفترض بداية أنك لست ضد الثورة ولكنك تمنيت أن تنتهي المباراة دون أية أشواط إضافية أو حتى ضربات للترجيح، فلا طاقة ولا لياقة تحتمل أكثر مما حدث؛ لهذا لا يمكن لي بحال أن ألومك أو أستنكر قولك. ولكن صديقي دعني أحادثك كما كنا نفعل منذ سنين، إذا كان هؤلاء "الخـ.." قد أسقطوا النظام، وإذا كانوا قد خلعوا الديكتاتور وأنهوا مأساة التوريث وسجنوا اللصوص وطهروا البلد، فالمجد لهؤلاء في الأعالي، وإذا كان هؤلاء "الخـ.." قد فتحوا صدورهم للرصاص ولم يخشوا الموت، فجنة الخلد لشهدائهم.
صديقي؛
هل يمكن لنا أن نفترض أن المشكلة في النظارة التي نضعها على أعيننا؛ فإذا كان من يرفض الثورة قد رأى بنظارته في الثوار أنهم مجرد "شواذ"، فماذا بربك يمكن له أن يشعر عندما يشاهدهم؟ بالطبع سيرفضهم، وسيرفض كل أفعالهم وأقوالهم أياً كانت هي. ولكن صديقي ألا ترى معي أنه في الوقت الذي جلست فيه أنا وأنت نشاهد مباراة الثورة في التلفاز، ونكتفي بسباب من لا نشجعه، كان هؤلاء يفقدون أرواحهم، ولم يكن الأمر بالنسبة لهم مجرد لعباً أو تسلية. في الوقت يا صديقي الذي جلست فيه أنا وأنت نشاهد في التلفاز فيلم أكشن عن ثورة تنزف فيها الدماء؛ وتوحد أحدنا بالقاتل، وتوحد الآخر بالمقتول، كانت يا صديقي مشاهد هذا الفيلم تُسال فيه دماء وليس ماء بلون الدم. لهذا أقول معذرة صديقي؛ فنظارتي لا تراهم كما تراهم أنت مجرد "خـ.." ولكني أراهم ثواراً؛ ولهذا صديقي أخجل من نفسي كلما طالعتهم في الميدان وأنا جالس أحتسي الشاي أمام التلفاز.
ولكن ورغم اختلافي معك؛ فأنا أشكرك كثيراً على رسالتك لأنك كشفت لي ما كان عني غائبا، كشفت لي أنه مع اختلاف النظارة لابد وأن تختلف الرؤى، ويبدو أننا جمعياً بشكل ما مخطئون، وأنه علينا تغيير النظارة من حين لآخر. لهذا دعنا صديقي نلعب لعبة الكراسي فتجلس أنت على كرسي الثوار وأجلس أنا على كرسي كارهي الثورة.
أشاهد صديقي وأنا جالس على كرسي كارهي الثورة أن الثوار لم يروا إلا أنفسهم وما يريدون، أرى الثوار وقد أخطئوا حين تجاهلوا البسطاء وانشغلوا بالمبادئ السامية، ونسوا أن ما يشغل بال الكثيرين من الشعب هو أن يعود الرجل منهم في المساء لمنزله، فقط حاملاً خبزاً لأطفاله. الآن أشعر يا صديقي بما يشعرون من وقف للحال وقطع للأرزاق وخوف على غد ليس ببعيد.
والآن يا صديقي هل يمكن لك أن تجلس على كرسي الثوار؟ ترى ماذا تشعر الآن؟ هل تشعر بالضيق من المجلس العسكري الذي لا يستمع ولا يستجيب، وأنه الذي يدفعك دفعاً للخروج إلى الميدان؟ هل تشعر بالخوف؛ فقد يحدث لك ما لا يحمد عقابه وتجد نفسك في لحظة متهماً لتحاكم أمام المحاكم العسكرية بتهمة الوطنية، أو قد تصبح رقماً مضافاً إلى مصابي الثورة وشهدائها؟ ترى كم من لحظة خوف ورعب تعيشها الآن وأنت تنظر إلى مصيرك المحتمل؟ هل تتساءل لماذا عليك أنت وحدك أن تفعل كل ذلك وهناك من يسبك، ويعتقد بأنك تارة عميل وتارة أخرى مجرد "شاذ"؟ وأنت جالس الآن على كرسي الثوار، أرجوك صديقي أن تتحلى بأخلاق الأنبياء فتقول اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
الآن صديقي تعالى لنتصافح ولتلعن معي ذلك الذي يسعى جاهداً لشيطنة الثورة والثوار، تعالى لنتكاتف ضد من يسعى ليوقع بيننا؛ فلسنا شواذ أو بلطجية إنما نحن حالمون. نحلم بحد أدنى للأجور يضمن لنا أن نعود في المساء ببسمة على وجوهنا، وبلعبة لأطفالنا وبوجبة ساخنة. نحلم جميعاً بوطن آمن لا خوف فيه من بلطجي أو شرطي، نحلم جميعاً أن نتنفس الحرية وألاَ يحكمنا يوماً طاغية. إنما نحن يا صديقي حالمون لأطفالك وأطفالهم وأطفالنا، وكل ما نحلم به هو عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.