"الوثيقة مقابل الانتخابات"، هذه هي خلاصة الزوبعة التي أثارتها وثيقة علي السلمي واستدعت نزول أنصار الحرية والإرادة الشعبية في مليونية المطلب الواحد يوم الجمعة 18 تشرين الثاني 2011. كان المسكوت عنه في كل ما جرى هو: تقبلون الوثيقة نجري الانتخابات، ترفضونها قد نؤجّل الانتخابات أو نلغيها. نفس المنطق الذي عبّرت عنه مقولة "النفط مقابل الغذاء" التي طبّقتها قوى الاستعلاء والاستكبار العالمي على العراق في التسعينيات: تعطونا النفط، تأخذون احتياجاتكم من الغذاء الذي يبقى عليكم أحياء.
الكارهون للإرادة الشعبية أرادوا بوثيقة السلمي استباق الانتخابات بما يضمن لهم الوصاية والاستعلاء على الإرادة الشعبية، وخاصة بعد أن فاجأتهم نتيجة الانتخابات التونسية بفوز مؤزر لحركة الاتجاه الإسلامي بلغت نسبته 40 في المئة من مقاعد المجلس التأسيسي. هم أرادوا الاستفادة من الدرس التونسي ويقطعوا الطريق على الإرادة الشعبية بهذه الوثيقة الوصائية لتقليل حجم الانتصار المنتظر للتيارات الإسلامية في هذه الانتخابات قدر المستطاع.
الدليل على ذلك أنّهم اختاروا الإعلان عن الوثيقة في وقت حرج قبيل بدء الانتخابات البرلمانية حتى تكون التيارات الشعبية/الإسلامية بين نارين: إمّا الانشغال بالوثيقة والتظاهر لإلغائها مع ما قد يسببه ذلك من تأثيرات سلبية على الانتخابات وحتى التهديد بإلغائها أو تأجيلها، وإمّا الصمت عنها وابتلاعها كما هي ومن ثم يتحقق للهاربين من الإرادة الشعبية ما يريدون ولو بفرض وصاية الجيش على الحياة السياسية وتحويله إلى خصم سياسي على الطريقة التركية، فيما قبل حكومة العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان.
في جمعة مليونية المطلب الواحد انقسمت التيارات والأحزاب السياسية إلى فريقين: فريق كان ممثلوه في ميدان التحرير ومع الإرادة الشعبية لجموع المصريين في واقعهم الفعلي، وفريق كان ممثلوه خارج الميدان هاربين من هذه الإرادة الشعبية، لائذين بالعالم الافتراضي وميكروفونات وكاميرات الفضائيات.
داخل ميدان التحرير احتشدت مليونية نظّمها المحبّون للمؤسسات النيابية التي تعبّر عن إرادة الشعب، وحضرها ممثّلون عن المشتاقين لانتخابات حرة نزيهة، وعن المؤمنين بأنّ الشعب وحده هو مصدر السلطات، وأنّه لا صوت يعلو فوق صوت الشعب، وأنّ الشعب المصري له وحده دون غيره الولاية على نفسه، ولا يحتاج إلى أوصياء عليه. وهتفوا جميعاً بضرورة أن يبادر المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتحديد جدول زمني لتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة في تاريخ أقصاه أول أيار 2012. وهذا مطلب ديمقراطي لا يختلف عليه اثنان.
وخارج ميدان التحرير، قبع "الهاربون من الإرادة الشعبية" في مكاتب أحزابهم، أو في منازلهم، يتحدّثون إلى الفضائيات، ويطلقون لخيالاتهم العنان في اتهام منظمي مليونية "جمعة المطلب الواحد" وتسفيه رأيهم وإدانة موقفهم، ويرون أنّ من الضروري وضع وثيقة مبادئ فوق دستورية! ويسعون إلى إرجاع مصر ثلاثين سنة على الأقل إلى الخلف باستنساخ تجربة الدستور التركي الذي منح العسكر حق الوصاية على الإرادة الشعبية بعد انقلابهم على الديمقراطية سنة 1980، وكادت تركيا تصل بسبب وصايتهم على الإرادة الشعبية إلى الإفلاس قبل أن ينقذها حزب العدالة والتنمية ذو الخلفية الإسلامية بفوزه في انتخابات حرة ونزيهة جرت في تشرين الثاني سنة 2002.
لو أنّك استمعت لأمين عام حزب التجمع المصري الأستاذ سيد عبد العال وهو يعلّق لقناة الجزيرة مباشر على مليونية المطلب الواحد يوم الجمعة 18 تشرين الثاني لضحكت كثيراً ولرثيت لحاله وهو يقول إنّ المتظاهرين في ميدان التحرير يرفعون "صور بن لادن" ويطالبون بدولة دينية! سألته المذيعة النابهة سوزان الجزامي: من أين أتيت بهذه الأخبار عن صور بن لادن وهل رأيتها في ميدان التحرير؟ فأجاب: من التقارير التي تصلني. سألته مرة أخرى: هل رأيتها أنت؟ فأجاب: "لم أشاهد شيئا، وأنت لم تشاهدي شيئاً، ولكني أقول..." واستمر في التقعير والتصوير من خيالاته لا من ميدان التحرير!
وقبل ذلك بيوم واحد كان زعيمه رفعت السعيد في برنامج فضائي آخر مع قناة العربية يتهجّم على المستشار طارق البشري ويتقوّل عليه بنفس الطريقة التي جعلته يتخيّل أنّ المتظاهرين في ميدان التحرير يرفعون صور ابن لادن!، بينما كانوا في الحقيقة يرفعون أعلام مصر، ويهتفون بشعارات لحماية الديمقراطية والدولة المدنية ويرفضون وثيقة السلمي التي تفرض وصاية العسكر على الحياة السياسية. لو أنّك سمعت هذين الاثنين: سيد عبد العال ورفعت السعيد ومن تشبّه بهما، فلابد أنّك سوف تتذكّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أفرى الفرى أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا" (أفرى الفرى: يعني أكذب الكذب). ولابد أيضاً أنّك لن تبحث عن الأسباب التي تجعل إنساناً يُريَ عينيه ما لم تريا، فالإجابة معروفة حتى في الأحياء الشعبية.
هؤلاء الهاربون من الإرادة الشعبية، من أمثال رفعت السعيد، وتهاني الجبالي عضو المحكمة الدستورية، وجمال فهمي وكيل نقابة الصحفيين (سيادته كان على الفضائية المصرية ووصف المليونية بأنّها "مليونية الأتوبيسات"، فهل كان يتوقّع أن يصل المشاركون في سيارات مرسيدس من القرى والمدن والمراكز خارج القاهرة، أم سيراً على الأقدام أو على ظهور الخيل والحمير والبغال والجمال حتى يكونوا سلفيين بحق كما يتصوّرهم! أم إنّه الغل والشعور بالعزلة والفشل في مخاطبة السواد الأعظم من المصريين؟)، هؤلاء وأمثالهم يخافون من إجراء أيّ انتخابات حرة ونزيهة، ويقولون في جلساتهم الخاصة أنّهم "يقبلون العمى ولا يقبلون أن يصل الإسلاميون إلى السلطة في مصر"، ويقولون أيضاً أنّهم يقبلون حكم العسكر ولا يقبلون أن يروا واحداً من الإسلاميين مشاركاً في حكم مصر! هؤلاء من العلمانيين واليساريين، وليسوا كلهم طبعاً، لا يختلفون عن علمانيي تونس في كراهيتهم للإرادة الشعبية والاستعلاء عليها.
في تونس قامت سهير بلحسن ونادية الفاني، وهما مواطنتان تونسيتان في حديث متلفز على القناة الفرنسة الثانية، بمناشدة فرنسا أن تعيد احتلال تونس لحماية علمانية الدولة ولمنع الإسلاميين من حكمها بعد فوزهم بنسبة 40 في المئة من مقاعد المجلس التأسيسي في انتخابات حرة ونزيهة! طبعاً ستقول أنّ علمانيي مصر أرحم بكثير لأنّهم فقط طالبوا بحكم العسكر وفرض وصايتهم على الشعب.
هستيريا الخوف من الإرادة الشعبية لدى هؤلاء الذين يهربون منها تزداد كلما اقترب موعد بدء الانتخابات البرلمانية (الجولة الأولى ستبدأ يوم 28 تشرين الثاني الجاري)، لأنّهم يعرفون جيداً أنّ هذه الانتخابات ستكون فاضحة لهم؛ لسبب بسيط هو أنّها ستكون إن شاء الله نزيهة وحرة، فهم إن دخلوها فسيسقطون سقوطاً مدوياً، وإن هم قاطعوها ولم يدخلوها فسوف يتجرّعون الشعور بالمهانة والمذلة لكونهم كانوا يقبلون المشاركة في انتخابات مزورة في العهد البائد واليوم يرفضون المشاركة في انتخابات نزيهة وحرة طال انتظار الشعب المصري لها.
الهاربون من الإرادة الشعبية لا يكرهون فقط الانتخابات النيابية لأنّها ستكون نزيهة وحرة، وإنّما لأنّهم أصلاً يكرهون المؤسسات النيابية التي تعبّر عن الإرادة الحرة للشعب، ويرون أنفسهم فوقها، وإن كان ولابد منها فليأتي أعضاؤها بالتزوير حتى لا يكون لهم رأي ولا لوجودهم معنى بجوارهم تماماً، كما كان يفعل نظام الرئيس المخلوع. بل لا نبتعد كثيراً عن الصواب إذا قلنا أنّ الهاربين من الإرادة الشعبية هم في الحقيقة يكرهون الشعب الذي ينتمون إليه. وهنا أساس المشكلة وأصل الداء.
كراهية الهاربين من الإرادة الشعبية سببها الرئيسي هو أنّهم لا يعبّرون عن هوية هذا الشعب، ولا يدافعون عن قيمه وأخلاقياته وعقيدته، بل يتبّنون أفكاراً مستوردة وإيديولوجيات غريبة عن ثقافة المجتمع. هذا هو ما يفسّر إصرارهم على تقييد إرادة الشعب ومصادرتها تحت ستار "مبادئ فوق دستورية"، أو "مبادئ حاكمة أو استرشادية للدستور".
الصورة من ميدان التحرير بالقاهرة في مليونية "المطلب الواحد وتسليم السلطة"، كانت أبلغ من أيّ حديث، وأصدق من أيّ تحليل. في ميدان التحرير وفي غيره من ميادين المحافظات الأخرى هتف المتظاهرون من كل أطياف الشعب المصري بسقوط وثيقة علي السلمي، وسقوط علي السلمي نفسه، ورددوا "الشعب يريد دولة مدنية لا عسكرية"، "الشعب يريد تسليم السلطة في مايو"، ورددوا غير ذلك من الهتافات التي تؤكّد احترام إرادة الشعب لأنّه مصدر جميع السلطات، وله وحده الولاية على نفسه.
على الجانب الآخر، كان الهاربون من الإرادة الشعبية والكارهون لها يعلنون صراحة ودون مواربة أنّهم يؤيدون وثيقة على السلمي، وبعضهم، مثل حزب المصريين الأحرار الذي يموّله الملياردير نجيب ساويرس، طالبوا المجلس العسكري بإصدار تلك الوثيقة في إعلان دستوري ملزم!
أقول لهؤلاء الهاربين من الإرادة الشعبية: طريق الاستبداد والوصاية والاستعلاء بات مسدوداً بقوة، ولا مفر إلاّ من طريق الحرية واحترام الإرادة الشعبية.
واقرأ أيضاً:
الذين شوهوا المشهد في مصر/ مستويات وتشكيلات قراءة الأحداث/ إسرائيل... إذ تضغط لتأجيل الانتخابات المصرية/ ظاهرة أبناء مبارك/ ألتراس مصر من الملعب إلى الميدان