أخيرًا تكرم علينا المجلس العسكري وأصدر مرسومه بقانون "الغدر" أو إفساد الحياة السياسية، وهو القانون الذي بُحت أصوات المصريين، منذ نجاح ثورة يناير في إسقاط مبارك، تطالب بإصداره، بهدف تطهير الحياة السياسية ممن أفسدوها على مدار ثلاثة عقود، من أعضاء الحزب "الوطني" ونوابه وبطانة مبارك وغيرهم، ممن كانوا جزءًا من النظام الذي خرجت ملايين المصريين تهتف برحيله بعدما أفسد الحياة بكل ألوانها، وليست السياسية وحدها.
القانون الذي صدر قبل الانتخابات بأيام يُجمع القانونيون والسياسيون والمثقفون وجميع أصحاب الرأي على أنه جاء متأخرًا جدًا، بينما كان الثوار ينادون به منذ رحيل مبارك مباشرة، حينما شرع نواب "الوطني" المنحل في إفساد كل شيء من حولهم، وأخرجوا البلطجية من السجون للقتل والسرقة وترويع الآمنين. فكان يفترض إصداره في شهر مارس أو أبريل على أبعد تقدير في الوقت الذي كان فيه أعضاء "الوطني" يختبئون عن أعين المصريين.
القانون الذي صدر في ظل اضطرابات يشهدها الشارع، بسبب الحكومة والمجلس العسكري، لن تستفيد منه الحياة السياسية، ولن يؤثر بأي حال على انتخابات مجلسي الشعب والشورى، ولن يحد من قدرة الفلول على خوضها. إذ تستغرق أقل استفادة منه سنوات، لأن بنوده تسرى على من تصدر ضدهم "أحكام قضائية"، بينما يرى القانونيون أن إجراءات التقاضي للوصول إلى هذه الأحكام تستغرق أعوام، بعد أن تحقق النيابة العامة، ثم تستمع لأقوال الشهود، وتقسمهم إلى شهود إثبات وشهود نفى، ثم تحيلهم إلى المحكمة، وتطلع المحكمة على الدلائل، وتصدر حكمها، ويُنتقض الحكم خاصة أن القانون لا يحظر الطعن على حكم المحكمة بالعزل، وتصدر المحكمة حكمًا نهائيًا.
وأكثر من ذلك أن قيادات "الوطني" المنحل يمكنهم في ظل الصياغة المعيبة ومن خلال الاستعانة بمحامين بارعين الحصول على البراءة، والخروج كالشعرة من العجين، "فنحن لدينا محامون لديهم القدرة على مطوحة القضايا"، على حد قول أحد المعلقين. ولو حصل وصدرت الأحكام ضد الفلول فسوف يترتب عليها إسقاط عضويتهم من البرلمان بعد مرور سنة أو سنتين على الأقل، لندخل في نفق الانتخابات التكميلية، أو ربما بعد انتهاء الدورة البرلمانية بأكملها، بعد أن يكونوا قد شاركوا في وضع دستور البلاد، وتم لهم كل ما أرادوا.
ويعكس القانون ـ الذي جاء بعد أيام من حكم المحكمة الإدارية العليا برفض الطعن باستبعاد أعضاء "الوطني" من الترشح للانتخابات ـ يعكس نوايا لا يمكن أن تكون بريئة للمجلس العسكري، مع هذا التعمد في التأخير، وعدم الاستجابة لمطالب الشارع، كمن يتلكأ لحاجة في نفسه، فيأخذ الفلول وقتهم للترشح والدعاية بما يملكون من أموال وإمكانات تؤهلهم لدخول البرلمان، ثم يصدر قانونا معيبا مهلهلا لا يُسمن ولا يُغنى من جوع، دون عزاء للثورة ودماء المصريين التي سالت أملًا في عهد جديد، وعهد نظيف.
القانون الذي انعكس كآبة على وجوه المصريين أشاد به الفلول، بل لم يفرح به من المصريين سوى الفلول، كأنها بشارة نزلت عليهم في هذا الشتاء المضطرب. فالقانون الذي يُفترض أنه يصدر ليمنع هؤلاء من ممارسة العمل السياسي مدة تعطى الفرصة للمصريين في إيجاد حياة سياسية نظيفة بعيدًا عن أباطرة "الوطني" جاء لحماية هؤلاء ـ على ما يبدو ـ بل لا أكون مبالغًا لو قلت إن فلول الوطني لو اجتمعوا لوضع قانون للدفاع عنهم، وحمايتهم من الثورة، فلن يجدوا أفضل من هذا القانون. ففي تصريحات صحفية رأى صلاح حسب الله، رئيس حزب المواطن المصري، الحزب الذي يضم أغلب أعضاء الوطني، أن "المرسوم يعبر عن سيادة دولة القانون"، هكذا!! ورحب به قائلا: إن القانون بصيغته الحالية يضمن محاكمة عادلة تتضمن الدفاع عن النفس والاستماع لشهادة المتهم.
وربما هذا ـ بعينه ـ ما كان يقصده الدكتور سيف الدين عبد الفتاح ـ أستاذ النظرية السياسية بجامعة القاهرة ـ في وصفه القانون بأنه "قانون التفافي"، يلتف على الحقائق فيبرئ الجاني، مضيفًا في تصريح خاص لـ(المصريون) أنه صدر في وقت غير مناسب، ورأى أنه يفتح الباب للطعون على المجلس القادم ببطلانه، الأمر الذي يؤدى إلى تأخير صياغة الدستور وإطالة فترة "العسكري" في السلطة.
وإذا كنا نعيب على "العسكري" أن يُصدر مرسومه بمثل هذا القانون وفى هذا التوقيت، نرى أن أمر المصريين كان بحاجة ماسة لمرسوم ثوري متناغم مع ثورتهم الشعبية التي شاركت فيها الجموع، يقضى بمنع كل من كان جزءًا من نظام مبارك وكافة قيادات "الوطني" من المشاركة في الحياة السياسية لخمس سنوات على الأقل، خاصة أن القضاء الإداري كان قد أصدر حكمًا بحل الحزب الذي كان حاكمًا بسبب إجماع المصريين على إفساده وتضرر البلاد من بقائه.
وحيث لم يقدم جديدًا مرسوم "العسكري" يبقى الأمل في أن يعزل المصريون فلول "الوطني" بأنفسهم من خلال صناديق الانتخابات.
واقرأ أيضاً:
ماذا فعل عصام شرف بالثورة المصرية/ ماذا لو تمكّن مسيلمة الكذّاب؟/ رؤية طبيب نفسي لخطاب السيد المشير/ لماذا عادت الثورة من جديد؟