تمحورت ندوة بينالي الإسكندرية في بداية هذا العام وبالذات في عيد ميلاده الخمسين بالبحث عن الوحدة الذوقية المتوسطية. وكان من المؤسف أن منعني المرض من المشاركة في أعمالها والسفر، لم يكن حماسي لهذا المحور جديداً، فقد شهدت نشاطاتي البحثية في أوروبا العديد من المشاركات والتعاون مع وزير المتوسطية المفوض في فرنسا، توزع هذا النشاط بصيغة جامعية بحثية ما بين معهد فنون الدار البيضاء ومعهد فنون اكس ان بروفانس، وكورسيكه (أجاكسيو)، ثم أصيلا وسواها، كانت الفكرة كل مرة تلقى حذراً وشكوكاً في الأوساط الفنية المحلية وذلك لسبب بسيط (وغير بريء) هو خلط المشروع المتوسطي الاقتصادي أو العسكري الذي تصبح فيه إسرائيل شريكة، والمشروع الثقافي المتوسطي الذي يهمش (أو حتى يُبعد) تاريخياً هذه الشراكة.
إن التأمل البحثي الهادئ للوحدة الذوقية بين شمال المتوسط وجنوبه تضعنا في خارطة إبداعية مستقبلية ذات ذاكرة متماوجة تتجاوز الصراعات الاقتصادية والاستعمارية والعنصرية الثقافية، وتُخرج الثقافة من قوقعتها المحلية ليس من أجل إلغائها أو تماهيها وإنما من أجل تعايشها مع الثقافة الرديفة، على الأقلّ القريبة في الحوض الحميم نفسه الذي شهد أشد التبادلات تراشحاً وحتى ضمن تاريخ الصراع العسكري. دعونا نتأمل هذا الموضوع فنياً بهدوء ولو لمرة فهو يستحقّ ذلك.
الذوقية المتوسطية
ترسم تراكمات خصائص الصناعات والفنون (سواء النخبوية منها أم الشعبية) في محترفات حواضر حوض البحر الأبيض المتوسط ومرافئه خارطة جمالية تنتسب منذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد إلى نفس شجرة العائلة الذوقية. وبما يتجاوز الخرائط السياسية <والأيديولوجية> التي تفرق شعوب الشمال عن الجنوب. يكفي أن نتذكر (كغيض من فيض) أن <أبجدية رأس شمرا> الفينيقية تعتبر أساس الكتابة اليونانية اللاتينية والنبطية العربية. وأن ديانات حوض المتوسط التوحيدية الثلاثة ذات جذر سامي واحد. وقد تصل هذه النزعة <التنزيهية> في الفكر والفن حتى عصر أخناتون.
إن أشدّ مراحل التنافس العسكري والتجاري والتبشيري بين ضفتي الشمال والجنوب كانت أشدّها تبادلاً وتواشجاً وتداخلاً حضارياً، فإذا أسس اسكندر المقدوني الإسكندرية (عام 330 ق م) لتكون منارة برزخية، فقد نثر الفينيقي هنبعل في طريقه باتجاه روما مرافئ بمستوى قرطاجة وسبطه وبرشلونة، ناهيك عن الصراع المتوسطي بين الفراعنة وحواضر فينيقية المرفإية ما بين بيبلوس وصيدون وعكا وصور. لنتذكر الجغرافيين العرب المسلمين الذين بقوا ناشطين في بلاط صقلية بعد استعادتها من قبل الفونس العاشر (مثل الإدريسي)، مما هيأ بعد ذلك لأبن ماجد المشاركة في اكتشاف العالم الجديد مع كريستوف كولومبس.
لنتذكّر ما حمله الصليبيون والأسبان من مفردات الحضارة العربية الإسلامية. هي التي تعكس انتقال صيغ الحياة اليومية من ملبس ومأكل وفنون بما فيها لعبة الشطرنج التي جاءت من الهند، والورق الذي جاء من سمرقند، وكأن طرق التجارة الكبرى (البخور والحرير وسواهما) تصبّ جميعها في هذا الحوض الحضاري المركزي: <المتوسط>. تكشف واحدة من رسوم المنمنمات المعروفة في القرن الثاني عشر مشهداً لمباراة لعبة الشطرنج تجري بين أحد جنود صلاح الدين وأحد الجنود الصليبيين.
يبدو أن هذه الحروب على وطأتها تنتهي دوماً بالتواشج والتصالح الحضاري، كما رأى ابن خلدون في مقدمته. يكفي أن نراجع هجرة المسقط <المثمن> في العمارة لنعثر على التواصل بين الحواضر اليونانية الرومانية البيزنطية الإسلامية، ما بين راقين وأنطاكية والقدس. مثلها مثل هجرة الآلات الوترية من الجنوب إلى الشمال ثم بالعكس.
ألا تكشف <بورتريهات الفيوم> ذلك اللقاح العميق بين التراث الفني الفرعوني والقبطي والروماني؟ مثلها مثل المدافن التدمرية وجملونات البتراء النبطية وبالمقابل هجرة المهندسين السوريين إلى روما مثل أبولودور الدمشقي. لنتأمل التحوّل من الآغورا (اليونانية) إلى الميدان (العربي الإسلامي) إلى المقهى (التي تزرع أرصفة المتوسط).
واليوم تثبت الدراسات الميدانية أن هذا التراث المائج يوشح وحدة الحساسية الحرفية المحلية، مثلها مثل التقارب أو التجانس في اختيارات ألوان المراكب، أو انتشار عادة رتق الثياب الشعبية بعد اهترائها وإعادة تصميم رقعها القديمة في حلة جديدة، تعكس ذاكرة الأزياء هذه الذاكرة الصناعية الجمعية لشعوب المتوسط والتي تغفل عنها الدراسات أحياناً. ومنها أيضا انتشار عرائس <خيال الظل>. آخر عروضها كان في جزيرة أرواد عام 1965م.
الإسكندرية: برزخ المتوسط
حققت الإسكندرية منذ تأسيسها في القرن الرابع قبل الميلاد ما أراده لها مؤسسها: منارة لقاء برزخي تصب في حوضها الفكري أمواج الشمال والجنوب، حتى أنها لتبدو اليوم نموذجاً لانصهار <التنوّع في الوحدة> بما كانت تمثله <مدرسة الإسكندرية> الوضاءة في الفلسفة، هي التي تشرد روادها بعد إعلان روما للمسيحية في مصر، ولكن توقدها الذهني كان أشبه بالجمر الذي يسكن تحت الرماد، مثالها أفلوطين الذي لجأ إلى سوريا فحمل معه بصمات <الأفلاطونية المحدثة> إلى اللاهوت الأنطاكي ودخل موروثه في الفكر التنزيهي الإسلامي في القرن التاسع للميلاد. لكن العلاقة التوليفية بين الحضارات الفرعونية والإغريقية ابتدأت منذ عصر البطالمة (القرن الثالث قبل الميلاد) وحتى نهاية الروماني وبداية البيزنطي (القرن الرابع) يكفي أن نستعرض التعددية الكنسية اليوم: من قبطية إلى روم كاثوليك وبروتستانت مرورا بالأرثوذكسية واليونانية حتى نتصور التعددية المعمارية إلى جانب المساجد الإسلامية.
أصبحت المدينة بموقعها وبمناخها الثقافي التواصلي (المعتمد على المبادلات الحوارية) بؤرة <كوزموبوليتية> <مونوبولية>. تحوّلت منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى محطة عبور وتجذّر للوافدين من التجار والبعثات الدبلوماسية والمستشرقين، مثل اليونان والأرمن، الطليان والفرنسيين والانكليز، إضافة إلى <الشوام> واللبنانيين. فسيطروا مع الأيام على الفعالية الاقتصادية والمساحة الثقافية والفنية. طاب لهؤلاء المقام والاستلهام، فأصبحت المدينة مسكونة بالمدارس والدور الجامعية التنويرية والمراسم الحرة، هي التي فرّخت بروح نهضوية متزامنة (إن لم يكن أسبق) من الحركة النهضوية في القاهرة هي التي ابتدأت من إصلاحات محمد علي للخروج من سبات أهل الكهف العثماني (قبل حملة بونابرت).
إذا كانت النهضوية المصرية اشتعلت من قبل مصلحين (مثل محمد عبده والأفغاني والكواكبي)، ومبدعين (مثل توفيق الحكيم وراغب عيّاد) فإن صبوتها الأساسية تمثلت في الخروج من قمقم الأنا الثقافية باتجاه الآخر الأوروبي (في شمال المتوسط)، ندرك هنا كيف سبقت الروح المتوسطية في الإسكندرية الحركة القاهرية. فإذا كان سبق العاصمة في افتتاح أول معهد للفنون عام,1908 فإن غياب نظيره في الإسكندرية (حتى 1957) هيأ فرصاً للفنانين المحليين منهم بالانخراط في المراسم الحرة قبل السفر إلى روما أو باريس أو مدريد من خلال توافر البعثات. كان هذا هو حال أغلب فناني كوكبة المعاصرة التشكيلية في الإسكندرية، نجد أن محمد ناجي ومحمود سعيد درساً في <مرسم زاينيري> قبل سفرهما، كذلك فإن سيف وأدهم تابعا تحصيلهما الفني في البداية في <مرسم الطلياني بيكي>، ودرس النحّات محمود موسى في <مرسم جياكومو سكالت>. ثم شارك محمود سعيد الرسام اليوناني أنجلو بولو مرسمه.
عرفنا من مستشرقي الإسكندرية في بداية القرن العشرين الرسام اليوناني قسطنطين زوغرافوس الذي اختص بالألوان المائية. يعلم تقنيتها في مرسمه الحر، ويصور بها شواطئ المدينة وبناتها بالملاية اللف وحمّارة سيدي جابر، هي الموضوعات البيئية التي اختصت بها المدينة المرفأ، وكانت مادة استلهام للبقية بما فيهم زاينيري. لنتصور أن دار الأوبرا الخديوية عانقت عام ,1891 معرضاً لهؤلاء. وان فكرة تأسيس <متحف المدينة> مكان في البدء لحفظ أعمالهم (أنشئ عام 1954).
بدأت الخصائص الفنية لعقد الإسكندرية من شمولية <الشرود عن رحم المكان الأول ثم النكوص إليه>، وذلك بسبب شدة الترحال والأسفار عن الأماكن والأزمان. هو ما يُثبت أن هذه التعددية المتوسطية في (مثل نظيرتها بيروت) ليست تهجينية، لأن المدينة ليست فندقاً سياحياً يجمع هؤلاء. هي بالأحرى وعاء لعائلة ثقافية، نمت حساسيتها التراكمية بالتلاقح والانفتاح. لعل أبلغ الأمثلة على ذلك سيرة الفنان الاسكندراني مارينتي الذي سافر إلى باريس ثم ميلانو ليؤسس أهم مدرسة حداثية ايطالية عام 1910 وهي <المستقبلية>، بما تطفح به من صبوة اختراق للزمن المتسارع نحو الغد. يقابله نشاط الفنانة الاسكندرانية الفرنسية مرجريت نخلة (مولودة في الإسكندرية عام 1908 وتوفيت فيها عام 1979) وزوجها الذي ورثت اسم عائلته كان لبنانياً. كانت تتقاسم الإقامة بين الإسكندرية وباريس، لذلك لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام نقدي.
قد تكون حساسيتها فرنسية عندما تصوّر جماهير حديقة اللوكسمبورغ والمقاهي الباريسية والبورصة، ولكنها كانت أبعد ما تكون عن الاستشراق عندما تصور جمع البلح بالمنتزه، والذهب الأبيض، والذكريات النوبية، أو عندما تتسلل فرشاتها الموهوبة إلى حمامات النسوة الاسكندرانية أو المواقع الجغرافية مثل بحيرة أدكو أو شواطئ جليم وسيدي عبد الرحمن. سيزداد ارتباطها بالذاكرة التشكيلية القبطية مع المشاهد المسيحية الرمزية، مثل لوحة <سفينة نوح> (كلفتها كنيسة العذراء عام 1967 برسم اثنتي عشرة لوحة عن سيرة السيد المسيح) أنجزتها معتمدة النسق الحلزوني السردي في التكوين.
ترسخت خصائص الترحال الشمولي التي طبعت حساسية كوكبة الإسكندرية إذن منذ تشييد المؤسسات التشكيلية ابتداء من مراسم الجاليات الأجنبية (ومثالها مرسم بيكي عام 1929) أو دور التربية الخاصة مثل المعهد البريطاني، وجمعية الصداقة المصرية الفرنسية، ثم جماعة مصر أوروبا (عام 1949)، سبقتها جمعية هواة الفنون الجميلة (أسسها حسين كامل عام 1929 وشارك بإدارتها كل من ناجي وسعيد)، ثم أسس محمد ناجي <أتيلييه الإسكندرية> عام 1934 مع سباستي وريتشار وثورن. اختتم تأسيس <بينالي الإسكندرية> عام 1955 الخاص بدول حوض الأبيض المتوسط هذه المنارات النهضوية.
علينا بالاعتراف أن الخمسينيات شهدت غروباً في نشاط المستوطنين المتوسطيين، وسفر أغلبهم تحت وطأة ارتفاع الشعور الثقافي الوطني، وخسرت المدينة جزءاً حساساً من ذاكرتها المعمارية تحت ذريعة التحديث التنظيمي العشوائي. واختفى بالتالي جزء من بصماتهم على نسيج الإسكندرية الحضري.
3 كوكبة <مدرسة الإسكندرية>
هل بإمكاننا الحديث عن مدرسة فنية اسكندرانية ذات خصائص تعكس التمايز المتوسطي النهضوي والتعدّدي للمدينة؟ وذلك ضمن عقد عائلي ذوقي حداثي، يبتدئ من الرائد محمد ناجي وينتهي بفاروق وهبي والداوستاشي ونجا؟ مروراً بالمركز محمود سعيد والأخوة وانلي، ثم بسلسلة حامد ندا وسعيد العدوي ورباب النمر وزوجها عبد المعطي، ومروراً بعفت ناجي وزوجها سعد الخادم وبفاروق حسني وثروت البحر وربما حسين بيكار؟ دون أن ننسى مرجريت نخلة والسجيني وموسى وهجرس؟
ينكر بعض النقاد المحليين هذه الخصائص من باب السهولة المنهجية، لان إثبات هذه الخصائص أصعب من إثبات عكسها، بسبب التنوّع الكبير والتباعد في الأساليب، ولكننا إذا اعتبرنا تجربة محمود سعيد مركزاً فرضياً لهذه الخصائص، نستطيع أن نضع تجارب أخرى في هوامش أشدّ اتساعاً وتباعداً معتمدين على خصائص التجربة الفنية أكثر من الانتساب الورقي (قيود سجل النفوس كالميلاد والوفاة). فحامد ندا اشد التصاقاً بهذه الخصائص من بيكار مثلاً رغم أن الأول مولود في القاهرة والثاني في الإسكندرية.
يثبت هذه القرابة المتوسطية الرائد محمد ناجي (المولود في الإسكندرية عام 1888 والمتوفي فيها عام 1956) باعتباره المؤسس الروحي لخصائص هذه المدرسة نهضوياً. سبق الرائد ناجي مرجريت نخله في شدة الترحال والسفر المزمن من والى الإسكندرية عبر المتوسط، مقتفياً شموس المصوّر الفرنسي الرحال بول جوجان، مشارفاً الحبشة (بدعوة من النجاشي هيلا سيلاسي) ثم يعبر من جزر اليونان (عام 1934) إلى جزيرة قبرص. وما أن يشارك في معرض باريس الدولي عام 1937 حتى يسجل تجواله في الريف المصري من خلال لوحته: <الحياة على شاطئ النيل>: (من مقابر طيبة إلى صياديها ومراكبها وترعتها)، فكانت فرصة له لاكتشاف أقطاب الانطباعية (خاصة مونيه) وما بعد الانطباعية خاصة بول سينياك، يماثله الاثنان في انهما اتخذا من المراكب المائية محترفاً لهما. وصل الثاني في مركبه حتى فسيفساء استانبول عبر المتوسط، أدرك بذلك أن <نظريته التجزيئية> مسبوقة في تقاليد حوض المتوسط، تتبدى هذه الذاكرة الانطباعية لدى ناجي في لوحته <موكب ايزيس> (المحفوظة في قاعة الشورى في القاهرة).
تمثل لوحته الشهيرة: <مدرسة الإسكندرية> الإحالة المركزية في موضوعنا، جعلها نظيرة للوحة رفائيل <مدرسة أثينا> (بطول سبعة أمتار وارتفاع ثلاثة، تزيّن اليوم قاعة الاجتماعات في محافظة الإسكندرية)، أنجزها ما بين الإسكندرية وروما ما بين عام 1940 و1952م، تعكس اللوحة الحساسية التصالحية او اللقاحية التي تجمع الأضداد في نفس التكوين التوليفي الائتلافي. صوّر فيها من اليسار: ابن رشد ثم الأفغاني فمحمد عبده ومصطفى عبد الرازق، ثم القديسة كاترين فأحمد شوقي وهدى شعراوي ثم المثّال مختار، ووضع خلفهم لطفي السيد الذي ترجم أعمال أرسطو ثم طه حسين الذي أنشأ <جامعة الإسكندرية>، ثم إلى اليمين ارخميدس ثم انجاراتي وكافافيس الشاعرين اليونانيين اللذين عاشا في الإسكندرية ثم ديونيزوس، يختمها بصورته مع زوجته وخلف الجميع البحر الأبيض المتوسط ما بين منارة الإسكندرية وقلعة قايتباي ومسجد سيدي المرسي أبي العباس.
يؤسس ناجي في أسلوبه لعقيدة رفع الحدود بين الرسم السريع الطازج والتكوين الملحمي المتأتي يشاركه بها الأخوان وانلي. إضافة إلى استخدامه، لأول مرة، للمنظور العمودي بحيث تقع العين في القبة السماوية، اما معاصره راغب عياد في القاهرة فيستعيد المنظور السردي الفرعوني المتحرك أفقياً.
يرتبط تصوير سيف وانلي وأخوه أدهم بالخصائص الضوئية (الطقسية) لمتوسطية المدينة أي بالمناخ الشاطئي ذي القزحية الشمسية يترجمانها بالعجائن الصباغية السخية والفرشاة ذات السلوك المتماجن، يترصع في مقاماتهم اللونية لازورد وتركواز البحر، يشف على ذاكرة الألوان الموسيقية المشرقة والشرقية للسيراميك والزجاج المعشّق.
كان سيف مولعاً بموضوعات الرقص الشرقي والسيرك والفرق الجوالة والاستعراضات المسافرة وراقصي الباليه والسيرك ومغنيات الأوبرا، عابراً من المشاهد البيئية: البحر والمراكب والشماس والسابحين. يغلف مختبر الاثنين وشاح مما يجري في مطبخ <مدرسة باريس> وفروعها.
إذا صوّر سيف سيد درويش يعزف على العود، فقد نحت جمال السجيني تمثالاً لسيف وانلي بعد وفاته عام 1979 وضع في <كلية فنون الإسكندرية>.
إذا كنا بصدد انعكاس الخصائص الضوئية في أعمال كوكبة الإسكندرية، فلا يمكننا تجاوز انطباعية كل من الرواد كامل مصطفى ومحمود موسى (وبصيغة أكثر ذاتية) عبد المنعم مطاوع، ولكن الأخير ليس اسكندرانياً، ولكنه عاش فترة دراسته فيها فاستغرقته بيئة المراكب الأسطورية والأسماك وشواطئ الفرسان والأحصنة.
ندرك هنا شدّة تأثير المعلم حامد ندا الذي قدم من القاهرة مدّرساً في <كلية فنون الإسكندرية> (منذ تأسيسها عام 1957 بإدارة احمد عثمان). وكان له دور أساسي سواء في الكلية أم في نشاطات <بينالي الإسكندرية>. نقل إلى الإسكندرية نهضوية ماضيه في القاهرة مع عبد الهادي الجزار (جماعة الفن المصري المعاصر عام 1946)، والارتباط بالمخيلة الشعبية وتراث راغب عياد، ولكنه ما إن اندمج في عوالم الإسكندرية حتى أخذ يرتشف مفرداتها اليومية (مثل سيف وانلي): المغنين والراقصين والعازفين والمراكب والاسماك والزواحف وكلاب البحر والضفادع والثعابين والعقارب ثم، وخاصة سخونة الرمل على غرار لوحتي <شاطئ العجمي> و<البلاج>. وهكذا توالدت من جديد توليفات كائناته الخرافية: طائر البراق والعنقاء والرخ والفينيق وترسّخت هيئة القط الأسود والديك والحمائم والحصان (رمز الخصوبة).
يكفي أن نتعقّب أسلبة حيوان <القط الأسود> واستمراره في قطط سعيد العدوي ورباب النمر وسواهما حتى ندرك قوة التناسخ الذاكراتي التي حملها حامد ندا الى الجيل التالي من <مدرسة الإسكندرية>، تناسخ يمر ميراثه السحري من القط الفرعوني المقدس وأبي الهول إلى شطحات المخيلة الشعبية. ناهيك عما ورثه إلى سعيد العدوي من خصائص الفراغ <الميتافيزيقي> وسردية العناصر وتداعيها بصيغة أفقية لا تقبل العودة مثل نوطة <الموسيقى اللحنية> ومثل اتجاه الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار المستخدمة في لوحات حامد ندا).
إذا كنّا بصدد الذاكرة الشعبية السحرية، فلا يمكن تجاوز تجربة عفت ناجي وزوجها سعد الخادم. يعتمد الاثنان على نبش الاشارات والرموز السحرية والتعويذية والفلكية التي تتصل عن طريق خزان وصناعات المخيلة الشعبية عبر الأسرار السيميائية الفرعونية. وذلك بحثاً عن أبجدية <سيميولوجية> شمولية، أعطت الفنان عفت للمختبر الاسكندري صفة التجريب، بسبب شجاعة ملصقاتها، هو الدرب الذي استكمله عصمت الداوستاشي بصيغة <ما بعد حداثية>. كما استكمل سعيد العدوي مشوار كل من حامد ندا ومحمود سعيد.
إن إعادة تأمل تجارب كل من سعيد العدوي ومصطفى عبد المعطي وزوجته رباب النمر والداوستاشي وصولاً حتى فاروق وهبة، تثبت اليوم بما يقطع دابر الشك تلك القرابة الذوقية الخاصة بكوكبة الإسكندرية.
يجمع هؤلاء البحث عن أبجدية تجريبية شمولية، تعتمد حياكة الفراغ السردي على جماهير من التداعيات الاشارية اشد عضوية لدى العدوي والنمر، واشد هندسية لدى عبد المعطي، واشد مفاهيمية لدى وهبي وأكثر تدميراً وادائياً لدى الداوستاشي، لعل مركز هذه الثريا هو: محمود سعيد.
(الإسكندرية)
واقرأ أيضاً:
مدرسة الإسكندرية الطبية / على باب الله: (أحداث كنيسة الإسكندرية) / الإسكندرية من 5 إلى 7 نوفمبر 2008