بين الأمانة والشورى.. والعيب
لماذا لا نريد الاعتراف بأن الأسس التي قامت عليها حياتنا قد تغيرت، وأن الخبرات التي توصلنا إليها بعد جهد، على مدى أعمارنا، لم تعد صالحة للتعامل مع الحياة الجديدة التي يمضي إليها البشر؟.. لماذا لا نريد الإقرار بأن فشلنا في الوصول إلى حلول لمشاكل حياتنا، وسبل لإعادة بناء مؤسساتنا، لا يرجع إلى نقص في الذكاء، أو ضعف في الخبرات.. إنما مرجعه إلى أننا لم نتوصّل بعد إلى المنهج المناسب للتعامل مع التغيرات الكبرى المتسارعة التي نمرّ بها.. ولم نتّفق على المنهج الذي سيتيح لنا أن نرسم رؤية مستقبلية حقيقية لمصر.
لقد ناقشت في مقال سابق قصور جهد أمانة السياسات في تصوّر مستقبل الحياة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية في مصر، وبالتحديد أسس التعليم في مجتمع المعلومات. واليوم، تابعت على القناة الأولى وقائع جلسة الشورى، التي خصصت لمناقشة قانون جديد خاص بكادر وأوضاع المعلمين.. مداخلات وآراء قد يعرضني وصفها للمساءلة القانونية، أو يضعني تحت رحمة قانون العيب، لو أنه ما زال قائما حتّى اليوم.
لماذا لا نريد أن نفهم؟..
عندما أتابع الذي يحدث عندنا على مختلف المستويات السياسية، وفي الأحزاب (وطني وخلافه)، وفي دوائر البحث والدراسة والمجالس المتخصصة، أستنتج أننا لا نريد أن نفهم، ولا يهمنا هذا الذي يحدث للمجتمع البشري، ولا نسعى بالفعل لأي إصلاح أو إعادة بناء.
المهم.... هو أن يبقى هرم السلطة المتكلّس على حاله من الصمود أمام أي تغيير، وأن يستمر جمهور المستفيدين من هذا النظام في جني المكاسب التي يسعون إليها.. وأن تتخذ كافة الاحتياطات لمواصلة كسب رضاء النظام الأمريكي، حتى يمكن ضبط حركة البشر في مصر في الحدود التي يسمح بها الهرم، دون أن تقود هذه الحركة لأية مضايقات وتعليقات من بعض الجهات الأمريكية.
....والنتيجة؟
النتيجة هي أن هذه الأوضاع لن تستمر، رغم أنف أمريكا والهرم المتكلّس، فالتغيرات التي أتحدث عنها ستجرف القيادة الأمريكية الخرقاء، وعصابة ديك تشيني التي تحرّكها، وتجرف معهما كل الأتباع.
لكن!..
إذا انتظرنا في مصر حتّى يحدث هذا من تلقاء نفسه، فسيحدث بثمن باهـظ، ليس على هرم الحكم وأذياله فقط، ولكن على الجميع.
حقائق الزمن الآتي
فكرت في حيلة أتجنّب بها العموميات والتجريد، حتّى أقنع المخلصين بأهمية الذي أقوله بالنسبة للتغيرات التي أتت، ويأتي بها تحول البشر إلى مجتمع المعلومات.. سأرصدها كنتائج، دون إثباتات أو براهين، على أمل أن يصنع تجاورها المباشر هزّة إفاقة، أو نفير حركة. وفيما يلي رصد جوانب من التغييرات القادمة، حتى يقتنع ـمن يريد أن يقتنعـ بأن خبراتنا السابقة لا تسمح بالتعامل مع الجديد.
في الإدارة:
• من التنظيم الهرمي البيروقراطي، إلى تنوّع من التنظيمات الشبكية.
• من رأس المال الاقتصادي، إلى رأس المال البشري.
• تقليص الإدارة الوسيطة.
• تنوّع ساعات وأماكن العمل.
• من الإدارة بالأوامر، إلى تسهيل اتخاذ القرار في القواعد.
• دور للمؤسسة في التعليم والتدريب.
في التعليم:
• من التلقين، إلى تنمية القدرة على الابتكار، وحلّ المشاكل.. والتركيز على التعليم خالق المعرفة.
• امتداد التعليم لمدى الحياة، تعليم، ثم عمل، ثم تدريب، ثم عمل، ثم تعليم، وهكذا.
• تشجيع المتعلّم على التفكير، وممارسة التفكير الناقد، والاختلاف عن الآخر، والتفرّد.
• تنمية القدرة على التعليم الشخصي، والذاتي، في المدرسة وفي البيت.
• تشجيع الإيجابية والتعاون، للنجاح في ظل التنظيمات الشبكية.
• تدريب التلميذ على الاعتزاز بعقيدته، واحترام عقائد الآخرين.
في الممارسة السياسية:
• الانتقال من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى أشكال ممارسة ديموقراطية جديدة، من بينها ديموقراطية المشاركة، والديموقراطية التوقّعية، التي لا تتضمن التوكيل أو الإنابة.
• تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات، ستجعل الناخب لا يقل في معارفه عن النائب السابق.
• إنهاء احتكار مركزية القرار، في مختلف التنظيمات.
• الهبوط بنسبة عالية من سلطة اتخاذ القرار، من قمة الهرم إلى القواعد، الجغرافية والنوعية.
• مشاركة المواطن لكي تكون سليمة عند اتخاذ القرار يجب أن تتجاوز ما هو (هنا.. والآن)، وأن يدخل المستقبل كعامل مؤثّر في ذلك القرار.
الاقتصــاد:
أعرف أنّه ليس من السهل، طرح التغيرات الاقتصادية في عناوين، لكن الحيّز المتاح حاليا لا يسمح سوى بهذا، على أمل العودة إلى موضوع مستقبل اقتصاد مجتمع المعلومات في مقال لاحق.. ومع ذلك، كعيّنة:
• العالم يتحوّل إلى الاقتصاد الحر، فكما أننا لا نسأل اليوم عن توازن تجاري بين طنطا وأسيوط، فلن نحتاج مستقبلا إلى البحث عن توازن تجاري بين أمريكا واليابان (ملحوظة: الكيانات الرأسمالية الكبرى في العالم، حاولت ـونجحت إلى حدّ ماـ في الإسراع بترجمة هذا على شكل احتكارات متعدية الجنسيات على حساب الشعوب.. الأرجح أن يتوقّف لتناقضه مع طبيعة مجتمع المعلومات).
• التزاوج بين الاتصالات و الاقتصاد أتاح للمشروعات أن تتوزّع على مساحة سطح الأرض، التباعد المكاني بين مراكز الإدارة، ومواقع الإنتاج، تعوّضه نظم الاتصال المتفوّقة.
• الرأسمالية والاشتراكية نظامان مختلفان كانا يطرحان رؤيتان في التعامل الاقتصادي مع مجتمع الصناعة.. وحقائق مجتمع المعلومات تؤشّر إلى نظم اقتصادية مغايرة لما ساد عصر الصناعة.
• إعادة النظر في الملكية الخاصّة كأساس قانوني، وذلك لاختلاف المعلومات والمعارف عن السلع المادية.. ماذا يصنع قانون الملكية إذا كنت أبيع المعلومة، وتظلّ في حوزتي بعد بيعها؟. لذلك يفكّر علماء المستقبل في اعتماد "الحيازة" مكان الملكية.
• عمال مجتمع المعلومات يعملون كمورّد للعمل العقلي، فيصبح من الممكن التعامل معهم باعتبارهم ضمن المدخلات المعلوماتية في اقتصاد مجتمع المعلومات.
أين نحن من هذا؟!!
أشرت من قبل إلى غياب الرؤية المستقبلية عن استراتيجيات وخطط وبرامج أمانة السياسات بالحزب الوطني.. وقد أكّد هذه الحقيقة في "أهرام" هذا الأسبوع، د. محمد كمال، أمين التثقيف وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، تحت عنوان "نحو سياسة قومية للشباب".
• يتحدث عن ".. سياسة قومية للشباب في العديد من الدول، تحدد احتياجات الشباب في مجال السياسات العامة المختلفة.."، ألا يجدر بنا أن تكون لدينا سياسات عامة حقيقية بداية؟!.. وهو يشعر بلا شك بشيخوخة النظام وجموده، ويريد".. أن يكون هناك مكوّن شبابي في السياسات العامة.."، وأقترح يتّسع ذلك المكون الشبابي لباقي المواطنين في مصر، بحيث يشارك المصريون ـفعلاـ مع الشباب في صياغة القرارات!.
• ثم نصل إلى مربط الفرس عندما يقول ".. وتتضمن السياسة القومية للشباب أيضا إيجاد إطار مؤسسي يقوم بالإشراف على تنفيذ هذه السياسة..". والسياسة الخاصّة بالشباب، التي يتحدث عنها أمين التثقيف، ليس لها أي بعد مستقبلي، و لا تتعرّض لأزمة التناقض بين جمود النظام الحاكم واندفاع حركة التغيرات الحالية. ورغم أنه يشير إلى أن هذه السياسة ".. تأخذ في الاعتبار الاحتياجات الثقافية للشباب والتغييرات التي يمرّ بها المجتمع..". بقي أن يظهر لنا الأمين كرامة، ويدلنا على مؤشّر حقيقي في أدبيات أمانة السياسات عن التغييرات الحقيقية التي يمر بها المجتمع.
أخشى ما أخشاه، أن يكون هذا نوع من الحنين إلى تجربة منظمة الشـباب في المرحلة الناصرية (يعرفها د. مفيد شهاب، ود. على الدين هلال).. وسر تخوّفي هو أن تنظيم البشر دون أن يكون ذلك على أساس مضمون ورؤية اجتماعية حقيقية، قد يقود إلى أن يصبح ذلك التنظيم فاشيستيا.
واقرأ أيضاً:
لنتعلم كيف نتعلم / متى نشخِّص الثقافة؟ / أخطاء الفكر وخطايا الفعل