أدرك الغرب منذ زمن طويل أهميـة الإعلام ودوره في نشـر الأفكار التي يُريد الترويج لها في مناطق نفوذه، وجاءت هذه الخطوة على نحو واسـع بعد حصول عدد كبير من الدول العربيـة على "اسـتقلالها وخروجها عن السـيطرة العسـكريـة للقوى الغربيـة"، وإن كان الإعداد لها قد بدأ وهو جاثم على أنفاس هذه الدول؛ حيث قام بتربيـة عدد من المثقفين على عينـه وأرسـلهم في بعثات دراسـيـة، وتولى عدد منهم مناصب تربويـة وإعلاميـة بارزة حال عودتهم وبمباركـة واضحـة من المحتل.
ومع خروج المحتل وازدياد صراع النفوذ والمصالح كان ينبغي إيجاد عدد من الحلول لاسـتمرار الهيمنـة، ووجد الغرب أن أحد أهم هذه الحلول هو غزو عقول الجماهير العربيـة وخصوصاً النخبـة التي تتولى التوجيـه والحكم.
وقام الغرب بشـراء عدد من الأقلام والصحف لبثِّ أفكاره على صعيد واسـع وأجزل لها العطاء، في حين قام عدد من الأقلام والصحف بنشـر هذه الأفكار بلا مقابل؛ بدعوى الاقتناع الفكري، وليس المقصود بالغرب هنا أوروبا الغربية والولايات المتحدة فقط ولكن يدخل في ذلك أيضاً الاتحاد السوفيتي السابق والذي دخل اللعبة على نطاق واسع خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما كانت الأفكار الاشتراكية رائجة في المنطقة وتبنتها العديد من الأنظمة والقيادات الفكرية التي كانت على صلة وثيقة بالكتلة الشرقية.
كانت هذه الدعايات تصب في محتواها على أهميـة اللحاق بالغرب "المتطور" ونسـيان "الماضي"، والبكاء على ضعف العرب وهزيمتهم نتيجـة لسـيطرة "الخرافات والجهالـة على عقولهم" ـفي إشـارة غير خافيـة إلى الدين والعقيدةـ وأن التقدم يأتي من اتباع المذاهب الحديثـة مثل الليبراليـة والوجوديـة والاشتراكية والرأسـماليـة والديمقراطية، كلٌ على حسـب توجهـه، وانتشـرت في ذلك الوقت أفكار طه حسـين وسـلامـة موسـى وقاسـم أمين.
وتطورت هذه المرحلة فيما بعد وتم افتتاح عدد من الإذاعات الغربية الناطقة باللغة العربية لسهولة الوصول للمستمع العربي مباشرة ومن هذه الإذاعات "صوت أمريكا" و"صوت فرنسا" و"مونت كارلو" و"هيئة الإذاعة البريطانية" وغيرها، واستطاعت اجتذاب آذان المستمع العربي بدقة أخبارها وسرعتها مقارنة بالإذاعات العربية في ذلك الوقت والتي كانت تُعاني من الترهل وسيطرة الحكومات وتوجيهها.
وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي ومع انطلاق الفضائيات وانتشارها في العالم العربي ومع تنامي أهمية المنطقة العربية كمصدر رئيس للطاقة في ظل التقدم الصناعي والاقتصادي الواسع والذي أصبح يُدير السياسة وليس العكس، كان من المهم إيجاد المزيد من الطُرق للسـيطرة على عقول جماهير هذه المنطقـة خصوصاً مع تزايد كراهيـة شـعوبها للغرب وسـياسـاتـه المجحفـة، ومع وجود محطات عربية تُركز على القضايا العربية والتفاف المشاهد بقوة حولها مثل قناة "الجزيرة" الإخبارية، من هنا بدأت مرحلة جديدة للغزو بإطلاق عدة قنوات غربية فضائية ناطقة بالعربية بدأتها واشنطن بقناة "الحرة" ثم قبل أسابيع أطلقت قناة "فرانس24" خدمة ناطقة باللغة بالعربية، ثم روسيا التي بدأت أول أمس بث إذاعتها باللغة العربية، في حين تستعد هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لإطلاق قناة تلفزيونية ناطقة باللغة العربية أواخر العام الجاري.
وهنا تأتي ملاحظة هامة أشار إليها رئيس تحرير صحيفة "القدس العربي" عبد الباري عطوان عندما ذكر أن القاسـم المشـترك بين أغلب تلك القنوات هو أنها مُمولـة من حكومات بلدان متورطـة في الحروب والأزمـة التي تشـهدها منطقـة الشـرق الأوسـط ولها مصالح حيويـة وإستراتيجية فيها. وأكد عطوان، الذي كان يتحدث في منتدى الجزيرة الإعلامي الثالث، أن ميلاد خدمات تلفزيونيـة بالعربيـة في كلٍ من الولايات المتحدة وفرنسـا وألمانيا وروسـيا وبريطانيا، هو جزء من هجمـة شـرسـة تسـتهدف العقل الجمعي للمنطقـة بهدف تسـطيح وعيـه وتهيئـة التربـة الخصبـة لاسـتغلال ثرواتـه الطبيعيـة المتمثلـة أسـاسـاً في النفط.
واعتبر أسـتاذ العلوم السـياسـيـة في جامعـة قطر محمد المسـفر تلك القنوات جزءاً من حرب طويلـة ضد الأمـة العربيـة الإسـلاميـة وهويتها، تواصلت على مدى قرون واتخذت أشـكالاً مختلفـة عبر التاريخ. ويرى المسـفر أن الهدف من تلك القنوات هو دخول البيت العربي واسـتهداف النواة الأسـاسـيـة للهويـة العربيـة والإسـلاميـة المتمثلـة في خليـة العائلـة، بهدف إعادة صياغـة العقل العربي من الأسـاس لتمهيد الأرضيـة الثقافيـة للقوى المتصارعـة في المنطقـة.
واقرأ أيضاً
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
متى نشخِّص الثقافة؟
عالم عربي جديد يتشكل