هل أصبحنا في حاجة إلى ثورة ثانية؟
ربما تكون الإجابة محبطة للقارئ كما هي محبطة للكاتب خاصة من شاركوا في الثورة الأولى "التي بهرت العالم بتحضرها وسلميتها وبياضها", فهل يا ترى كانت هذه بعض أسباب ضعفها؟, هل كانت حضارية أكثر من اللازم؟... هل كانت سلمية ومسالمة أكثر مما هو مطلوب في الثورات؟.... هل كانت بيضاء "زيادة عن اللزوم"؟.... هل شجعت طيبتها مناوئوها على أن يتبجحوا حتى اليوم بإهانتها ومحاولة الانقضاض عليها؟... هل كانت ثورة "طرية" و"رخوة" فلم تنجح في إدخال الفئران إلى الجحور.
وهل نحن كمصريين "سقيطة ثورات" أو "ملحقجية ثورات" بمعنى أننا كنا في أحيان كثيرة نسقط قبل أن نحقق أهداف الثورة, أو على الأقل نحتاج لدخول ملحق الثورة؟
ثورة عرابي بدأت عظيمة وانتهت إلى هوجة استغلها الخديوي والمستعمر, وطلبوا من قائدها كتابة خطاب اعتذار حتى يعيدوه من منفاه, وفي الأغلب فعل القائد ذلك واعتذر (طبقا لبعض المصادر التاريخية), وثورة 1919 العظيمة غيرت بعض الأشياء ولكنها لم تكتمل وقتها واحتاجت لأكثر من ملحق, وثورة 1952 حددت 6 أهداف لم تتحقق أغلبها. حتى نصر أكتوبر العظيم لم نستطع استثماره سياسيا أو استكماله عسكريا وخسرنا بسبب ذلك الكثير.
هل هي مشكلة في الشخصية المصرية تحتاج لعلاج؟، بمعنى أن لدينا مشكلة في إكمال الأشياء على النحو "المضبوط"؟، هل دائما نفعل الشيء "إلا حته"، وبلغة الصنايعية وأولاد البلد: هل هي مشكلة في التقفيل والتشطيب والتفنيش؟ ربما, خاصة وأن لدينا تجارب في ذلك حين كنا نصدر البضائع والمصنوعات المصرية فكانت تعود إلينا ليس بسبب مشاكل في الجودة وإنما بسبب مشاكل في التجهيز أو التعبئة أو التغليف أو التشطيب أو التقفيل.
يبدو أننا فرحنا أكثر من اللازم بابتعاد رأس النظام عن الحكم, فاحتفلنا وهللنا وخرجنا إلى الشوارع وعدنا إلى بيوتنا لننام ملء أجفاننا منتظرين جني ثمار الثورة في الأيام التالية (وللأسف لم يكن بيننا رجل رشيد يعيد إلينا صوابنا, أو ربما فعل ولم نسمعه بسبب ضوضاء الاحتفال), وكنا نتوقع أن تنزل ثمار الثورة العظيمة المبهرة في حجرنا دون أن نبذل جهدا في هز الأشجار, وظللنا في هذا الحلم الساذج إلى أن انتبهنا إلى الجريمة التي ارتكبناها بحق أنفسنا وبحق الثورة حين اكتشفنا بقاء جسد النظام وأركان النظام ومفاصل النظام وكنا نخدع أنفسنا في الأيام الأولى بعد زوال مبارك من المشهد فنقول "فلول النطام", وهذا وهم وخداع كبير, إذ ما تبقى ليس فلولا وإنما نظاما مكتملا، ربما يكون متخفيا أو كامنا في بعض أجزائه ولكنه متماسكا وجاهزا للانقضاض والعودة في أي لحظة.
ربما يقول البعض إنه نظام بلا رأس وبلا أيديولوجية وبلا فلسفة أو رؤية وبالتالي هي مسألة وقت ويتم اجتثاثه!!، وهذا للأسف غير صحيح جملة وتفصيلا فواضح أن للنظام القديم رأسا قد يعرفها البعض ويسميها وقد يجهلها آخرون، قد تكون رأسا معلنة, وقد تكون رابضة تحت سطح الماء، أما عن الأيديولوجية والفلسفة والرؤية فقد عاش ذلك النظام ثلاثين سنة بلا هذه الأشياء, إذ هو نظام تطفلي براجماتي فاسد لا تهمه كل هذه الاعتبارات.
ربما يعترض أحد على هذه الرؤية المتشائمة أو الموغلة في سوء الظن بالأحداث, ويقول كيف تقول هذا وقد أدخلت الثورة رأس النظام وولديه وزبانيته إلى قفص المحاكمة أمام العالم؟، ولهؤلاء نقول: نعم هذا صحيح, ولكن انظر ماذا كان يحدث خارج القاعة, كان يؤتى بالبلطجية ليوسعوا أهالي الشهداء والثوار ضربا وإهانة تحت سمع وبصر رجال الأمن, وهؤلاء البلطجية يدّعون أنهم أبناء مبارك، وعاش أهالي الشهداء لحظات ألم ومهانة وإذلال وهم يبحثون عن حقوق أبنائهم!!، فكيف إذن تكون ثورة تلك التي يهان شهداؤها وأهاليهم؟, وكيف تكون ثورة وما زالت في عز عنفوانها ويخرج مرتزقة وبلطجية بكل صفاقة ليس فقط ليعتذروا للطاغية وأعوانه ولكن أيضا ليؤدبوا الثوار على قيامهم بالثورة.
الثورة في تعريفها وفي جوهرها عمل قوي عنيف مزلزل, تيار يجرف في طريقه كل الفقاعات وأوراق الشجر الجافة وكل أنواع الزبد الفارغ، الثورة لا تستحي ولا تهادن ولا تتضرع ولا تتسول ولا تشكر أحدا ولا تستعطف أحدا, فالحشد الذي حشدته والدماء التي قدمتها تعفيها من كل هذه السلوكيات الاستعطافية التسولية المذلة وتجعلها فوق أي رأس وأعلى من أي هامة. إذا لم تكن الثورة كذلك, وإذا لم ترتعد فرائص مناوئيها منها فهنا تجب مراجعة الموضوع من أوله.
ربما كنا نستنكر عنف بعض الثورات العالمية الكبيرة ولجوءها للمحاكم الثورية الحادة والعنيفة وربما الدموية, ولكن ما حدث في الثورة المصرية ربما يجعلنا نعيد قراءة النص الثوري بأبجديات أخرى, إذ لو أخذت الثورة على أيدي وأرجل ومفاصل النظام القديم بقوة لانتهت من تصفيته بسرعة وبحزم واختفى الذيول من المشهد طواعية أو إرغاما, وتفرغت الثورة للبناء في وقت قريب, أما أن نظل تحت رحمة كل عناصر النظام القديم يحركون حياتنا ويفسدون علينا مكاسب الثورة ويشوهونها, ويتحركون من ميدان مصطفى محمود إلى ماسبيرو وصولا إلى ميدان روكسي ثم يوسعون الثوار وأهل الشهداء ضربا وتلطيشا وإهانة, فهذا أمر سخيف يجعل حضارية وتحضر وسلمية وبياض الثورة أمورا تطعن الثورة في مقتل.
ثم دعنا نتساءل: كيف تعجز ثورة عن تغيير وزارة الداخلية أو تطهيرها بالمعنى الكامل والحقيقي للكلمة, وتترك الذئاب والثعالب والعقارب الذين عذبوا الشعب وأهانوه وحاربوا الثورة ومازالوا يحاربونها ويراهنون ويعملون على سقوطها بكل قوة؟، هل يمكن أن تكون هذه ثورة, وهي تستجدي تغيير بعض الأسماء أو تقديم أسماء أخرى لمحاكمات يجيد المتهمين فيها تزوير الأوراق والضغط على الشهود وهم قابعون في مراكزهم السلطوية حتى الآن؟؟
والثورة عمل استثنائي لا يصح التعامل مع أحداثه بالقوانين التي وضعها الطغاة لحماية أنفسهم وأذنابهم, ولو حاكمنا الثورة نفسها بالقانون العادي الذي وضعه أعداؤها لسجنا الثوار جميعا أو أعدمناهم إذ أنهم طبقا لقانون الطاغية انقلبوا على نظام الحكم وهزوا أركان الدولة, ولذلك كان لكل الثورات محاكم ثورية وقوانين ثورية ومحاكمات ثورية. أما أن نجلس على عتبات المحاكمات العادية التي تستغرق سنين فإننا نعطي الفرصة لأركان النظام القديم أن يجمعوا صفوفهم لينقضوا على الثورة وعلى الثوار ويعيدوا إحكام قبضتهم ووقتها لن يرحموا أحدا.
إنها ليست دعوة للتشاؤم (وإن كان التشاؤم واردا), وليست دعوة لليأس أو التسليم, ولكنها دعوة لليقظة, ففي الوقت الذي تفتت فيه الثوار إلى مئات الائتلافات المتصارعة, وتم الإيحاء بتقريب هذا واستبعاد ذاك وتم الإلهاء بقضايا خلافية هامشية أو هامة, في ذلك الوقت تتحرك الأحداث نحو عودة النظام القديم مع بعض أدوات التجميل البسيطة لتظل مصر كما كانت أيام مبارك (مع تغيير الأسماء) وتتحول الثورة المصرية العظيمة إلى ذكرى جميلة وإلى فرصة للاحتفالات كل عام بذكرى 25 يناير, ولهذا وجب أن نعترف أننا قصرنا في حق أنفسنا وفي حق الثورة, وأن نحتفظ بلياقتنا الثورية وقدرتنا على الحشد الهادف والمؤثر, وأن نكون مستعدين لعمل ثورة ثانية إذا لم تحقق الثورة الأولى أهدافها في الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية, ووقتها لن نقول بأن الثورة الأولى فشلت ولكنها كانت "بروفة" للثورة الثانية ودرسا نتعلم منه حتى لا نقع في نفس أخطاء الثورة الأولى.