الدماغ المكتئب
عند الحديث عن الجوانب البيولوجية والعلمية عن الاكتئاب يفضل التركيز على الاكتئاب الجسيم لأن الشعور بالحزن والكآبة وعدم السعادة شائع جداً، وبسبب انتشار الوعي العام عن الاكتئاب وتوفر العشرات من عقاقير سليمة الاستعمال ومئات من العلاجات النفسانية أصبح تشخيص الاكتئاب شائعا جداً ومعه تطبيب الحزن وعدم السعادة. رفع وصمة الشكوى من الاكتئاب كاضطراب عقلي ووسائط التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت لعب دوره كذلك في شيوع تشخيص الاضطراب.
تتميز نوبة اكتئاب جسيم بفترة طويلة نسبياً لمزاج منخفض أو انعدام التلذذ أو كلاهما. هذه المشاعر تكون مصحوبة بعدد من الأعراض الأخرى مثل الشعور بعدم وجود الطاقة للعمل والتفاعل مع الآخرين، تغيرات في الشهية يصاحبها فقدان الوزن، الأرق، وصعوبات معرفية. لكي يتم التشخيص فلابد لهذه الأعراض أن تؤثر سلبياً على الأداء الشخصي والمهني والتعليمي للفرد ويشعر بسببها بضائقة كبيرة. كذلك لا يمكن تفسير الأعراض بسبب اضطراب طبي أو استعمال مواد كيمائية.
الاكتئاب الجسيم شائع جداً، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن انتشاره على مدى العمر يقترب من 20% ويتم اعتباره من أحد الأسباب الرئيسية للإعاقة عالمياً1.
حاولت البحوث العلمية دراسة الاكتئاب من خلال نماذج متعددة بدايتها العوامل البيئية والاجتماعية وتأثيرها على الدماغ ومن ثم دراسة الدوائر العصبية الدماغية وعلاقتها بالاضطراب وأخيراً دراسة الخلايا العصبية في الدماغ المكتئب. لذلك من المفضل دراسة الدماغ المكتئب من خلال عدة أبعاد مع التركيز على دماغ الإنسان.
كيمياء الدماغ والاكتئاب
منذ فترة طويلة وإلى يومنا هذا هناك تركيز متواصل على مختلف نظم الناقلات العصبية الكيمائية لتفسير الاكتئاب وعلاجه. ما هو معروف بأن جميع العقاقير المستعملة في علاج الاكتئاب تحفز إشارات الناقل العصبي الكيمائي سيروتونين وكذلك نورأدرينالين ومن هنا يأتي شيوع نظرية أحادي الأمين للاكتئاب Monoamine Theory of Depression ومفادها بأن مصدر الاكتئاب هو عدم كفاية أو اختلال الانتقال العصبي الكيمائي لسيروتونين، نورأدرينالين وكذلك دوبامين2.
استندت الدراسات القديمة على منهجيات محدودة إلى حد ما لدراسة نظرية أحادي الأمين مثل قياس الناقلات العصبية الكيمائية أو سلائفها في البلازما والسائل النخاعي الشوكي وكذلك أنسجة المخ بعد نهاية الحياة. هذه الدراسات القديمة ذات المنهجية المحدودة وجدت دعماً إضافيا مع استخدام تقنيات جديدة مثل تصوير الدماغ مع استخدام روابط مشعة للمستقبلات العصبية الكيمائية. ما يمكن استنتاجه الآن هو أن الاكتئاب يرتبط بانتقال عصبي كيمائي غير طبيعي لأحادي الأمين، ولكن الآلية الدقيقة لهذا العطل لا تزال غير واضحة.
ما هو معروف أيضاً الآن بأن تشوهات انتقال أحادي الأمين تستمر في المرضى المصابين بالاكتئاب الجسيم حتى بعد تعافيه، وهذا بدوره أدى الاستنتاج بأن هناك ضعفا بيولوجيا عصبيا يؤهل الإنسان لاختلال انتقال أحادي الأمين وبالتالي إصابته بالاكتئاب الجسيم.
ما هو مثير للاهتمام هو أن التلاعب بنشاط مسار أحادي الأمين سيروتونين تجريبياً عن طريق سلفه المعروف تربتوفان Tryptophan فالنتيجة هي أن أولئك الذين لديهم تاريخ سابق للاكتئاب يعانون من أعراض تشبه الاكتئاب، ولكن ذلك لا يظهر في الأشخاص الأصحاء الذين ليس لديهم تاريخ سابق أو عوامل خطورة الإصابة بالاكتئاب، وهذا ربما يؤكد بأن ضعف النقل العصبي الكيمائي لوحده لا يكفي لتفسير الاكتئاب3.
نظام أحادي الأمين لا يزال يثير اهتمام الباحثين أكثر من غيره، ولكن هناك بعض الأدلة على وجود دور لناقلات عصبية كيمائية أخرى مثل حمض جاما أمينو بيوتريك Gama Amino Butyric Acid GABA ونظام غلوتاميت4. بعض الدراسات تشير إلى انخفاض مستويات GABA في سائل النخاع الشوكي وانخفاض كثافة الخلايا الحاملة له في مناطق متعددة من الدماغ مثل القشرة الحزامية الأمامية. كذلك الحال مع نظام غلوتاميت حيث تشير بعض الدراسات إلى تشوهات في هذا النظام وخاصة في المنطقة الأمامية للدماغ. مادة كيتامين مضادة لمستقبلات غلوتاميت المعروفة بـ NMDA وله تأثير سريع إيجابي على الاكتئاب، ولكن هذا التأثير السريع تأثير عابر فقط في أفضل الحالات5.
النظم العصبي الصماوي Neuroendocrine
خضع النظم العصبي الصماوي لدراسات عديدة لتفسير الاكتئاب الجسيم، وتمت ملاحظة عدة تشوهات في محور تحت المهاد-الغدة النخامية-الغدة الكظرية Hypothalamic- Pituitary-Adrenal HPA. هناك علامات خفية لفرط إفراز كورتيزول مثل زيادة مستويات كورتيزول في السائل النخاعي الشوكي، البلازما ومستويات كورتيزول البولي على مدار 24 ساعة. كذلك تمت دراسة فشل قمع إفراز كورتيزول بعد إعطاء ديكساميثاسون Dexamethasone، ارتفاع كورتيزول اللعابي بعد الاستيقاظ من النوم وانخفاض عدد مستقبلات كلوكوكورتيكويد المحيطية والمركزية.
أما المرضى الذين يعانون من فرط كورتيزول بسبب مرض كوشينوغ Cushing’s Disease فهم معرضون للإصابة بالاكتئاب وفي نفس الوقت فإن المصابين بالاكتئاب يعانون من اضطرابات كثيرة الملاحظة في مرض كوشينوغ مثل أمراض القلب، السكري وانخفاض حجم الحصين Hippocampus في الدماغ. كل ذلك يؤدي إلى الاستنتاج بوجود فرط في فعالية محور تحت المهاد-الغدة النخامية- الغدة الكظرية ويمثل ذلك عاملا بيولوجياً مرضياً. تشير بعض الدراسات إلى أن التعرض للإجهاد في الطفولة يؤدي إلى زيادة فعالية المحور واستمرار ذلك بعد البلوغ والإصابة بالاكتئاب6.
هناك هرمونات أخرى اثارت اهتمام البحوث العلمية مثل ميلاتونين، أوكسيتوسن وفاسو بريسين، ولكن أهميتها غير واضحة.
ويتبع: الدماغ المكتئب2
المصادر:
1- Woody CA, Ferrari AJ, Siskind DJ, Whiteford HA, Harris MG. A systematic review and meta-regression of the prevalence and incidence of perinatal depression. J Affect Disord. 2017; 219:86–92.
2- Shai Mulinari (2012): Monoamine Theories of Depression: Historical Impact on Biomedical Research, Journal of the History of the Neurosciences: Basic and Clinical Perspectives, 21:4, 366-392.
3- Delgado PL, Charney DS, Price LH, Aghajanian GK, Landis H, Heninger GR. Serotonin function and the mechanism of antidepressant action. Reversal of antidepressant-induced remission by rapid depletion of plasma tryptophan. Arch Gen Psychiatr. 1990;47(5):411–18.
4- Kalueff A & Nutt D. Role of GABA in anxiety and depression. Depression and Anxiety 2007;24(7): 495-517.
5- Sarawagi A, Soni N, Patel A. Glutamate and GABA Homeostasis and Neurometabolism in Major Depressive Disorder. Front Psychiatry. April 2021. Online Publication.
6- Bradley, R.G. et al. Influence of child abuse on adult depression: moderation by the corticotropin-releasing hormone receptor gene. Arch. Gen. Psychiatry 2008; 65: 190–200.
واقرأ أيضا:
الدماغ الوسواسي / دماغ الشخصية الحدية The Brain of Borderline Personality