إغلاق
 

Bookmark and Share

أحمد زكي.. كادر مختلف ::

الكاتب: د.أحمد عبد الله.
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/06/2005

صدور المصريين تمتليء بالسرطان من إسكندرية إلى أسوان

حين علمت بمرضه.. لأول مرة.. قلت لصديقي السيناريست اللامع: أريد أن أكتب شيئا عن هذا الرجل.. بلدياتي... أحسن ممثل في مصر، ولا أعرف حقيقة لماذا لم أكتب عندئذ ؟!

أحيانا يكثر الكلام في شأن ما، فتفقد الرغبة، وتفقد الكلمة معناها، والأثر المتوقع لها، فيكون الصمت هو الخيار .
وأنا لا أكتب اليوم لأرثيه، فهو عند ربه، وقد أفضى لما قدم، وندعو لجميع موتانا بالرحمة، ولأنفسنا، إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
أكتب على هامش مشاعرنا المتدفقة، بل أكتب عن ظاهرة مشاعرنا المتدفقة، فأحيانا يتحفنا المتفلسفون بأننا شعوب عاطفية همجية تغلبنا مشاعرنا فتلغي عقولنا، ثم يفرشون بقية بضاعتهم في جلد ظهورنا، والطعن في تكويننا النفسي، والخوض في هجاء عقلنا الجمعي، إلى آخر هذه المعزوفة.

وبالمقابل نراهم يقدسون العقل بوصفه باردا ومتجردا، موضوعيا ومحايدا، لا يتأثر بالمشاعر ولا الأهواء، ويمارس الرشد لا سواه.
وهذا خلل وتلفيق وافتراء، لأن القول بأن مطلق العقل هو أعلى من أصل المشاعر والعواطف في سلم الوظائف النفسية هو ما تدحضه أحدث الأبحاث في هذا الصدد، وتقليل قيمة الفيض الشعوري في توجيه التغيير والتطور الفردي والجماعي هو تلفيق منهجي، وبخاصة أنه لا يوجد شيء اسمه عقل بارد محايد موضوعي، بلا تحيزات، مهما ادعى ذلك.

ونظم الهجاء وجلد الظهور بناءا على أسس خاطئة هو افتراء منطقي وإنساني، ولكن من فضلك أكمل المقال.

فلست هنا أدافع عن حالنا وحالتنا حين نغرق في بحر المشاعر لفترة ثم.. كل حي يروح لحاله !!!
إذا كان موتا ملأنا الكون عديدا وعويلا.. وإن كان فوزا في مباراة رقصنا وهللنا كأننا استعدنا القدس...
ولو كان غضبا.. اشتعلنا حتى يظن أعداؤنا أن نهايتهم قد حانت، ثم يكتشفون أننا كالعادة كنا مندمجين في اللحظة.. وعايشين الموقف.. وبعدين.. بح... أو... بس..خلاص. ... كل واحد يروح يلعب قدام بيتهم !!!

يعني حاجة كده زي المولد... يعمر ثم ينفض.. ودمتم وحتى لا يقول قائل: حيرتنا معاك.. إنت عاوز إيه بالضبط !!
أذكركم بمشاعرنا بعد انتفاضة الأقصى أو احتلال العراق مثلا، وأقول: أريد أن تنطلق مشاعرنا حرة وحارة على قدر الحدث في حينه، وأريد أن نفكر فورا ودائما كيف تتحول المشاعر إلى شيء ملموس ومستمر أكبر من مجرد الاحتفال بالذكرى كل عام !!!
وأريد ثالثا أن نحترم العقل ونمارس فريضة التفكير كما نعيش المشاعر، ونغرق في الأحاسيس.

وفي حالة الراحل أحمد زكي من حقنا جميعا، وهو يستحق، أن نحزن عليه كما فرحنا بأنه واحد منا، كما فرحنا بفنه وإبداعه وتميزه، ولكن من واجبنا أيضا وفورا أن نتعلم ونعمم مثلا .. فيما مثل : الجدية والإصرار والإتقان والطموح والتفاني والإنجاز والإنتاج المستمر المتنوع رغم وتحت كل الظروف، فحب الناس لأحمد زكي لم يأتي من فراغ.

ومن واجبنا أيضا أن نستثمر مشاعرنا وحب الناس للراحل فيما يكون بمثابة صدقة جارية تنفعه وتنفعنا، بدلا مما نرى من صخب إعلامي يتطرق أحيانا إلى ما يجدر طيه، ولو كان حقا، والأولى أن نسعى لما يفيد دائما.

وعندي اقتراح هو مجرد مثال لاجتهاد قابل للتعديل أو التنفيذ فورا... إن شاء الله .

رغم أن الأعمار بيد الله، فإن كل مرض له دواء، ودواء السرطان يكمن أساسا في الاكتشاف والتدخل المبكر، وسرطان الرئة بالذات يسهل اكتشافه في بداياته، فالمسألة لا تتطلب أكثر من صورة أشعة عادية على الصدر تجرى تلقائيا ضمن ما يسمى بالفحص الدوري في أوروبا والدول المتقدمة.

ويدرك أهل التخصص أننا لو أجرينا اليوم حملة مسحية لتصوير صدور المصريين جميعا من إسكندرية إلى أسوان.. لاكتشفنا آلاف الحالات في بدايتها.. سعر فيلم الأشعة بضعة جنيهات.. وعلامات التشخيص يعرفها أي طبيب امتياز.. بل كل طالب في بكارليوس طب.. مع احترامي للجميع.. والعلاج عندئذ يكون بعملية بسيطة لاستئصال الفص المصاب، لو اقتصرت الإصابة عليه، وتكاليف ذلك لغير القادرين يمكن تمويلهامن الشركات والمصانع والجهات التي تود أن تشارك في مظاهرة حب بجد، وتأبين الراحل أحمد زكي.. بما هو أكثر من الكلمات الرنانة والمشاعر الجياشة والدموع الفياضة.

كتب "مارك ليونارد" في جريدة الفاينانشيال تايمز من شهرين أن 98 بالمئة من المصريين يؤمنون بأن الديمقراطية هي أفضل نظام للحكم، ولكن مصر لم تكتشف كيف تحول الجماهير السلبية، حتى الآن، هذا الإيمان إلى فعل يؤثر !!!

كشفنا هذا الرجل الخلبوص، عرف أن لدينا الكثير من الإيمان، والإيمان جوهره شعور، ومصر أرض الإيمان، بقى، بقي أن نكتشف ونتعلم ونتدرب وبرمج على تحويل الإيمان والشعور إلى فعل يؤثر.. رحم الله الفقيد.. ودمتم سالمين.


الدستور 13 / أبريل / 2005


 



الكاتب: د.أحمد عبد الله.
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/06/2005