إغلاق
 

Bookmark and Share

أسلمة الطعام (1) ::

الكاتب: د.عبد الباسط السيد مرسي
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/10/2005

إسلامية المعرفة ـ المدلول والغاية

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرت في نهاية مقال سابق أن أسلمة المعرفة ترتكز على محورين: أحدهما تنظيري، والآخر تطبيقي، وسوف أبدأ ـ إن شاء الله تعالى ـ المحور التطبيقي بالحديث عن: أسلمة الطعام " .. ولكن لماذا هذه البداية؟ وأجيب متسائل: وهل يوجد كائن حي [إنسان أو حيوان، أو نبات] يمكنه الاستغناء عن الطعام؟ أو لا يحتاج إلى غذاء؟ طبعا الإجابة معروفة بداهة .. ولذا جاء الخطاب الإلهي لافتا نظر الإنسان للتفكر في هذه القضية، على الرغم من أنها تبدو عملية بسيطة للإنسان الذي يمارسها يوميا أكثر من مرة، ولكنها عملية معقدة لو علمها الإنسان، وإنما يسرها الله له، قال سبحانه: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ [عبس:24] الإنسان على وجه العموم: غنيا كان أم فقيرا، طائعا أم عاصيا، صحيحا أم مريضا، في قصر أم في كوخ، مسلما كان أم غير مسلم ..الخ، عليه أن ينظر نظر تأمل واعتبار .. لا لمجرد النهم والقضم !!

وإذا كانت الشعوب تتأثر في صحتها، بل وأيضا في أخلاقها وعاداتها بنوع الغذاء الذي تأكله وبطريقة تناولها لهذا الطعام، فإن الإسلام قد اهتم بغذاء المسلم اهتماما لم يسبقه إليه أي دين أو تشريع من قبل، فلا يخلو كتاب من كتب الفقه أو الحديث من باب علم التغذية يسمى باب "الأطعمة والأشربة ".. يتناول فيه كل الأسس السليمة لهذا العلم.

فمن الأطعمة ما حرمه الإسلام لضرره بصحة الإنسان أو بأخلاقه، ومن الأطعمة ما حث عليها لأن تركها يضعف المسلم جسميا أو معنويا، ومن عادات الطعام أيضا ما يضر فنهى عنها الدين، ومنها ما ينفع فنظمه الإسلام وحث على إتباعه.

فمن الدلالات التي يمكن استخلاصها هنا: أن الإسلام ـالدين القيمـ ليس دين مواعظ جافة وباردة، لا يذكر جزئية تهم الإنسان ويترك جزئيات، وإنما هو الدين الذي ما فرط في شيء، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وصبغ كل شأن من شئون الحياة بصبغته الخاصة، بحيث يصبح له التفرد والسبق والريادة في كل شئون الحياة والناس، فهم إذن في أمس الحاجة إليه إن أرادوا إصلاح الحياة واستقامتها .. أي أسلمتها .. والأمر كما قال الله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة : 148]، ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى  فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى  وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى  وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى  وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل :4- 10] .

وأود أن أستأنس بمقدمة تفيض حكمة وعلما للإمام أبي حامد الغزالي ـرحمه الله تعالىـ يقول فيها : "إن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات، فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين: إن الأكل من الدين ، وعليه نبه رب العالمين بقوله وهو أصدق القائلين : ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً﴾ [المؤمنون : 51] فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل ويقوى به على التقوى ، فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى ، يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى ، فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه ، ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه ، وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم ـ يحكم ـ العبد بزمامها ، ويلجم المتقى بلجامها ، حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها ، فيصير بسببها مدفعة للوزر،ومجلبة للأجر،وإن كان فيها أوفى حظ للنفس " أ.هـ

والآن مع نظام أسلمة الأكل .. وسيكون فق مجموعتين من الإجراءات تتمثل في الآتي :

أولا :نوع الطعام :

ثانيا: نظام الطعام:

نوع الطعام
ـ أما فيما يتعلق بنوع الطعام فيشترط فيه على وجه العموم أن يكون :

أ ـ حلالا في نفسه .

ب ـ طيبا من جهة مكسبه موافقا للسنة والورع .

فقد أحل الله تعالى للناس أن يأكلوا مما في الأرض حلالا طيبا ، والطعام الحلال يكون حلو الطعم ، مفيدا للجسد ومصلحا له ، وحرم عليهم أن يأكلوا الخبائث التي تضرهم في أبدانهم وعقولهم ، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة : 168] ، وقال : ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ﴾ [الأعراف : 157]

وفي شأن الأكل المحرم قال سبحانه:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة : 3] .أي حرم الله عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أكل لحم الميتة، وهي ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي، وأكل الدم السائل، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير الله عند ذبحه، وما مات خنقا، أو التي ضربت حتى ماتت، وما سقط من علو فمات، وما مات بسبب نطح غيره له، وما مات بسبب أكل حيوان مفترس منه، وأما ما أدركتموه وفيه حياة، مما يحل لكم أكله، وذبحتموه، فهو حلال لكم بالذبح، وحرم الله عليكم ما ذبح قربة للأصنام.

ومن المحرمات ـ أيضا ـ نهيه صلى الله علية وسلم عن أكل: (لُحُومِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَعَنْ الْمُجَثَّمَةِ، وَعَنْ الْخَلِيسَةِ).

قوله: (عن كل ذي ناب) أي عن أكله (من السباع) أي سباع البهائم كالأسد والنمر والفهد والدب والقردة والخنزير (وعن كل ذي مخلب) بكسر الميم وفتح اللام (من الطير) ما يقطع ويشق بمخلبه كالنسر والصقر والبازي وغيرها. (وعن لحوم الحمر) بضمتين جمع حمار (الأهلية) أي الإنسية ضد الوحشية (وعن المجثمة) أَنْ يُنْصَبَ الطَّيْرُ أَوْ الشَّيْءُ فَيُرْمَى، (وعن الخليسة) أي المأخوذة من فم السباع فتموت قبل أن تذكى, وسميت بذلك لكونها مخلوسة من السبع أي مسلوبة من خلس الشيء: إذا سلبه.

ومن الأطعمة الحلال: الجاموس والبقر والغنم، والخيل، ومن الطيور: الحمام والبط والأوز والسمان ...الخ . ومن البحر : الأسماك ... الخ .

ـ ويدخل في الطعام الشراب ، ويجب أن يكون حلالا لا شبهة فيه .

ـ وأما كون الطعام طيبا في جهة كسبه موافقا للسنة والورع : أي لم يحصل عليه صاحبه بطرق غير مشروعة، من السرقة والاختلاس والتزوير، والنفاق والكذب، وأمثال هذه الطرق، التي أصبحت بكل أسف منتشرة كثيرا، وهذا الطعام وأمثاله تكون نتيجته كما وضحها صلى الله عليه وسلم بقوله:
(إِنَّهُ لا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ).

ولا يكفي أن يكون الحصول على الطعام بالطرق المشروعة، وإنما أيضا في إطار من الأدب والورع والعفة، بمعنى أن تكون هذه الطرق فيها من الوضوح والشفافية ما يجعل صاحبها يتحرى الدقة في الحصول عليها، من أجل تحري الحلال، وأن يترك أدنى شبهة ويبتعد عنها، وأن يكون منهجه هنا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ) وقال:(لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ).

واقرأ أيضا :

مع التفكر وعجائب المخلوقات في تراثنا الثقافي



الكاتب: د.عبد الباسط السيد مرسي
نشرت على الموقع بتاريخ: 04/10/2005