إغلاق
 

Bookmark and Share

الاختلال الوظيفي الزواجي، الانفصال والطلاق(4) ::

الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/09/2008


الاختلال الوظيفي الزواجي، الانفصال والطلاق(3)

الأسرة ذات الوالد الوحيد
يميل الكثير من الباحثين للتفكير في ظاهرة الأسرة ذات الوالد الوحيد على أنها شكل معاصر أخير، مختلف لحياة العائلة خاصة في أوربا وأميركا.
لذلك يدهشنا أن نعلم بأنه بين عام 1900 - 1910 عانى كثير من الأطفال من تمزّق الزواج في العائلة، هؤلاء الأطفال نسبتهم أعلى من الذين عانوا بين عام 1950 - 1960. كان السبب الشائع لتمزّق الزواج في العقد الأول من هذا القرن هو موت أحد الوالدين، وفي الوطن العربي كان السبب الشائع لتمزق الزواج في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرون هو الموت بسبب الحروب وفي الثلاثينات من القرن المنصرم كان السبب في كافة أنحاء العالم هو تجوال الآباء وبحثهم عن العمل مخلفين غالباً العائلة خلفهم بعد ذلك في الأربعينات من القرن المنصرم أُخِذَ الآباء للقتال في الحرب العالمية الثانية، أما الآن في الغرب عموماً فنرى الآباء يتركون العائلة بشكل متزايد، لكن بسبب الانفصال بين الزوجين والطلاق.

وللدقة أقول أن 20 % تقريباً من كل الأطفال تحت سن 18 سنة يعيشون مع أحد الوالدين فقط في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، ونصف هؤلاء الأطفال على الأقل قد عانوا من مشكلة طلاق بين والديهم. وفي الـ 25 ـ 30 سنة الأخيرة قام الكثيرون بالدراسة والتأليف حول تجربة كون الفرد والداً وحيداً، ومعظمها كانت تشير للمرأة، لأن 90 % من بيوت الأسر وحيدة الوالد تدير شؤونها الأم عادة. وفي الماضي كانت المحاكم كلها تقريباً تمنح الوصاية للأم في العالم الغربي. وأما مؤخراً فقد بدأ الآباء يسعون للوصاية على الأولاد بصورة متزايدة في الغرب، وقد تضاعف عدد الأسر التي يديرها الأب بمفرده مرتين من 1970 ـ 1981، وأكثر من ثلاث مرات في عام 2000، ومن المحتمل أن يستمر هذا بالزيادة لأن كثيراً من الدول الأوربية والولايات في أميركا تسنّ قوانين الوصاية المشتركة بني الأم والأب. وهذه الظاهرة تشير إلى أن المجتمع يغير وجهة نظره القاسية حول كون الأم فقط هي المربية القادرة والمؤلهة.

أما في العالم العربي والدول التي تعمل بالقوانين المستوحاة من الشريعة الإسلامية فحق الوصاية هو للأب عادة ولا يمكن للأم أن تكون وصية على أطفالها إلاّ في حالات نادرة جداّ، أما الحضانة فهي للأم حتى سن معين (يختلف هذا السن من بلد إلى آخر وبعض الدول تعتبر فترة الحضانة هي تسع سنوات للطفل وأحدى عشر سنة للطفلة) مع مراعاة مشاهدة الأب لهم برعاية قانونية، وبعد هذا السن تُسلم الأم الأطفال للأب أيضاً مع مراعاة مشاهدتها لهم بشكل يبيحه القانون أيضاً.

دُرست المشاكل التي تنشأ حول الوالدية الوحيدة من قبل Schlesinger - Ilgenftitz ووجدا المشاكل التالية:
(صعوبات تتعلق بتربية الأولاد، الاهتمامات الجنسية، العداء تجاه الرجال، الخوف أن يصبحن وحيدات، تردّد وحيرة في إعادة بناء علاقات اجتماعية، صعوبات مالية، وفقدان احترام الذات مترافق مع إحساس بالعار والإخفاق،…). وإن مشكلة دخل الأسرة له تأثير كبير فقد وجد هبوط حقيقي وجوهري في الدخل في أثناء الطلاق، وتبيّن أن 25 % من المطلقات أو المنفصلات أو الوحيدات يحتجن لتلقي دعماً من أجل أطفالهنَّ.

ولقد تبين من دراسات Hethering, Cox, and Cox أن أفراد العائلة ذات الوالد الوحيد أقل تنظيماً وأكثر قلقاً وغضباً ورفضاً من قبل الغير وأقل كفاءة من ذات الوالدين، ووجدا أيضاً تناقصاً في التنظيم الوالدي وفقدان السيطرة الوالدية على الأبناء. إلا أن دراسات قليلة في أميركا وجدت الوالدات الوحيدات متفوقات مسـيطرات وذوات نمو عاطفي جيد، وأن الآباء الوحيدين يشعرون بقدرات ودوافع إيجابية عندما يكونوا وحيدين. ولكن تبين أن هؤلاء النساء والرجال كانوا أكبر سناً، جيدي الثقافة ومتزوجين لفترة أطول، وقد تربوا هم أنفسهم في ظلّ والدين صحيحين، وإن تمثلهم مع والدين قديرين كان أحد العوامل التي أدت لحصولهم على الوصاية على أطفالهم.

مهمة إعادة استقرار العائلة
ليس من المستغرب لأي شخص سواء أكان باحثاً أم شخصاً عادياً أن يعرف أن السنة الأولى التي تلي الطلاق هي الأكثر صعوبة بالنسبة لكل أفراد الأسرة. ولننظر في بعض هذه المشكلات الرئيسة في هذه العملية:
إحدى هذه المشكلات هي استمرار الرباط الزوجي، فالمتوقع من الزواج هو أن تتأسس علاقة قوية حميمة شاملة لكل شيء. لذلك فهذا الرباط المشترك من العادات والتصرفات والتجارب لن يمحى بسهولة، وهذا الرباط المشترك يجذب للعودة إلى الوراء إلى وضع ما قبل الانفصال، وإن هذا السلوك غير مرتبط بالحب أو الاحترام أو الإعجاب الذي يكنّه كل شريك للآخر، بل هو الخوف الشديد من الوحدة، لذلك نادراً ما تكون تصرفات الأفراد في هذه المرحلة عقلانية، وكثيراً ما يتصل الشريك بشريكه تلفونياً لمناقشته بأمر الانفصال.

وقد يصل بالأشخاص غير المتزنين لمحاولة الانتحار وإحداث كارثة أحياناً. وهذه المحاولات للتمسك والتعلق بالشخص المنفصل شيء طبيعي، لأن هناك خوف شديد من الوحدة يعاني منه معظم الناس في انفصالهم الأول.

وعندما يحدث الانفصال، وتشقّ الحقيقة طريقها إلى مستوى الإدراك، يبدأ حدوث مجموعة استجابات:
1. الميل للتفكير حول الشخص المفقود، مع تذكر الأيام معه، والنزاعات والنقاشات وما حدث من أخطاء في العلاقة.
2. الحاجة لتحقيق اتصال مع هذا الشخص المفقود باختلاف حجج وهمية، مثل ذلك أن هناك عطل في الحمّام أو المطبخ أو الكهرباء وتتصل لتسأل عن عنوان السمكري أو الكهربائي.
3. الغضب من الشخص المنفصل، وبالنسبة للأطفال، الغضب على الوالدين كليهما.
4. الشعر بالذنب وإلقاء سبب الانفصال على الذات "ربما كان خطأ أن أفعل هذا، ربما لم يكن عليّ أن أتمسـك برأيي".
5. ظهور "تفاعل الإنذار Alorm Reaction" أو فرط الحساسية تجاه الرغبة في عودة الشخص المنفصل "فإذا رنّ الهاتف هل هو الذي يتصل".
6. استمرار حدوث تخيلات مثل "ربما في المستقبل سنعود لبعضنا، أو لسـنا مسئولون عن حدوث هذا لم يكن خطأنا". والأطفال خاصة يكون عندهم تخيلات شديدة حل إمكانية عودة الوالدين لبعضهما مستقبلاً.

وعندما تزول مرحلة الكرب الشديد والتي قد تستمر لمدة سنتين تبدأ مرحلة الانعزال الذي يشبه الاستيقاظ من نوم عميق، بتذكر الأصدقاء والأطفال والعالم المحيط، وتخفت مشاعر الغضب وتعود مشاعر العطف والرقة للظهور، وتعود الحياة لطبيعتها الروتينية السابقة، وهذا كله يسبب تناقضاً لما حدث.

ثم تعود الذكريات الجميلة إلى الذاكرة والخيال، واللحظات السعيدة التي حدثت قبل الانفصال، فقد تظهر تخيلات حول نهاية أسبوع سعيدة أو يوم عطلة تقضى مع الزوج، أو ترتيب موعد غداء معه، وقد يظهر ضد التناقض على شكل اهتمام بارتباطات الزواج بعد الانفصال، وحدوث دفعة من الغضب إذا أحدث علاقة جديدة.

وكثيراً ما يعبر عن هذا التناقض بطريقة أكثر مباشرة عن طريق معاملات الطلاق، وتسوية بعض الأمور التي طالت ولم تجد حلاً. وقد يعاني الأطفال أيضاً من هذه المشاعر المتناقضة عندما تبدأ حياتهم بالاستقرار، فهم يعرفون أن حياتهم ربما أصبحت أكثر استقراراً وراحة من السابق، ولكن بالمقابل يهتمون بالإبقاء على علاقة مع الوالد المنفصل، وقد شاهدنا كثيراً من القصص التي تبين أن الأولاد يحبون دائماً رؤية الوالد المنفصل، وإن كان ذلك بفترات متباعدة وبعد زمن طويل من الانفصال.

بعض القضايا الخاصة المتعلقة بالوالد الوحيد والأولاد

التأديب
إن تأديب الطفل ليكون ذو خلق جيد هو أمر ليس باليسير إن لم يكن صعباً، سواء عند وجود والد وحيد أو عند وجود الوالدين.
ورغم وجود صراعات ونزاعات حول مواقف تربية بين الوالدين أحياناً إن لم أقل غالباً، فإن الطاقة المتطلبة من قبل والد وحيد ليكن قادراً على إنشاء وتعزيز الخلق الجيد عند أطفاله هو أمر شديد الصعوبة. فالوالد الوحيد لا يستطيع أن يقول لابنه: "اذهب واسأل والدك الثاني" وكذلك لا يوجد من يمتص الغضب الناشئ بين أحد الوالدين والطفل حول موقف تربوي معيّن، هذا الامتصاص الذي يقوم به عادة الوالد الثاني.

إذ أن الطفل في العائلة ذات الوالد الوحيد لا يملك الفكرة الوهمية التي تريحه عادة: "إن أبي يحبني في جميع الأحوال". عندما تكون الأم هي الظالمة مثلاً بنظر الطفل والعكس بالعكس.
إن هذا الامتصاص للغضب هام أيضاً للوالد الآخر، خاصة إذا عرفنا أننا كأهل قد نقع من فترة لأخرى في فخ صراعات مراحل تطورنا النفسي السابقة، والتي تلعب دوراً في طريقة تنشئتنا لأطفالنا. وإن الميل ليكون الوالد شديد التساهل أو شديد الضبط لأولاده هي أمور صعبة بغياب الوالد الآخر. وكذلك فإن تأديب الأطفال وإنشاء خلق جيد عندهم هو أمر صعب بالنسبة للوالد الآخر الذي لا يراهم سوى لفترة محدودة.

انتحال ادوار معترضة اجتماعياً لأشخاص آخرين
الوالد الوحيد يصبح عليه مهمة شاقة في انتحال دور الوالد الآخر. فبالنسبة للمرأة مثلاً، عليها أ ن تقوم بدور الأب، لكي تضبط المنزل وتقوّم سلوك الأولاد، وبما أن الأم غالباً ما تتمنى أن تكون هي مصدر الدفء والحنان والرعاية للأولاد، فهذا يخلق مشاكل كبيرة عاطفية بالنسبة للأم، وبالنسبة للأولاد وأيضاً، وكثيراً ما يقول الأبناء لأمهم حينئذٍ: "أمي، إنك تبدين كأب وليس كأم".

خاصة بالنسبة للأطفال الصغار، فإن أدوار الأب والأم تصبح غائمة وغير واضحة في العائلة ذات الوالد الوحيد، رغم حقيقة كوننا نعيش في عصر يسهل تبادل المهمات والأدوار فيه.
تعزيز هوية الأطفال والأهل.

إن الطفل في العائلات المختلفة بين الجنسين، بين والده ووالدته. وفي كثير من الأحيان يكون التمثل أكثر عمقاً من مجرّد أن الذكر يفعل هذا، والأنثى تفعل هذا، وإن الطفل بحاجة إلى ما يمكن أن ندعوه المرجع الشخصي Personal Reference، وهذا يعني أن يعرف أن أبي يحبّ هذا ولا يحبّ ذاك ويفعل هذا ولا يفعل ذاك، بينما أمي تحبّ ذاك لا تحبّ هذا، تفعل ذاك لا تفعل هذا، وهذه مشكلة كبيرة لأن الطفل، خاصة في النصف الثاني من العقد الأول، عليه تحديد الأدوار والهوية الجنسية، فعدم رؤية ماذا يفعل الجنسان المختلفان سيخلط الأمور عليه.

وأذكر طبيبة من زملائي في الدراسة الجامعية، اتصلت بي تأخذ رأيي بكيفية تدبير التعامل مع طفلها، وكانت قد انفصلت عن زوجها وحدثتني عن موقف مع طفلها قائلة: (سألني ابني ذات مرة عندما كنت أضع أحمر الشفاه والزينة على وجهي،... هل سأصبح فتاة عندما أصبح في السادسة".. وعندما استفسرت منه عن الأمر، لم يعرف الجواب وارتبك فعندها أفهمته أن الصبيان لا تتاح لهم الفرصة ليعرفوا كيف يتصرف الأب عندما يستعد للخروج، فكل ما يفعله هو حلاقة ذقنه وتمشيط شعره وتنسيق ربطة عنقه. وأحسست بصعوبة أن يتمثل هذا…).

هل يجب أن يكون الوالد الوحيد رجلاً أم امرأة خارقة؟. فهل يجب مثلاً أن تتعلم الوالدة كرة القدم أو أن تكون شرطية،...الخ؟. وهل يجب على الوالد أن يتعلم الطبخ والجلي وغسل الملابس وكيها وحياكة ستائر المنزل... الخ؟.

فكل والد وحيد يشعر بالذنب أو بالخوف، لأن بعض الفعاليات لن تجري كما كانت تجري سابقاً قبل الانفصال. وربما كان الأفضل والأحسن للأطفال أن يعرف الوالد حدوده إمكانياته فتقول الأم مثلاً: "أنا لا أحبّ أن ألعب كرة القدم، ولكن لآخذك مثلاً عند خالك كي يلعب معك" أو "لا أستطيع أن أصنع لك الحلويات، لنذهب ونشتريها من الخارج" فمثل هذه الأمور تساعد الطفل على تمثل شخصيته، وأن تمنحه شعوراً واقعياً لإمكانياته.

فائدة الدعم الاجتماعي
يمكن لهذه الفائدة أن تحدد بمهمتين:
أولاً: تأمين مصادر دخل مادية في حال وجود ضعف وارد مادي، وعدم إمكانية الوالد الوحيد تأمين مصدر مالي زائد عن هذا الذي يستطيعه.
وثانيا: تأمين علاقات اجتماعية مفتوحة مع أهل وأطفال من عائلات أخرى ذات والد وحيد.

ويلاحظ أن الأطفال لهم دور كبير في هذا، فهم الذين يسعون للتعارف على الأطفال الآخرين، ومهمة فسح مجالات تعارف بين أهلهم المطلقين، لذلك نجد أن المطلق الذي ليس عنده أولاد، يجد الدخول في علاقات اجتماعية أصعب من المطلق الذي عنده أولاد.

ملاحظات هامة
إن الوقوع في الحب مجددا لا يمثل أمراً بسيطاً هنا كما هو الحال عند الشباب والفتيات، وعندما تتم الاتصالات الهاتفية والمغازلة على مرأى ومسمع الأطفال فإن الأمر يزداد تعقيداً.
وإن موضوع إقامة علاقة عاطفية أو جنسية عقب الانفصال أمر يستدعي التفكير العميق، والإحساس بشكل خاص بوجود الأطفال. لذلك فالشخص الجديد القادم الذي سيحضره الوالد أو الوالدة كشريك لحياته، هو شخص لا يعرف عنه الطفل شيئاً، وسيراه على علاقة مع أبيه أو أمه، ولا يفهم معنى هذه العلاقة وطبيعتها، سيقوم بطرح أسئلة عديدة شعورياً أو لا شعورياً: "كم سيبقى هذا الشخص معنا؟ هل يجب أن أبذل جهدي للتعرف عليه؟ هل سيبذل هذا الشخص جهده للتعرف عليَّ؟. هل سيتحكم هذا الشخص بعواطف أمي؟. ماذا سيكن ردّ فعله إذا تصرفت معه بشكل شقّي، أو على العكس بطريقة ودية؟ بأية طريقة ستتغير حياتي؟ وهل سأتمكن من رؤية والدي المنفصل؟".

قد يتدخل الأولاد بحد ذاتهم فيسألون "أمي هل ستتزوجين منه؟ إن الرجل كذا ظريف ولطيف لماذا لا تتزوجين منه؟". فعندها لا بد من التكلم معهم عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة وفق عمرهم أو الاستعانة بالأخصائي، لتوضيح مفهوم الزواج وخاصة موضوع مشاركة الحياة، ومبادلتهم الأفكار والمفاهيم حول طبيعة هذه العلاقة.



الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 10/09/2008